النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد
عبد المجيد الهواس: الليالي البيضاء (قصص)

حلم الجدار الأول

 

 

لم يكن «س» قادرا على مواجهة صخب الصراخ المتوثب في ذهنه، منذ اللحظة الأولى التي ارتمى فيها على كرسي المقهى الذابل على الرصيف. فقد كان اكتظاظ الشارع يفلق الرأس بالوجع، وعلى الجدار المقابل للرصيف كان "س" منذ أكثر من عشر سنين قد رسم علامة صغيرة أشبه بجسد عار بلا ملامح واضحة. كان الجدار لا يزال نقيا ومغريا بالاقتحام، ولم يكن قطعة الفحم قادرة على إطفاء شهوته في تبني جسد أنثوي على الجدار. صار على مر الليالي الحالمة يغرس السواد القاتم في فحمة ذهنه التي ظلت صامدة حتى هذه اللحظة.

كانت العلامة القديمة ممكنة البزوغ من بين الأجساد التي تذهب وتجيء. وتخيل في لحظة ما أن بصره صار عاجزا عن اختراق هذه الأجسام المتحركة للتركيز على علامته الصغيرة التي اختنقت وسط خربشات عديدة لآلاف الأيادي التي اشتهت بياض الجدار بعده، وراحت تكتب علاماتها المتنافرة.

أرخى رأسه على حافة الطاولة التي احتضنت قدح قهوته الساخنة، وترك قطعة السكر تنزلق ببطء داخل مشروبه الفحمي، ثم لاحظ وهو يضع قطعة سكر ثانية على شفة الكأس كيف امتصت القطعة الصغيرة البيضاء قطرة السائل الذي امتد في جسدها الإسفنجي يرسم دون هدف نفس العلامة الصغيرة التي تكورت في جسد أنثاه الصامدة في قبل الجدار.

عشر سنين مضت الآن، ولم يكن «س» لحظة الرحيل الأول قد ترك لهذه البلدة الغيرة غير خطوط فحمية عالقة على جدار. بيد أنه كان قد حمل في داخله كل اشتباكات المدينة كقصة مصورة رسمها طفل صغير بألوان مائية صامتة، كان حين يقلب تلك الصفحات المصورة تتهشم في ذهنه مراياها، وتبدو له البلدة من خلف التذكر لحظة انفجار طبيعي لغيمة جميلة اقتحمتها سكاكين زوبعة رملية. ثم كان ينسى كل الانكسارات التي طوحت به في البعد ويتعلم في صمت رسم أنثاه المليحة التي تضيء البياض.

حين سافر «س»، لم يكن بعد قد تعلم تلك اللغة المستفزة الناضجة التي كان يسميها "السقوط"، لكنه راح يتعلم بساطة الاغتراب أمام سلطة تشكيلات الفحم على الجدار. كان في ظرف سنة من التنقل بين سكن وآخر قد وجد غرفة صغيرة وبسيطة تطل شرفتها على شارع طويل يتمدد في البعد كطريق غابوي تنتظم فيه الأشجار. كان يرى لظلال الشجر على جدران البنايات امتدادات عميقة لغابته التي رسمها في قصته المصورة. في الأصل لم تكن الأشجار موجودة. يذكر فقط تفاصيل جذوع مجتثة في شارع بلدته، وتقابل رصيف المقهى المهترئ مع جدار حلمه الأول.

كانت شرفته الصغيرة على منحه كل تلك الأسلحة الكافية للدفاع عن أنثاه... يجلس فيها حالما تحت مطر الليل. وتبرز قبالته في الأسفل، قليلا ما بين الشجر، واجهة متجر زجاجية تكشف حمامات رخامية معروضة للبيع. ينهض نم جلسته كل ليلة، ويثب إلى الشارع حين يخلو تماما من الحركة، ويقفز إلى زجاجات المتجر التي تكشف له عن ذلك الحوض الرخامي المستدير الذي يقف على جنبيه عمودان إغريقيان لا متناهيان حين يلتصقان في السقف بمرآة. تنقل ثلاثة أدراج صغيرة نظره من الحوض إلى البلاطة الرخامية الصافية، ثم تمتد البلاطة عميقة في مرآة جانبية. في عمق هذا البياض الثلجي – حين تختمر في ذهنه نكهة القهوة العبقة – يضع فنجانا أبيض، ويبدو سائل القهوة في الفنجان نقطة سوداء، تتحول حين يغرز النظر فيها ثقبا أسود قاتل الإغراء يتوسط مساحة البيضاء اللامتناهية. ثم يتدفق رشاش الماء بشلال فوضوي يغرق الحوض بموسيقاه الفاتنة. يخترق «س» الزجاج، ويكون لحظتها قد تخلص من كل أغطيته. ثم يتربع أمام فنجان قهوته مقابلا حوض الماء الفائر. يغرس أصبعه الفنجان، ويخط على البلاطة في انحسار غامض علامته الفحمية السوداء.

تدق طبول إفريقية في عمقه، فينهض مخمورا برقصة بدائية تتحول ببطء إلى انجذاب لا مرئي نحو جسد أنثاه، فيندمج فيه بكل انتصاراته البيضاء، ويسقط في نهاية الشهور مجنونا بحوض الماء.

كان الحلم رغم بساطته معرضا لكل المضايقات الخانقة، إذ في صباح ما استيقظ «س» على غير عادته من حلم مزعج ارقه طوال الليل، فتح البوابة الزجاجية للشرفة الضيقة، وأطل بعينين نصف نائميتن. كانت الألوان داكنة، وأصوات بعض الأقدام تعبر الرصيف، فترتفع خشخشات الأوراق الخريفية إلى مسمعه. كان الفصل الداكن يصعد إليه، وأطل من بين ثنايا الشجر على واجهة متجر الحمامات البيضاء، فتبينت له حركة ظلال مفاجئة بالداخل، وأصوات ارتطامات بسيطة. ثم تدفق في مسمعه صوت الشلال المائي متقطعا وصاعقا وبسرعة مذهلة ارتدى قيمصه وبنطاله ونزل الأدراج إلى الشاعر ليرقب المشهد عن قرب. كانت أدوات البناء الحديدية تشتغل في اقتلاع قطع الرخام البيضاء. وحبال مربوطة تشد العمودين الإغريقيين وترفعان الحوض. الرجل الضخم الذي لاح له في انعكاسات المرايا متعددا وناشزا، كان يشير على العمال بأن يحترسوا من أن تنشرخ مرآت أو أن تنخدش قطعة رخام. وأحس بعنف هذا الاعتداء الذي لم يترقبه. كان رغبته قوية في أن يتدخل، لكنه كان خارج الحلبة، وكان زجاج الواجهة يبدو سميكا جدا وقد فقد كل تلك الشفافية التي كانت تتيح له ذلك الانتقال المقدس عبرها. أنت العلامة في داخله، وانفجر صوت الجسد الخفي بالصرخة الجريحة، واعتلى الطعم جرفه. بيد أن رجلين أنيقين لحاله بالداخل.. يأتي الصوت منهما خافتا ومعدنيا. عنيفا أيضا وهما يشرفان على عملية نقل قطع الرخام إلى الخارج.

ثم في لحظة ما انتبها إلى قطعة رخامية في الوسط.. لاحت مثيرة تلك العلامة المرئية الشفافة، ناضجة السواد وفاقعة، أمسك بها عامل وراح الرجلان ينظران إليها عن قرب... صوت صاحب المتجر خرج صاخبا وأكثر معدنية : «غيروا هذه القطعة..» وكان العامل يحاول أن يمرر يده فوق القطعة عمل العلامة مجرد لطخة سوداء يمكن محوها، لكنها بدت راسخة في عمق البياض. وكان وببساطة يضعها جانبا ويتبع الرجلين إلى الداخل، تخيل «س» حديثهما عن الرخام ومحلات الاستيراد، وربما دار الحديث عن الرخامة ذات الجلطة السوداء. لكن وحده العامل كان قد نظر إلى الرخامة بصفة غريب، وكانت عيناه تبتسمان لسحر ما كان يجذبه خفية إلى معالم الأنثى الراقدة في البياض قبل أي يضع الرخامة جانبا ويلحق بالرجلين.

لهث «س» خلف الزجاج، ولم يحمله هذيانه على الصراخ علنا أو انتزاع رخامته من وسط الأنقاض المتبقية.. وقف دون هدف، ثم تحرك بانكسار إلى شرفته. وكان يرى في منتصف النهار نفس العامل يحمل تحت إبطه قطعة الرخام ويقطع الطريق في فرح وزهو ويمضي...

مر النهار خريفيا تماما... الأشجار اختنقت في الشارع الذي التهمته البنايات من الجانبين.. كان مشهد المتجر يبدو من العلو الشرفة خرابة قاتمة بحلقت فيها عينا «س» حتى انشرختا، ونهض ينتفض عند قدوم الليل ليخترق الطرقات التي تفرعت عن الشارع إلى أمكنة لم يرتدها من قبل. استيقظ في عمقه حلم الجدار الأول. نقاء البياض وحزن البلدة الصغيرة التي استأصلته... الرحيل الشهواني عبر بياضات المدن المطاردة، الجدارات الشاهقة الصغيرة وقطع الفحم والأصابع المرتجفة التي تضغط الألوان.. ثم لحظة الرقص المقدس في صفاء الرخام... عري الجسد والقهوة السوداء القاتمة.

بدت له الطرقات مقفرة وناشزة، وانهزم في داخله الكائن الموحد، فقفز على أول سيارة أجرة مرت بقربه لتحمله إلى أبعد مرقص ليلي يوجد بالمدينة.

انزلقت عشر سنين الآن.. العلامة السوداء، المنتبهة للبياض، الزاحفة في الصدر، الهاربة، تنام تستيقظ وتطير... وجه «س» المختل الفصيح، الغامض المتماسك تضيع منه الأشياء.

يتذكر الجير الأبيض حين كان يدفن العلامات، الجدارات المتمردة التي كانت تغتال فيها نشوات الصرخة الملونة بطلاء ينشد أمن المدن ونقاءها. التعبيرات البسيطة تقتل أو تعتقل، لكن الأيدي الصغيرة الطفلة لا تموت فيها الشهوة.

كانت الضوضاء ترتفع قليلا عند مدخل المرقص... نزل «س» على وجوه نساء قليلات يتأبطن أذرع الرجال. بعض الضحكات المتداخلة بموسيقى متلاشية تصدر من الداخل. استقر على مقعد جانبي، ولم يبد نشوانا من زجاجات الجعة الأولى، ولم تراوده فكره الانضمام إلى حلبة الرقص. كان يجيل النظر بين الوجوه المستديرة باحتراس شديد، عيناه مشرقتان غائرتان ومفتوحتان.. يجلس على حافة الكرسي في وضع غير مربح. أو ربما كانت الوضعية جد مريحة: جلسة المتأهب الواثب، تخترقه إيقاعات الطبول التي كانت تقود بضع آلات وترية ثم كانت ذوب كل الأنغام الوترية وتتقلص ليصهل في عمقه إيقاع الطبول ونكهة الجعة الباردة.

لم يألف «س» إلا بصعوبة كبيرة المشهد الدائري في حلبة الرقص، واستأنس في غماره بالشرب، وراح يطلب مزيدا من الجعة ومن القلق حتى صار كل شيء يلعب في ذهنه. العلامة السوداء التي حاول أن يعلقها على بعض الفساتين البيض المهتزة فوق أجساد تتراقص في الحلبة لم تكن فاحمة بالقدر الكافي كلي تلتصق ببياض ما، وكانت العلامة ترتسم من جديد، بشكلها بقوة أمام عينيه ويلاحق جسدا أبيض ليرسمها عليه، تهتز العلامة، تسقط في داخله ويحتسي الشراب، تهتز أيضا ثم تسقط.

كان مستعدا للبكاء وللإفلاس، ولم تراوده فكرة الرقص أو التحول من جلسته المتوثبة إلى موائد النساء. الحر كان رهيبا وجبين ينزف باستمرار. فكر إن لم تكن هناك مكيفات هواء، ثم رأى الرخامة البيضاء تنزف بالعرق، والآلات الحديدية تقتلعها ورشاش الماء يسكب رذاذا ساخنا ومالحا تطلع منه روائح كبريتية عنيفة. لكن يدا باردة حطت على عنقه. انتفض فجأة واستدار. لاحت له ابتسامة هادئة من وجه أنثى بدت خجولة وممتقعة، ما أن نظرت إليه حتى اعتذرت وهي ترد يدها إليها، نظر في عينيها ودعاها للجلوس. استجابت للدعوة رغم أن الاضطراب جعل صوتها باهتا وهي تحاول أن تشرح له الموقف.

كانت المسألة بسيطة جدا. إن جلسة المتوثب كانت موهمة، وكانت ككل ليلة تنتظره في نفس المكان. يجلس أيضا هكذا، على طريقة «س» المتوثبة.

في العمق كانت الجلسة استرخاء لا شعوريا واندفاعا نحو الرؤى المجنونة التي تلهب الروح. عيناه هو الآخر كانتا تبرقان بالنظر اللامركز على شيء محدد توحيان بالغياب وبالنظر العميق نحو الداخل. الغياب انتباه إلى ملامح أخرى. كان لا ينتبه إليها وهي تطلع من الأمام، فتأتيه من الخلف وتضع يدها المثلجة على عنقه، يقوم إليها ويتركها تثب أمامه على المقعد المقابل. لكنه تغيب الآن، وجلس «س» على نفس الطاولة وبنفس الطريقة. كان عليها أن تبوح له أو لـ «س»: «إنني لست هو » ونظرت إليه نظرة المكتشف: «لقد بدوت لي كما لو كنت هو...!» واسترخى "س" في مقعده، وبدا كمن يود أن يغير جلده، لكنه أحس بقلق من الوضعية الجديدة. عاد لكي يثب: «إنني لا أعرفه، ولكني لا أومن بالشبه...» كانت تبتسم وترد بحركة رشيقة خصلات شعرها الساقطة فوق نصف الجبين إلى الخلف: «لا يهم الشبه، لكن كأننا كنا على موعد، أو أننا تصادفنا ... كما كنت معه، أشعر معك الآن بنفس الإحساسات الجميلة التي تبعثها في نظراته». كل شيء كان يرتبط عنده النظر، والنظر التائه في الداخل والعميق... السهر مع العلامة السوداء ومراقصتها ببدائية ثم تعميقها في البياض. النظر إلى البلاطة، والخمار الأسود الذي يلهث داخله الجسد، ويرتمي في الامتداد. نقطة العين السوداء بدت له تلتهم بياض عينيها، والرموش اسودت أيضا. إن العلامة السوداء كانت ترتدي خمارها فلا تكشف عن الملامح المتبقية. ربما كان الخمار يخفي داخله جسدا من مرمر، يتحرك يهتز ويرتمي في المساحة الثلجية اللامتناهية؟

ثم بدأ يعاكسها في العمق: «إن مشروب الجعة يزيد من حدة العطش والحر هنا قاتل...» أجابته وهو يمسك معصمها برفق: «إن مطرا رطبا وشهيا يسقط بالخارج. دخلت هنا أبحث عنك، أو... كنت أبحث عنه لنسير قليلا تحت المطر...» كان «س» يعشق الأنثى التي تستحم بالمطر، لكنه لم يكن يؤمن بالتشابه، فأنثاه كان شيئا آخر، مجنونة غامضة وعاشقة صعبة، تحلم بكل المستحيلات المدركة، وتنضج في ليل الرقصة البدائية على الرخام الثلجي تحت نوافير الماء البارد.

احترست منه واحترس منها، لكنها تكومت إلى جنبه وتمسكت بذراعه السكرانة. قالت له: «إنك تتمايل أكثر من اللازم...!» وأجاب دون انجذاب: «لقد سرقوا مني العلامة السواد. وهذا سبب مقنع للتلاشي... إن غرفتي على بعد كذا.. ربما نأخذ سيارة أجرة...». كانت أنفاسها محمومة على عنقه، وكانت تلوذ بالصمت حين تستجيب لدعوة الرغبة الغامضة.

و«س» اخترق الليل معها وراحا معا في الأزقة المظلمة يتقاطعان الكلام ويختلسان المطر. كان فستانها الأبيض المبلل يكشف أمام الأضواء القليلة المتنافرة جسدها النحيل المرتجف. وكانت تحتمي به أكثر فيسقط رأسها على كتفه وتسأل : «أية علامة سرقت منه؟؟». «شيء لا يمكن الحديث عنه .. زنجية كانت هي، أو جسدا مرمريا يتنكر تحت خمار أسود... جمرة تلتهب بين الأصابع. أضعها على البياض فتصير فيه كالوشم.. دوائر.. خطوط تتقاطع، تقف وتنحني. صوت مبهم وحشي داكن يقف كالرمح يخترق ويستمر في الدم..» ثم يضحك «س» وترتفع ضحكته في الظلام.. تبتل الضحكة ويرتجف جسدها من جديد تحت ذراعه، ترتجف الأزقة أيضا والشارع الطويل، ثم يقفان تحت الأدراج ويصعدان معا إلى فوق. تنزلق قدماه على الأدراج مع انزلاق الماء من حواشي حذائه الذي امتلأ بماء المطر.. وطيق كعب حذائها، تنزلق قدماه على الأدراج مع انزلاق الماء من حواشي حذائه الذي امتلأ بماء المطر.. ويطق كعب حذائها، تنزلق قدم أخرى ويبدو ليل الادراج اسودا فاحما ينتهي عند مدخل الغرفة.

حين ينظر «تنحصر أمامم عينيه مساحة البياض، وكان المطر قد ألصق الثوب بالجسد.. وصار البياض جسدا.. الجسد نحيل يرتجف.. البياض يرتجف والعلامة السوداء تتحرك في الخفاء. وكان يتركها ترتمي على السرير، ثم تنهض بعد ثوان لتشغل شريط تسجيل، فتنطلق موسيقى الأرغن، وتقف أمام باب الشرفة تنظر إلى الظلام المنحسر في الخارج والممتد عميقا نحو كوة المتجر الذي لا يظهر في الظلام، ثم تستدير نحوه، وكان «س» قد نزع حذاءه، وخلع قميصه المبتل. تمتد ذارعيها إليه، أو تخيل «س» أن ذراعين خفيتين انطلقتا من نفس الجسد، ومد ذراعيه إليها خفيتين ايضا من دون أن يتحرك. كانت الوقفة ذهولا منتصبا دون كلام. وحده «باخ» كان يعزف.. وتعانقا في الوسط، ولم يكن جسدها مبتلا.. كان ثلجيا كالضوء متشكلا من رأسها حتى قدميها بكشل العلامة السوداء يهتز في داخله، يتلوى ويتمايل متحركا بالرقصة البدائية الطقوسية. ارتفع صوتها في العمق. ارتفع إلى داخله، حركه بعنف.. سرت رعشة الضوء فيه.. هستيرية كانت الصرخة. كانت اللحظة بلا زمن. نظرت إليه وابتسمت متسائلة : «هل سنقف هكذا؟ ألا تمنحني رداء أغير به هذا الفستان المبتل؟».

صعدت العلامة إلى فوق واختفت، أو ارتدت إلى عمق بصره، وانتبه إليها : «آة!.. أجل ..؟» ومديده إلى خزانة خشب مهتزئة وأخرج منها منامة زرقاء، كورها في يده وقذفها بها، وفتلقفتها في حضنها وضحكت وكورتها من جديد وقذفته بها، وضحك هو الآخر وتبادلا القذف.

لم يستطع «س» احتساء قهوته .. أحس بأن شرب القهوة اعتداء ما على السواد، لكن الأجساد كانت قد تقلصت في الشارع، فبدا الجدار بدائي الصور.. العلامة السوداء ترقد بداخله إلى الأبد، تتحرك وتخزه.. ينظر ويتلاشى النظر .. ينصت للذاكرة المتعبة ولا يستطيع تذكر التفاصيل. كانت الانثى هزيلة في منامته الرزقاء. ضمها إليه فانسحقت في داخله كرحيق الجعة.. صرخت أيضا. ضعط بعنف أكثر. «إنك سكران تكاد تقتلني..» أرخاها من بين ذراعيه فارتعدت وتراجعت إلى الخلف. كان زجاج الشرفة يعكس خرائب المتجر.. بينما انثنت هي على ركبتيها أمام الخرائب وانكمشت في داخلها الشهوة. صرخ «س» تحدث بصوت مبحوح ضعيف. بدالها وجهه متقعا فاترا حزينا، وصوته الغامض عن العلامة السوداء المقتولة مجروحا.. ثم بكى.. !.

صار الشارع خاليا، والمصابيح بدأت تلوح ببعض الأشعة الفاترة. امرأة تمر، تحرك أمامه الجدار ثم تختفي، أو يعبر رجل ما الطريق، ينظر إلى الجدار باشمئزاز ويمضي. البلدة الصغيرة صارت الآن تكبر وتصغر فيها لبيضات.. لكن في ذلك الصباح، صام وترك المرأة نائمة نصف عارية، حزم حقيبته الصغيرة واستجاب للنداء الغامض للسفر.

المدينة/ عشر سنين الآن!. لكن المطر بدأت في التساقط الكئيب. انتفض الرجال الباقون من على رصيف المقهى. ورأى هو الأنثى تتلوى في الفراش، نحيلة وخائبة. رمى عليها الغطاء ونخرج. اشتدت حدة المطر، والنادل في الخلف يرقب «س» الذي تحول إلى قط مبتل عائم يجلس أو يكاد يثب. هب إليه وربت على كتفه. انتفض «س» في اندهاش. فابتسم له النادل برفق : «إن المطر عنيف هنا.. والمكان دافئ بالداخل..» تحرك «س» بثقل وجلس خلف الزجاج يرقب الجدار حتى سقط الظلام.

 

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

  Copyright © 2001 unecma. net