عندما يطرح موضوع الكتابة النسائية والتخييل ألا تخشى أن يباطننا ما يفيد أن
هذه الكتابة تفتقد إلى الواقعية بمعنى آخر إبداع وهمي، مثير للإحساس العاطفي و
الشاعري أكثر، و أنها كتابة تجنح إلى عالم مركب خياليا، عالم لا يستجيب
لمتطلبات واقع المدينة و الحياة. و هي الكتابة التي انتصر لها الأدب في فترة من
الفترات، و التي ارتأت في أدباء انتصروا للتخييل أنها كتابة عاجزة تحيلنا على
هذا الفهم " تورتيلافلات" و"رجال و فئران" لشتاينيك و ما أشهرته هذه الكتابة من
عداء طويل لشتاينيك.
لقد لاحظت مارغريت مارشال 1939 أنها كتابة لا تعدو أن تكون رمزية صبيانية و
أن الشخصيات الواقعية تنقصها. تقول مارغريت : " بقي أن نرى فيما إذا كان عجز
اشتاينيك عن بناء الشخصيات ناتجا عن انعدام في الكفاءة – أم نقص في النضج."
جميعها دخلت معركة غامضة و لم تلق إنصافا.
سيقول النقد بعد ذلك : " إنها النزعة إلى الحيونة ظهرت في "رجال
و فئران" و " تورتيلافلات"، بل حتى في "عناقيد الغضب". لقد مالت أعمال
شتاينيك فيها جميعا إلى الحيونة و هذا التمثيل للكائنات البشرية هو ما كان وراء
إخفاقه".
(في عام 1941 سيبدأ النقد
بإنصافه، عند فريدريك في كتاب "شتاينيك حالم أمريكي" قال عنه :
غير أن شتاينيك كان في أعماق هذا التنوع الظاهر، متماسكا و منسجما بشكل يبعث
على الدهشة، لقد كان يصف دوما التفاعل بين الحلم و الواقع. لقد انتقى شتاينيك
تصاميم قصصه باهتمام منصرف إلى إبراز التاريخ الأمريكي (و بترتيبه الزمني
أيضا).
لم تكن ممكنة بالطبع هذه التصاميم إلا عن سبيل واحد، و هو المغالاة في
التبسيط حتى يبلغ التشويه أو التحريف، و بهذا المعنى تكون كل كتاباته اجتماعية
تدور في اتجاهين جليين : من اللاجتماعية، المتطرفة أو الفردية إلى ذروة
الاجتماعية.
ثم ترتد على أعقابها إلى الفردية باسم جديد في هذه المرة العزلة.
كاتب آخر تجنب التعبير الواقعي انه الشاعر
الهندي الفائز بجائزة نوبل للآداب "طاغور" لقد اتهم من بطانته بافتقاره
إلى الواقعية بمعنى أن إبداعه وهمي و
مثير للإحساس العاطفي و الشاعري ليس إلا!..
رحل طاغور و تساقطت أوراق العداء تباعا ليقول النقد إن طاغور قد طور أسلوبا
لغويا شعريا مكنه من معالجة أحوال حياة المدينة العصرية الكبرى و نظامها.
خلاصة القول أن كلا من شتاينيك و طاغور جاءا في فترة تبدل و أنهما قادا نحو
فترة أخرى و شكل أدبي آخر. النقد لم يكن ظالما بل كان مساوقا للفترة الأدبية
التي يعيش فيها الرجلان. لقد رأت فيهما الفترة أنهما متخلفان و غير مجاريين
للزمن نظرا لأسلوبهما الذي لم يكن بالمعنى الذي أرادوه ماديا واقعيا.
إنها ضريبة التحول و لا يمكن أن نحاسب النقد عن
عدم إنصافه لهم في المراحل الأولى لتغيير النص ذلك أن النظرة للأمور منذ حوالي
نصف قرن كانت مستمدة من بطء التطور العام في كافة الميادين، و عن استقرار
الحياة الاقتصادية و الاجتماعية،
و الفكرية التي تنتقل من جيل إلى جيل آخر دون تبديل كبير. لقد كانت الشروط
الحياتية مستقرة إلى حد ما.
و كان التوجيه للأفراد هو التعريف بأنماط الحياة و الفكر و العمل و جعلهم
يرددونها، انه إعداد لحياة فكرية مماثلة.
ثم في خلال نصف قرن، اختفى الاستقرار الذي تميزت به حقب تاريخية سابقة حتى
نهاية القرن التاسع عشر و حل محل الاستقرار تبدل و تغيرات عميقة في كل مكان من
الأرض و في كل ميادين الحياة و الفكر و الإبداع عامة.
قضايا جديدة امتدت اليوم إلى ساحة الإبداع فعرف هو الآخر ما يناقض بعضه بعضا
و ما يضيف إلى عناصره عنصر اختلاف آخر.
نتذكر في هذه الفترة الشعر و المسرح و السينما
و غير ذلك من رواد الحركات الفكرية و الفنية، الدادائية و السوريالية و ما
قبلهما من دعوات كفن الباروك الذي سبق الحركتين في التحرر من القواعد الاتباعية
أواخر القرن السادس عشر كرد فعل مضاد للكلاسيكية. و مع ذلك يمكن القول إن قساوة
النقد أو عدم إنصافه لشتاينيك و طاغور و لغيرهما في مرحلة
من المراحل الأولية كانت هي من قاد نحو ساحة
فن جديد. لقد اعترف النقد أخيرا بأن الرجلين معا قادهما الحلم و الخيال لمناطق
أخرى من الكتابة لم يرتدها الأدب فيما قبل و بالشكل المستفز.
الثقافة العربية منذ مهدها لم تكن بمنأى عن هذه التحولات، نذكر أن أبا تمام
وقف يوما ليقرأ شعرا، و ما إن قال : " نـــاولـيـنـــي كـــأس المـــلام" حتى
ضج أحد النقاد ضاحكا : " ويحك يا أبا تمام هل الملام يشرب؟"
يوجه أبو تمام النظر الآن نحو ساحة جذباء لم
ترتدها الكتابة النقدية بعد، يرد ضاحكا : "ناولني ريشة من جناح الذل لأملأ لك
منها كأس الملام." يقصد أن علم فن جديد يولد اليوم في ساحة اللغة، هو علم
المجاز : و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة.. و على النقد الآن أن يوجه أدواته
نحو هذه الأرض البكر. لنترك إسفين النقد يشتغل داخل جسد النص الإبداعي
و نحاول أن نتبين بعض جوانب علم النفس
التي تتعلق بما يعنيه الخيال في الحياة العقلية للإنسان.
ما
الخيال؟…
- بكل مسماه العلمي نراه لا
يزيد و لا يقل – حسب تفسير ماري ستاين – عن القدرة على تصور الأشياء بشكل مرئي
في المخيلة و يمكن أن يحدث فجأة
أن نتذكر موقفا من الطفولة بكل تفاصيله. تدعونا جين لنتخيل أكثر اللحظات نجاحا
في حياتنا : التخرج من الجامعة
مثلا، تقول جين سنشعر بمثل إحساس الفوز الحقيقي الذي شعرنا به.
إلى – جين ماري ستاين – يوضح خبير السلوك جيمس
مانكيتلو صاحب موقع أدوات العقل على الأنترنيت، و الذي يعتبر مصدرا عزيزا
للمعلومات فيشير أن عملية التعلم و التحسين تعتمد على تعديل و تقويم الأعصاب في
أجسادنا و عقولنا و يمكن تدريب الأعصاب بشكل قوي و فعال باستخدام الأساليب
الذهنية مثل التخيل و المحاكاة. أليس التخيل هو استحضار صور من الماضي بواسطة
التذكر؟ و يقوم التخيل بإعادة تركيب الواقع. عوالم جديدة تحاك من عوالم تحققت
سابقا، و نجد في المصطلح اللغوي للهادي في اللغة العربية لسعيد كرمي ما يفيد
هذا الطرح. يقول سعيد كرمي : "الخيال هو الظن
و الوهم في الذهن. و خيال الشيء صورته. مثل
خيال الإنسان في المرآة، و في المنام. و الخيال قماش ممتد أو منصوب
على هيئة الإنسان، تراه الطير أو الوحوش، أو
البهائم فتحسبه إنسانا. و الخيال قوة في الذهن تحفظ الصور للأشياء المحسوسة بعد
ذهاب الأشياء عن النظر. و خيال الشخص طيفه، و هو أيضا ما تلقيه الشمس على الأرض
من ظلال.
في علاقة الكاتب بالخيال نقرأ فقرة للشاعر عبد المنعم رمضان إذ يؤكد على
علاقة النص الإبداعي بهذا الجانب :
تحاول الكتابة أحيانا، و هي في كامل فتوها، أن
تنتقم من العقل، ذلك إن أدركت أن العقل تاج للزهو، لمواجهة العيش، للانتصار
اليومي، للفهم الخالد، تحاول الكتابة و هي في كامل فتوتها، أن تخلع العقل، كي
تظل رؤوسنا عارية، و لا تكتفي، لأنها تجبرنا أن نخلع ملابسنا، فهي لا تحب
الستر، تعتقد الكتابة هذه أن جرثومة الستر تلوث السحر، و ربما تفتك به،
و تعتقد أيضا أن الحدس الصوفي يتخلل الكتابة
باعتباره آلة عري، باعتباره دعوة حميمة للإنسان بأن يفر، أن يسترد جسده، أن
يمنع عن جسده الشعور بالوحشة، لأنها إذا هاجمت الجسد هددت الروح و أزعجتها، لا
أخاف إلا من الكتابة الناصحة العاقلة الرشيدة، أحب أكثر الكتابة التي تعتمد
الخيال أحيانا و الحدس الصوفي حينا آخر، سواء كانت قصيدة أو قصة
أو رسالة، أميل إليها لأن الجسد الزائل نفكر بالكتابة أن نحفظه من الزوال،
الكتابة مثل الحدس الصوفي، وقوفا أمام العابر، مطاردة العابر، اصطياد الجوهر
العابر و الجسد مثال العابر المثير للشفقة).
مستقى
من تخييلهما معا
فيما يتعلق بكتابة تستمد أنساغها من التخييل عامة نعود إلى قيمة لها دورها
في تفعيل النص الأدبي إلى الأديب محمد برادة.
بالذات إلى ودادية الهمس و اللمس حيث تطالعنا قوة الاسترجاع الفوطوغرافي
للذاكرة في تداخله مع تخييل صور ذهنية.
نتابع هذا المشهد : "عم مساء تشيكوف"
"... يخيل إلى أنني سألقاك.. لن
تكون غريبا بيننا، ستصادف الفاشلين، و المستسلمين، و الوصوليين و الحالمات
بفضاء أرحب مثل : ماشا و أولكا و ارينا. الشقيقات الثلاث، و ستلتقي الأنانيين و
اللامبالين و الصابرين على البلاء و المعتوهين الذين يتحدثون إلى أنفسهم بصوت
عال. ستستيقظ حاستك الساخرة أمام تصرفات و تظاهرات بورجوازيتنا المنتصبة على
أرجل من طين. المتدثرة بمعاطف الفرو و الفيزون في عز الحر.
ثم المثقفون و السياسيون كيف يستدعيهم برادة لحضرة تشيكوف :
"سترى المدينة فارغة بعد ظهر
هذا الأحد و لن تعثر على مثقفينا و أدبائنا في المقاهي أو على كراسي الحدائق،
فهم قابعون داخل البيوت، و أو مغيبون وراء الجدران... و البعض الآخر يتكلمون من
وراء المذياع أو عبر شاشة التلفزة. أصوات باهتة فقدت النسغ و الحرارة. بالأمس
كانوا يلتقون بالناس و يشاطرونهم حيرة التساؤل، و ينتقدون الخطاب السائد، و
اليوم ها هم يرتقون المنصة و ينضافون إلى الديكور.
انه تركيب عوالم ماضية بعوالم آنية حيث تصبح عالما مشتركا لعالم واحد، لعالم
متخيل.
في إطار هذه الحمولة الثقافية المتعددة و اشتغال ذات الكاتب على معطياتها،
نقترب من الملمح السياسي إذ يصب في نص أدبي متخيل.
يقول برادة : و أنا أكتب لك هذه الليلة، أتذكر رجلا من بلادي لم يكن طبيبا
مثلك. كان متخصصا في الرياضيات و تخلى عنها مثل ما تخليت عن الطب ليحتضن العمل
السياسي، و يعمل على تحرير مجتمعه من الاستعمار و التخلف و القهر، اغتالته أيد
أثيمة. ترك فراغا كبيرا، و ذكراه توقظ في الأعماق مشاعر حزينة...
حتى بيته الذي كنا نحج إليه مرة في السنة، امتدت إليه مصالح الأشقاء.
آه من الأشقاء يا أنطوان...
أريد أن أقول له من خلالك عم مساء..
إننا أمام ركح شيده الخيال يتم عبره استدعاء الماضي أزمنة و أمكنة حيث تواجه
بزمن آخر و بجهة أخرى من جهات الأرض تنتهي إلى تجربة إنسانية واحدة في أي زمان
و أي مكان، فيتأكد أن مطلب الحياة يتشابه عبر العصور.
هذا العالم التخييلي الذي شيده برادة في كتاباته الإبداعية منذ سلخ الجلد و
الذي بناه أساسا مما ترسب في الذاكرة من أحداث و تقلبات. فجاء الحلم و التخييل
و الاستيهام لتكون كل هذه العوالم عالما احتجاجيا على عالم يمشي في طريق لا
نريده.
لقد كشفت كتاباته على الحمولة الثقافية و السياسية في تلاقحها بذات الكاتب
الذات كاختيار لما يعرض لها.
من زاوية هذا الاختلاف نحاول أن نقرأ لليلى أبو
زيد فيما يتعلق بموضوع الخيال، نقرأ من قصة عبد الرحيم في مجموعة الغريب ما يلي
: ( بطل هذه القصة ابن عم أمي الشقيق. شاب في السادسة أو السابعة عشرة. لا
أدري. تمثلته منذ البداية أشقر. هزيلا عليلا، في جلباب نحيل و عمامة لينة و خف
فاقع. و هو سمت ملفق لا يوجد في سرد أمي. استقيت وهنه
من مأساوية الأحداث و من الحسرة التي تغشى
صوت أمي و ضحكاتها و ملامحها، و من الاسم نفسه "عبد الرحيم" فيها رنين الأنين).
لا تنسى ليلى أبو زيد أن تفتح العين عما يفرضه مجتمع ذكوري و كيف يصوغ
القوانين التي أرادها، فيجد تبريرا واهيا للجريمة. إنها مجرد حسرة و ليست
جريمة، هكذا لقن المجتمع أفراده، نسمع ليلى إذ تقول : "في آخر النهار وجد الأب
الابن ما يزال في مكانه فوقف عند رأسه و صهل : قم أيها الكلب، قم و كفاك
تماوتا. لكنه لم يتحرك، أخرج الأب الهراوة من جديد و لكزه بها في جنبه فانقلب
على ظهره، و إذا هو جثة هامدة."
تقول ليلى :
(... كان في سرد الأم حسرة و
لكن ليس فيها تجريم، كان هذا السرد – سرد الأم طبعا – يغيظني ... لو كانت هذه
قصتي لأدخلت الأب السجن أو جعلته يصاب بالكرب على الأقل .. كنت سأضفي على البطل
شيئا من الحمية و الألوان بقدر ما هو في سرد أمي لين و باهت، أجعله مفتول
العضلات، داكن السمرة من عمله في حقل والده، و أسميه عبد العزيز، أجعله يمج
استبداد الأب و أجعل للنساء في القصة وجودا).
...أي
اخـتـــــــــلاف؟
أليس الخيال هو الخيال في مجمله، أو في معناه، و أن الفرق في الحمولة
السياسية و الثقافية و الاجتماعية عامة و فيما تستقبله ذات، و ذات غيرها؟..
في سياق هذا الطرح : أدب النساء و أدب...؟
تسوقني الذاكرة إلى ما حدثنا عنه يوما الدكتور رشدي فكار، إذ كان قد استدعي ضمن
فريق باحث لمناقشة حال توأمين من بويضة واحدة بسويسرا، و أن البنتين التوأمين
عاشتا ببيت واحد في ظروف عادية، و معا تمدرستا بمدرسة واحدة ثم أن كلا منهما
ستختار طريقا يختلف عن الأخرى تماما. احداهما راقصة
و الأخرى اختارت أن تكون راهبة ليفصل لباسها
ما بينها و بين الأخت الراقصة. يقول الدكتور رشدي فكار : "تبين خلال البحث الذي
أجريناه أن الراقصة كانت قد رافقت أمها دون الأخت التوأم و هي في سن الخامسة
إلى حفل قدمت به راقصة عرضها الراقص فكان أن أثر فيها هذا المشهد و هو ما دفعها
لهذا الاختيار فيما بعد." يتابع رشدي فكار حديثه : "إن الاختلاف في المشارب قد
يأتي داخل الجنس الواحد، يأتي مما اعتلجته الذات، و مما التقت به في دروب
الحياة و أثر فيها بشكل من الأشكال".
التشريح
البيولوجي و الاختلاف؟
تعميقا لهذا السياق، أتوجه إلى مستشفى ابن رشد
بالبيضاء لأعرف ما التخصصات التي يقبل عليها الرجال دون النساء؟
و ما هي الإضافات التي تسجل سبقا في مجال
الأبحاث العلمية؟؟... سأجد في قسم جراحة العظام و المفاصل طبيبات يسجلن حضورا
قويا داخل غرفة العمليات. يعلق البروفيسور رضائي محمد باسما : "إن أيديهن
قادرات على الإمساك بالقوة، و
السيطرة على المنشار. إنهن ينجزن عملية تكسير العظم ثم لحمه بمهارة لا يمكن
فصلها عن مهارة الطبيب عامة.
يضيف البروفيسور رضائي عن سؤال الاختلاف في
الطباع و الأمزجة و التشريح الجسدي قائلا : "الفرق في الهرمونات، في الأعضاء
التناسلية. قد يكون عضو "ما" في الجسد له أهمية في الاختلاف لكن ليس إلى الحد
الذي يدفع بنا إلى الفصل و
يجعلنا أمام دماغ أنثوي خالص، و دماغ ذكوري خالص. إننا أمام تشريح عام لتضاريس
جسد الإنسان".
يتابع البروفيسور : "لو تساءلنا عن هذا
الاختلاف في ميادين علمية أو فنية، في العلوم الرياضية، في الأبحاث النفسية،
في فن الهندسة المعمارية لأمكن
الحسم في هذا الموضوع. و نذكر هنا ماريا كوري و زوجها العالمان الباحثان و هما
يقدمان للعالم "الراديوم". لقد كان بحثهما متساوقا، و كانا معا يقدمان شيئا
جديدا في المجال العلمي".
أليس الإبداع هو أن يكون هناك سبق في مجال
البحوث الإنسانية عامة؟
إن ما ينكشف أمامنا هو الذات في وعيها بالصراع، و بالمحيط إذ يصبح الصراع و
مواجهة الحياة هما حبر الكتابة الذي تختاره الذات، حبر التجربة المحلية في
ارتباطها الكوني العام عند كل من المرأة و الرجل.
أعتقد أن الذات عندما تكون مغموسة بوعي في
شرطها التاريخي – التاريخ المشترك - لا يمكننا أن نعزل الصفوف بناء على فوارق
بيولوجية لو أسندناها إلى سلم النسب المئوية فيما يرتبط بالوضع الجسدي العام من
زاوية التشريح كجهاز عصبي، أو لمفاوي، و غير ذلك من الأجهزة سيظل الجوهر العام
هو
المسيطر.
نخلص إلى القول إلى أن هناك عالما مشتركا في الإبداع له طابع إنساني عام. لكن
داخل هذا العالم هناك عوالم لها خصوصية و تميز و اختلاف، غير أنها تنتظم كلها
داخل نسق الإبداع عامة.
ماذا عن التلقي؟..
هذا اللقاء الذي يحتفي اليوم برائدة من رواد الإبداع هو دليل على العافية، و
أن هناك إبداعا حقيقيا يلتفت إليه المتلقي، يكون الإبداع إبداعا عندما يشتغل
على اللاصف، عندما يشتغل على النسيان، عندما يشتغل على الحقائق الكبرى و
المرجعيات الأساسية للبشر : الحب، الكراهية، الجنس، الجوع، الظلم، العدالة أو
اللاعدالة، الحروب و الابادات ... و على الفرح كما على الألم.
و حتى على افتراض أن التلقي هو محاولة لفتح نوافذ على الكاتبة أو إحداث ثقوب
في هذا النسيج الإبداعي إذ تصبح هذه الثقوب هي ما يشي بسريتها أو بحياتها. حتى
على هذا الافتراض يمكن اعتبار الظاهرة صحية، المهم هو أن هناك من انتصر للقراءة
ضدا على فراغ المدينة من المنتديات. ضدا على مغريات اليوم. يبقى التأويل من
حرية المتلقي.
فالمهم هو أن هناك قارئا، هناك متلقيا، و يبقى الزمن هو الكفيل بوضع أسئلة
أخرى!..
بقي أن أشير و دعما إلى ما خلصنا إليه سابقا هو أن هذه الورقة و في مسعى
الحوار و التساؤل و اللاطمئنان أسست رؤيتها على أن ليس هناك إبداعا نسائيا و
أدبا رجاليا و أن هناك إبداعا أو لا إبداع، بغض النظر عن الهوية النوعية أو
العرقية للكاتبة أو الكاتب.
في الإبداع الحقيقي هناك لون، و نكهة و رائحة لعلاقة المبدع بالبيئة أو
المحيط الاجتماعي و بذاته أيضا.
نتذكر "أهل الهوى" لهدى بركات. و "لا تنبت جذور
في السماء" ليوسف الأشقر حبش. لقد كانت حرب بيروت
هي المسيطر، يبقى الاختلاف هو في رؤية الذات لما يحدث، و في تناول هذه الحرب
و علاقتها بالأحزاب و المواقف عامة.
ما
الذي بقي قوله؟
- هل هناك سؤال وطني حقيقي
يحمله الوعي عما يبدعه كل من المرأة و الرجل كمنجز حضاري؟
- هل بالامكان أن نقدم قراءات
عن كيف هو الرجل فيما تكتبه المرأة عنه، و كيف هي المرأة فيما تكتبه هي أيضا؟
و بالمقابل، كيف هي المرأة فيما يكتبه الرجل عنها؟ و كيف هو الرجل في
كتاباته؟...
- ثم ماذا عن صفوف الإبداع؟
ماذا عن السدنة؟.. هذا شاعر، هذا قاص... هذا زمن الرواية... هذا زمن الشعر...
- و هل إذا كانت عناصر الإبداع
بخير يمكن أن يشذ أحدها عن هذه القاعدة فيكون مختلا، ناشزا و غير متلائم أو
متكافىء مع الجسد العام للإبداع؟
- ماذا عن مقارباتنا للنص هل
تناولت التجريد، الاغتراب، التشكيل داخل النص الإبداعي؟
- هل تناولت المسبوق و
اللامسبوق؟...الخ.
الأسئلة التي طرحت بعد المداخلة
س
: لا أعتقد أن العلم يدخل في مجال الإبداع، العلم علم و الإبداع إبداع؟
ج
: الإبداع عامة هو إيجاد الشيء أولا غير مسبوق بمثال و ذلك في كل مجالات
المعارف الإنسانية.
س
: جاء في المداخلة ما يفيد التملص من الأدب النسائي.
ج
: ليس تملصا بل هو تساؤل : هل عباءة الإبداع لا تتسع للخصوصيات و لتعدد
الأصوات، و هل تضيق بما تكتبه المرأة؟
فإذا استعدنا مقطعا من قصيدة ليلى العامرية :
(باح مجنون عامر بهواه و كتمت
الهوى) سيرى فيها بعضنا ما يؤكد هذا الطرح " أدب أو إبداع نسائي" غير أني أرى
في ذلك ضغوط و رهاب المجتمع، انه الإحساس المفرط باللا أمن تجاه الوجود، فحتى
قيس عندما باح بهواه كانت ضريبة البوح هي الحؤول بينه و بين ليلى ثم كان
الجنون، نعود إلى الغزل العذري ليوسف اليوسف يقول : " إن قيس ابن الملوح حين
كان يعتزل الناس، و حين كان لا يكلم أحدا، وثب على قدميه و عانق قيس ابن ذريح.
في ظني أن المجنون يقول لمثيله : أنا أعانقك لأنك دليل قاطع على أن وجودي ليس
استثناء، و حالتي ليست حالة فردية، إن وجودك يثبت لي أن المجتمع يقهر أفراده و
يهزمهم، وجودك يؤكد لي أن خللي خارج المنشأ، أنت وثيقة تؤكد أن ما أكابده ليس
أصيلا في قوامي، بل هو مقحم على هويتي بفعل قوى لا قبل لي بمواجهتها.).
إن المأساة تصدر عن منبع يقع خارجنا، خارج الذات المشتركة، كانت رجلا أو
امرأة.
المراجع :
-1- عالم شتاينبيك الرحيب
لبيتر لسكا.
-2- الهادي في اللغة العربية لسعيد
كرمي.
-3- التذكر و التخييل لجين ماري
ستاين.
-4- ودادية الهمس و اللمس / محمد
برادة.
-5- الغريب / ليلى أبو زيد. |