النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد
لطيفة باقـا: ما الذي نفعلـه؟

حسـاء ردئ

 

 كان حساء الليلة الماضية رديئا. فكرت أن أخبر فاطمة بذلك قبل خروجي فقد تحاول أن تعده أحسن لاحقا. بسرعة ارتديت المعطف واندفعت نحو الباب حتى كدت أدوس الطفل. لطمت الباب خلفي وكان الطفل يبكي.

تصطدم عيناي بالشمس في الخارج.. الرؤوس تستقبل الأشعة بكل كسل في محطة الحافلة.. تأتي أخيرا.. وتزحف مثقلة ببشر من درجة معينة متفقون على أن اليوم هو الإثنين وبداية أسبوع آخر.. و

- أي! سحق أحدهم قدمي.

الصباح لله.. سأبدأ أولا بالسيدة صاحبة بيع الأجهزة الكهربائية فقد وعدت أن ترى في الأمر وأخبرتني أنها تستطيع استقبالي في التاسعة صباحا..

وقفت أمام زجاج "الفيترينا" أصلح بعجالة من حال شعري الذي نفشه ركاب الحافلة المنفوشي الشعر.. كل شيء على ما يرام.

- لدي موعد مع السيدة صاحبة هذا المحل. قالت إنها ستستقبلني في التاسعة...

(نظرت إلى ساعة يدي البلاستيكية) التاسعة بالضبط.

الرجل بدين بعض الشيء وأبعد ما يكون عن اللطافة.

- المادام ماكايناش.

- ولكن قد وعدت أن ترى في الأمر وأعطتني موعدا على...

- يمكنك أن تعودي بعد ساعة..

طرأت لي فكرة أن أقوم بجولة في شوارع المدينة أكتشف صباحها.. انفلتت مني ضحكة.. أي صباح وأي مساء وأي.. زفت! تذكرت ابن خالتي الذي يعمل "زفاتا" في مدينة "ليل" بفرنسا.. زفات يعني أنه يأتي في عطلة الصيف ببذلة مستعملة مكوية جيدا حتى تختفي أثار صاحبها الأول الفرنسي بالضرورة.. وبعض الهدايا البسيطة للعائلة.. ولا يتوقف عن الحديث "فرنسا جنة والحياة بها خرافة حقيقية.. العمل موجود.. أجرتك على قدر عملك.. العمر كثير.. لك الحق حتى في أن تعمل عشرين ساعة في اليوم... وتتقاضى أجرك كاملا على كل دقيقة عمل... تصوروا معي... " لكن... وقفت واستدرت تماما. ظل صامتا، إنه يشبه الآن الطفل الذي تورط في عملية " اغتصاب" حارة السي الحاج.. مسكين! نظراته التي كانت وقحة قبل لحظة تتراجع الآن تدريجيا أمام الإنطباع الساخر في عيني...

- ألم تجدوا سوى حمارة السي الحاج؟!

وجدت نفسي أسأله وأنا لا أتمالك نفسي من الضحك …!

السي الحاج هو شيخ القبيلة أما حمارته فكانت سوداء بعيون لامعة، وكان الوقت حصادا.. حين ذهب الكبار إلى الحقول، كان الصغار الأشقياء قد "برمجوا" العيشة.

تقول الطفلة "عيشة" ذات الأنف الأفطس، وهي من ضمن شاهدي العيان، أنه عندما كان الأولاد يخترقون الحمارة بنتوءاتهم الصغيرة كانت "تفرنس" فتظهر أسنانها، كما كانت عيناها تلمعان أكثر من أي وقت مضى. بعد ذلك كانت "أمي عيادة" التي تحب التفكه بمثل هذه الأمور تحكي كيف أن عيون الحمارة أصبحت تلمع بذلك الشكل الغريب وظلت "أمي عيادة" تردد كلما مرت قرب مجمع به السي الحاج: " هم عندي وهم جابتولي حمارتي" فيزمجر الرجل ويسخط عليها وينعتها "بالشارفة الماسخة".

لا زالت أتجول.. مررت أمام مكتبة.. في الواجهة كانت تلوح الكتب التي لم أقرأ بعد.. تذكرت جائع "أيام من عدس".. كان يدخل هكذا المكتبات ويقتني ما يشاء ثم يخرج.

هل أستطيع؟

اتجهت رأسا نحو الجناح الأيمن: كتب تاريخ … روايات … دواوين … كتب دينية … استدرت إلى الجناح المقابل.. كتب عملية … في كل الاختصاصات. تناولت كتابا "لبارث" شاهدت طبعة منه في الواجهة. قرأت الدفة الأخيرة من الكتاب.. حقيبة يدي الضخمة مفتوحة، سأدعه إذن ينزلق داخلها بكل هدوء.. رفعت رأسي نحو عامل الصندوق، كان مشغولا مع أحد الزبناء.. ليس هناك أي مزعج.. كل هذا رائع. وفي الطبقة العليا؟ اللعنة! لماذا ينظر إلي هذا "خينا"؟ ويبتسم أيضا! حاولت أن أتشاغل عنه عله ييأس فيلتفت عني.. في هذه الأثناء بالضبط كان عامل المكتبة يقترب مني ليسألني إن كنت أود "اقتناء هذا الكتاب" رفعت رأسي وحدجت فتى الطابق الأعلى بنظرة ساخطة.. وضعت الكتاب مكانه.. وخرجت.

- هل حضرت السيدة؟

ينظر إلي بغضب وكأن المحل محل أبيه.. يهز رأسه سلبا.. وبالكاد يجيبني أن لا …

- مع أن الساعة هي العاشرة والنصف!

- قلت أن السيدة لم تحضر وقد لا تحضر وفوق كل هذا ليس لدينا مكان شاغر للعمل. لدينا امرأتان تقومان بأعمال التنظيف يوميا.

أعمال التنظيف؟ ماذا تشرحين إذن لهذا اللعين؟ هل تشرحين له ما قالته سيدة المحل؟ هل تخبريه أنك ضقت ذرعا بحساء زوجة أخيك وصراخ الجوقة التي أنجبا في مدة تسع سنوات بنسبة واحد كل سنة؟! أم تخبريه أنه في الواقع.. لم تأت للتنظيف.. بل لأن جيبك نظيف.. وأن السيل بلغ الزبى.. وأنني مجازة في خرافة حقيقية اسمها السوسيولوجيا!..

كان البدين يستقل زبناء..

تعودين غدا؟ أجل أعود غدا؟ أجل أعود غدا، سأطلب صباحا آخر من "الباترون" صاحب المخبزة.. وأعود فقد أجد السيدة.

في البيت نسيت مرة أخرى أن أخبر فاطمة رأيي في حساء ليلة أمس الذي بكل بساطة يشبه كل حساءاتها الماضية.. فلتطوره أو لا تطوره فأية حماقة عملية التغيير هذه التي تنفخ دماغي منذ لا أدري متى؟.. أخي لم يلاحظ أبدا أن الحساء رديء وأن صراخ الجوقة يتزايد كل سنة وأن ثمن سجائره تزايد ثلاث مرات خلال سنتين وأنه … لم يضحك منذ مدة طويلة.. هي، فاطمة، تجد كل هذا طبيعي ولا تتوقف عن تقشير الجزر واللفت لإعداد الحساء كل ليلة.. وأنا أيضا! ماذا أريد أن أغير في حياتي بالضبط؟ هل كوني بائعة في مخبزة عصرية أنيقة تتقاضى 350 درهما شهريا؟ آه! تذكرت هناك ابن خالتي "الزفات".. لقد حدث فاطمة عن رغبته في "ستري" على الرغم مما قيل ويقال في وعلى الرغم من أن عمري الآن 31 سنة وما يشاع عن "رجولتي" وغروري الذي لا حدود له … يقول أيضا أنه سيعود بصفة نهائية إلى الوطن لأجل هذا، ويكتري لي منزلا يضمنا معا.. ولن يكون ضروريا – طبعا – أن أجري وراء الوظيف بعد ذلك.. الحل هكذا بدون شك: تصبحين سيدة بيت ككل النساء.. تكنسين وتغسلين الثياب.. وتلدين. المهم أن تكوني ولودا حتى لا يعيد نظره في القضية من الأساس … وتطبخين.. أطبخ؟ أطبخ الحساء كل يوم؟ حساء كحساء فاطمة؟!

- فاطمة ! كان حساؤك رديئا ليلة أمس.

- حقا؟ لا يهم أخوك مستعد أن يتجرع أي شيء.

لابد أن ابن خالتي أيضا مستعد أن يتجرع أي شيء.. الحساء.. الزيادة في السكر.. الخبز.. والسجائر.. وجوقة "الكوران" التي لا تتوقف عن الصراخ.. الموحد هكذا إذن.. " إلى الجحيم يا ابن خالتي الأقرع! "

فاطمة بقربي تغير لباس الطفل.. انفضت لصراخي..

- ماذا؟ ماذا بك؟ ما هذا الذي تقولين؟

- لا.. لا شيء.. لا شيء إطلاقا …

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

  Copyright © 2001 unecma. net