النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد

 

:::: أنشـطة - نــدوات

هوامش اللغة

التسمية والوصف في الخبز الحافي

 

د. سعيد بنگراد

 
     

يشير فرويد في سعيه الحثيث إلى التعرف على مساحات الوجود الإنساني الأكثر حساسية وضبط أصوله الانفعالية الأولى بعيدا عن التحديدات الإضافية التي جاء بها " التمدن " و" التحضر" و" الثقافة"، إلى أن هناك منطقة بين الذات والعالم سابقة في الوجود على المفصلة اللغوية. وتتحدد العوالم " الداخلية " و" الخارجية " ضمنها من خلال أحاسيس أولية شبيهة بالمثيرات الحسية الغامضة. ويطلق عليها " مرحلة الفعل ": " في البدء كان الفعل" (1). والمراد بالفعل في هذا السياق بالذات حالة تماس مع العالم الخارجي بعيدا عن " التوجيهات" الأولية للغة وتحديداتها المسبقة المتجسدة في حالات العزل والفصل والتصنيف. " ففي هذه المرحلة يتحدد الخارج باعتباره إسقاطا للداخل الذي لا نعرف عنه سوى تجربتين: تجربة الألم وتجربة اللذة، إنه عالم خارجي مبني على شاكلة الداخل، ومصنوع فقط من هاتين التجربتين" (2).

وستكشف الذات عن نفسها، استنادا إلى ذلك، من خلال استقطاب ثنائي حاد قائم على النبذ والجذب الحسيين ضمن حالة انفعالية أولية تتميز بتمفصل بسيط هو في المقام الأول استجابة لمثيرات فيزيولوجية. إن العالم الذي لا تصفه اللغة عالم مصنوع على شاكلة هذه الثنائية ويشتغل وفق منطقها. وعلى هذا الأساس، " فإن مصدر الاستثارة هو ما يأتي من المثيرات الخارجية، أما سيروراتنا النفسية الداخلية فلا ننتبه إليها إلا من خلال الأحاسيس الخاصة بالتجربتين السابقتين "(3). إن وجودهما خارج اللغة يحولهما إلى كيانات متشابهة، فلا فرق في اللذة الحسية بين الأكل والنوم والجنس، ولا فرق في الألم الحسي بين الجوع والجرح وآلام البطن. إنها حالات لحظية، أو هي مثيرات فعل متكرر لا يملك سوى ظاهره، ولا يمكن أن يحيل على شيء آخر غير متعة تنتهي وألم ينبعث من رماده ضمن حالة تناوب متواصل.

إنها صفات للممكن الحسي الذي لا يحضر في الذهن إلا من خلال مثيرات فيزيولوجية محددة لحالات نفسية هي السلب أو الإيجاب، الإدبار أو الإقبال. ومع ذلك، بالإمكان، استنادا إلى هذه المفصلة الأولية، تصور معادل يقوم على تمثيل لغوي بسيط يلتقط ظاهر الفعل والإحساس من خلال تسمية لها صلة مباشرة بفعل يتم خارج محددات إضافية غير تلك القائمة على المحاكاة الصوتية أو الإيمائية أو الشكلية.

صحيح أن اللغة فاصل قطعي بين الذات والمعطى الخارجي، أو هي توسط رمزي بين الداخل والخارج، إلا أن التمثيل ليس فعلا كليا، إنه طبقات تشير إلى تفاوت في الرؤية والتحديد والإحالة. فبالإمكان رصد الفعل الواحد أو الإحساس الواحد من خلال تسميات متعددة لا تكتفي بالتعيين " المحايد"، بل تُدرج الشيء المسمى ضمن خانات ثقافية " تخفف" من وقعه أو " تهذب" حالات وجوده، أو تلقي به عاريا من كل تحديد إضافي سوى التمثيل لحالة لذة أو ألم كما هي في ذاتها، أو كما يمكن تصورها من خلال لفظ يُستعمل كما استعمل لأول مرة، كيان "بريء" يوجد خارج أي حكم مسبق أو قيمة مضافة.

إن الأمر يتعلق بالتمييز بين " القناع الثقافي " الذي مكن الإنسان من منح الأشياء والأفعال والكائنات تسميات تنوع من حالات وجودها، بل تخفف من وقع إحالاتها المباشرة، الطبيعية منها والبيولوجية، وبين " الوجود الخام " الذي يشير إلى " النوعية" (qualité) باعتبارها جوهرا أصليا سابقا في الوجود على أية مفصلة وعلى أية تسمية وعلى أي وصف يقابل أو يقارن. وهي الحالة التي يمكن أن نتصورها من خلال بعد " طبيعي " للغة تقوم بنشاط محايد في الإشارة والوصف والتسمية، كما كان يتصور ذلك رولان بارث، استنادا إلى خلفية أنتروبولوجية تقابل بين " الطبيعي " المعطى من خلال التجربة المباشرة، وبين " الثقافي " المرتبط بممارسة إنسانية تهذب وتشذب كل ما يأتي عبر الحواس.

وضمن هذه العوالم الحسية التي تبنيها لغة " طبيعية" تخلت طوعا ( وربما بوقاحة قل نظيرها ) عن إرثها الثقافي في امتلاك الأشياء والأحاسيس والكائنات، تندرج سيرة محمد شكري أو روايته " الخبز الحافي"، وضمنها تُدرج " هامشها" الخاص، الذي يقوم أساسا على التنكر للمضاف الذي لا يليق سوى بأشكال حياة انفصلت عن " التحت" و" المباشر" و" الوجه العاري": الحد الأدنى، أي ما يوجد خارج ما جاء به التحضر في المأكل والملبس والسكن والسلوك اللائق وما تشاؤون من التصنيفات والأحكام المسبقة المحددة لما يوجد خارج " المركز". فهذه العوالم تتسرب إلى اللغة من خلال أبعادها الحسية المفصولة عن كل الاستعمالات الممكنة، الاستعارية منها خصوصا، فاللذة حسية والألم حسي والوصف حسي وامتدادات الذات فيما يوجد خارجها ليست سوى استجابة لمثيرات حسية.

إن الإمساك " بالوعي الطفولي " بالعالم وبدايات التعرف عليه في حسيته كما يأتي إلى العين حافيا، وكما يستوطن الذاكرة، معناه خلق حالة انفصام حاد في الذات التي تكتب وتروي وتستعيد ما فات. فالسيرة يُنظر إليها عادة باعتبارها استعادة واعية لأحداث لم تعشها الذات الساردة بشكل واع، أولم تعشها بنفس درجة الوعي الذي به تُكتب السيرة استنادا إلى منطق الاستعادة البعدية. ولهذا السبب، فإن كل استعادة هي تهذيب للوقائع من خلال فعل الحكي ذاته. فالسرد، وهو بؤرة الفعل ومبرره الخاص، يقوم على تصريف حر للزمن: إنه يقابل بين الحاضر والماضي، ويفسر اللاحق بالسابق، ويسقط السابق على اللاحق من خلال إحالات ضمنية منتشرة في جميع الاتجاهات.

إن الأمر هنا مختلف تماما، فالعودة إلى الطفولة من خلال لغتها ورؤيتها وفعلها كما كانت، تتم خارج الوعي الذي يستعيد ويرتب وينظم ويصفي ويحذف ويضيف ويبرر أيضا، وهو ما يمكن الذات " الراشدة " من التملص من مسؤولياتها في تحمل تبعات ما يراه الطفل ويرويه خارج كل رقابة. إن الأمر يتعلق بحالة من حالات رصد " الممنوع " باعتباره آلية من آليات الانتماء العفوي إلى كيان ثقافي ما. " فالاعتراف الاجتماعي " بالذات الفردية يمر عبر الخروج من الهوامش المضمرة والانتظام داخل الرمزي، أي داخل الضابط الاجتماعي الذي يُطلق عليه الأخلاق وكل ما يندرج ضمن الحدود التي تؤسس المجتمع وتحميه مما قد يهدده، بما في ذلك لغة التبادل اليومي.

لذلك، فالممنوع هنا لا يطال أي شيء، فكل شيء ثابت في الوجود وفي الوعي: الدولة والعائلة ونظام الحياة. فالطفل لا يرفض ولا يقبل ولا يحتج ولا يشكك في أي شيء، إنه خارج المركز بحكم الفقر لا بحكم الاختيار. كل شيء ثابت في هذه العوالم عدا اللغة، فلها في هذا المقام وضع خاص، فمن خلالها يتسلل الممنوع إلى الأشياء والكائنات والفعل. و" الممنوع " هنا أساسا يتشكل مما يعود إلى الجنس، وهو العالم الذي تسيجه الطابوهات من كل الجوانب، فكل فعل وكل عضو له اسمان : اسم للتداول "السري" واسم في " الثقافة العالمة". إن رفض الثاني عودة بالجنس إلى أصل بيولوجي يقع خارج المحددات الثقافية.

وهذا ما يبدو من خلال الوقائع التي ترويها السيرة. فكل ما يقوم به الطفل ويجربه ويتلمس وجوده في الطبيعة والجسد والأشياء وردود الأفعال ينتمي إلى العام والمشترك والطبيعي، إنه الإرث الغريزي الإنساني المشترك. لكن الجنس وحده، من بين كل هذه الحاجات نُظر إليه هنا نظرة خاصة، لأسباب كثيرة، ربما لأنه مرتبط بالتزاوج والعراء الذي يلهب الاستيهامات، أو ربما لأنه تذكير بصدمة العري والولادة كما كان يتصور ذلك أوتو رانك، حيث كل ممارسة جنسية هي عودة إلى الجنة، أي إلى رحم الأم حيث الحياة بدون مقابل.

ومع ذلك، فإن للأمر وجها آخر. فما يروى لا قيمة له خارج اللغة التي تصفه، فخارجها لن يكون سوى حدث يشبه كل الأحداث الأخرى: تلك التي تصف الجوع والتشرد والتسكع في الشوارع المظلمة. إن اللغة هي التي تجعل منه حدثا، وتخرجه من دائرة العادي، لكي يصبح رؤيا للعالم والوجود. إن اللغة هنا هي بؤرة الهامش ومصدره وقوته وسر انتشاره. فمن اللغة، ومنها وحدها، تنبعث كل الانفعالات والاستيهامات والأحاسيس المتباينة المرتبطة بمنظر الجنس العاري كما يروي الفتى المشرد تفاصيله المثيرة.

إن الجوع حاضر في النص بنفس قوة الجنس، تماما مثل التشرد والعيش في الأزقة المظلمة والنوم مع الحيوانات. ومع ذلك فما تثيره عوالم الجنس مختلف تماما عن مشاعر الرحمة نحو فقير معدم. فالمجانين والمشردون في كل مكان، لقد ألفنا وجودهم بيننا، فهم ليسوا موضوعا للتلصص واستراق النظر، وليسوا مصدرا لأي انفعال سوى الشفقة، والشفقة رغبة في التخلص والابتعاد لا دعوة إلى التلذذ والاستيهام. أما الجنس فطاقة أخرى، إنه توق إلى التوحد والتلاشي، إنه بؤرة للذة تنتشر في الجسد كله، وبؤرة للألم بوجهيه السادي والمازوخي.

وهذا ما يفسر قوة هذا النص وطابعه المثير. فمصدر كل الطاقات المرتبطة بالجنس هو هذه العودة بالجنس إلى عرائه الأول، غريزة منفلتة من أية رقابة في الممارسة والوصف والتسمية، كما سنرى ذلك لاحقا. وهو أمر يبرره شكل حضوره في الذاكرة الثقافية " فما هو أساسي في الرمزية الخاصة بالجنس، في واقع الأمر، ليس طابعه الفيزيقي، بل دلالاته في مخيلة الشعوب " (4). وللغة في هذا المجال باع طويل، فعبرها تشيع هذه الدلالات وتنتشر وتتسلل إلى الرموز لتعشش في المتخيل والذاكرة والحلم والأوهام أيضا. إنها تفصل بين المتحقق في الفعل وبين حالات الاستيهام المتنوعة التي تتسرب إلى الذاكرة. فكلما ازداد النشاط الرمزي – اللغوي أساسا - وتشعب انكفأ الواقع على نفسه وتراجع كما كان يتصور ذلك كاسيرير. " فالجنس لا يشير إلى ثنوية الكائن البشري فحسب، بل يشير أيضا إلى الاستقطاب الثنائي لتوتره الداخلي" (5).

لذلك سيكون من العبث البحث في هذا السياق عن " فكر هامشي" ينزاح عن الحالات الإنسانية المجسدة في " السوي " و" العادي " والذي " ألفته النفوس " واطمأنت إليه. فذاك أمر من طبيعة أخرى. ف" الرؤية الهامشية" ليست صفات لهذه العوالم ولا يمكن أن تنساق مع منطقها الظاهري. إنها تندرج، عكس ذلك، ضمن أفق للاختيار الحر الذي يرفض أن ينحني أمام النموذج المركزي الذي تنتشر على جنباته إفرازات " التمدن " و" التحضر". لذلك فهو يرى الهامش من الداخل، باعتباره سبيلا آخر للتخلص من كل إكراهات التحديدات القبلية، والأحكام المسبقة.

نحن في هذا النص، على العكس من ذلك، أمام تصوير لهوامش الفعل والسلوك ورد الفعل. إن الأمر يتعلق بعراء في كل شيء، إنها الحياة خارج الرقابة القبلية، و" الأنا " خارج ملكوت " النحن "، والفضاء الاجتماعي خارج التصنيفات المعتادة. لقد انهارت الفواصل بين الشعور واللاشعور، وتخلت اللغة عن محدداتها الإضافية فتعرت من كل ثوب " حضاري"، وراحت تصف الحياة كما تبدو خارج أية نمذجة مسبقة، فحصل الارتباط مع الحسي المباشر في ماديته لا من خلال بواعثه النفسية، فانتصبت أمام القارئ عوالم خرساء، خالية من " الفكر" ولا تنبعث منها سوى آهات الألم واللذة كما يتحققان من خلال فعل فيزيقي". لقد أصبحت اللغة ( من خلال الوصف والتسمية وأشكال المحاكاة) أداة فتك وتدمير لا يبقي ولا يذر. لقد سقطت بين يدي ذات " تسكن الحدود، محرومة من الهوية والرغبة والمسكن القار، ذات تائهة وضائعة يختلط عندها الضحك والألم، تائهة ونافرة من كل شيء داخل عالم قذر"(6)، فحولتها إلى عين فقد كل أشكال التوسط عدا الإبصار الذي يسجل العالم حافيا دون إضافات. وبعبارة أخرى، إن الأمر يتعلق بالرغبة في العودة بالحياة إلى منابعها الأولى، حيث كل شيء عار، ولا فواصل في الفعل واللغة بين الرغبة وتحققها.

فالعراء يطل علينا من كل النواحي، إنه موجود في التسميات وموجود في الصفات وهو في وصف الأشياء والكائنات والأعضاء، وموجود أيضا في الروابط العائلية، وهو فوق هذا وذاك نمط في الربط بين الأحداث والشخصيات، ونمط في الفصل بينها ونمط طفي بناء الحدث ذاته. فالتركيب السردي في مجمله، ليس سوى لقطات عامة تشكو مما يؤثث الفواصل ويسقط الروابط الممكنة والمستحيلة، ويمنح البياضات معنى : بالإمكان التخلص من مقاطع كثيرة تقول الشيء نفسه، أو تقوم بوصف مكرر للفعل نفسه، إلا أن القيام ذلك سيكون مسا بخاصية من خاصيات النص التي لا ترى من خلال التحقق، بل هي مبثوثة في الآثار التي تولدها هذه اللقطات في نفسية المتلقي، فالتكرار هنا ضروري، لأنه إصرار على القذارة وإدمان عليها.

بدءا يأتي العراء من العنوان ذاته، ف" الحافي" مرادف للعاري، أو هو تخصيص لحالات تماس بلا توسط مع المحيط المادي. فالحفية مشي بدون خف أو نعل أو حذاء، إنها اتصال مباشر بالأرض، ب " التحت " حيث لا يمكن السقوط أبدا، فلا وجود ل " تحت " تحت " التحت" سوى دهاليز النفس المظلمة، أو فضاء قذر يتقاسمه اللصوص والمشردون والحيوانات، تماما كما هو الخبز الحافي، كل ما يسد الرمق، أي ما يشكل حدا أدنى للعيش. إنه الفضيحة أيضا، والفضيحة نشر لتفاصيل الذات أمام الملأ خارج الحميمية، وبعيدا عن كل حاجز واق يبرر أو يخفف، عدا الرغبة في التماهي المطلق مع "الطبيعة العارية" بمفهومها المزدوج الإنساني والطبيعي : للفضيحة وضع اجتماعي خاص، إنها كالإشاعة، محط إدانة دائمة، ولكنها أيضا موضوع دائم للتلذذ خلسة بأكثر تفاصيلها قذارة.

وسينتشر العراء بعد ذلك في كل شيء، لتسود القذارة والعنف والبكاء ويمتلئ وجه الأرض قيئا، وهي كلها حالات تشير، بهذا الشكل أو ذاك، إلى الحالة الأولية للذات التي أشرنا إليه في الفقرة الأولى حيث يُختصر الوجود كله في لذة قصوى أو ألم لا ينتهي. وهو ما تعبر عنه الفقرات الأولى من السيرة:

" لم أعد أبكي فقط عندما يضربني أحد أو حين أفقد شيئا" ( ص9).

" الجوع يؤلمني أمص وأمص أصابعي. أتقيأ ولا يخرج من فمي غير خيوط من اللعاب" ( ص9).

" رفعني في الهواء ( أبوه) خبطني على الأرض ركلني حتى تعبت رجلاه وتبلل سروالي" (ص10).

استنادا إلى هذا، تشير إحالات الوقائع في النص، بمختلف أنواعها، إلى سياقات يندرج ضمنها العاري والحافي والمعطى خارج أي توسط، فهي الخواء والخلاء والعدم، تماما كما هي الحقيقة، حقيقة الذات وحقيقة الذي يتفرج عليها ويستلذ خلسة بقذارتها، " واضحة كالشمس" وخالية من كل المساحيق. فالحفية كما هو العراء، كما هي اللغة التي تقوم بالوصف، إحالة مباشرة على " فقر معمم "، إنه شظف في العيش وفي الوجود وفي العلامات، ولا شيء بعد ذلك سوى الفناء المطلق. لكنها أيضا، وربما أساسا، استعادة رمزية لطبيعة إنسانية تجسد حالة أولية للوجود الإنساني منظورا إليه من خلال ردود أفعال بيولوجية لا شيء فيها سوى اللذة والألم، وطبيعة " طبيعية " تنعدم فيها كل مظاهر الوجود الإنساني، المزابل والأقبية وهوامش الميناء وبقايا الطعام والسمك العفن وبول الفرس. لذا فهي أيضا إحالة على بعد ثالث هو عالم القذارة بوجوهه المقززة والمنفرة، وبوجوهه الأخرى التي تقتات، داخل الدهاليز المظلمة للنفس البشرية، من أحاسيس غامضة تدرج عالم القذارة ذاتها ضمن " المثير" أو تدفع، لا شعوريا، إلى التلذذ بها.

ويدخل ضمن هذه الأبعاد الممارسات الجنسية " الصحية " منها و" الشاذة" على حد سواء حيث تتحول الأعضاء إلى " أداوت " و" أشكال" و" ثقوب" وكل ما يمكن أن يقود إلى استثارة الصور الرمزية الجنسية من مكمنها مجسدة في " المجوف " و" العمودي" و" المسترخي" و" المنتصب" و" الاستيعابي" و" الولوجي"، وهي كلها صور مستقاة من استعادة تناظرية لطرفي الوجود : شكله المادي والصور الرمزية المرافقة له.

ومصدر هذه الاستثارة وأصولها الأولى موجود في الفكر التناظري الشعبي الذي يربط بين وحدات محسوسة وأخرى مجردة ليودعها قيما ودلالات تسكن الرموز الحسية وتعشش داخلها. وتلك وسيلة مثلى للتعيير عن الحسية في اللذة وبواعثها. ولهذا السبب، فإن هذا المستوى لا يشيئ الأفعال والأحاسيس فحسب، بل يولد حالة استيهام قائم على دهشة مصدرها " الاكتشاف الجديد" : عضو المرأة الذي " يأكل " وله " أسنان "، أو يصبح حفرة أو جرحا، كما يتحول عضو الرجل إلى صنبور تسيل منه المياه، أو ثعبان يقطر سما .

وضمن حالات التناظر هذه يمكن أيضا إدراج المشهد الذي يصف مضاجعة الشجرة(ص56)، وهو مشهد يستدعي، بالتناظر، أيضا استحضار صور الفعل الطبيعي : " رد السيف إلى غمده " و" شق الأرض بالمحراث " و" وضع المسمار في الثقب " أو " إدخال الخيط في ثقب الإبرة " وما تشاؤون من الصور النمطية التي تجعل من كل شيء حاد ومنتصب قضيبا ومن كل شيء مجوف فرجا. وهو أمر يتضمن بالضرورة صورة العودة إلى الرحم، أو صورة الامتداد المطلق في الطبيعة.

وهذا ما يحيل، بهذا الشكل أو ذاك، على دوائر التقابل الشهير بين الطبيعي والثقافي. فالحياة كما ترسمها عينا الطفل المشرد والطريد والتائه هي ذاتها التي تعيشها الكلاب الضالة والقطط التي فقدت أسيادها : فالعيش في الأزقة المظلمة وفي المزابل يعد خروجا من دائرة الفضاءات المحمية حيث تتحدد الحميمية في أشكالها الدنيا، باعتبارها تشكل، داخل النظام الاجتماعي، الصورة الأول لاستقلالية الذات، لولوج عالم الامتداد الطبيعي المطلق حيث العودة إلى الأصل الأول، باعتباره سلسلة من ردود الأفعال اللحظية الموجودة خارج الرقابة الاجتماعية : " الجدران العازلة " في مقابل " الشوارع المفتوحة "، "واضحة النهار" في مقابل " سبائك الظلام المهيبة ".

وهذا ما يفسر لماذا تسود عوالم الليل في السيرة، فالظلام غطاء طبيعي يقي الذات من شر الأعين المتلصصة، وهو أيضا تعبير عن رغبة لاواعية في العودة إلى فضاء أصلي نسيه عقلنا وأغفل وجوده، إلا أنه ظل حيا في ذاكرة معممة أودعته في سلسلة من الصور التي بها نحيى ومن خلالها ننظم مجموعة من الفضاءات، ويتعلق الأمر برحم الأم.

وضمن هذه الثنائية أيضا يندرج البعد الآخر للوجود : الألم، حيث العنف في أشكاله الأكثر همجية : الدم والشفرة والقتال من أجل إيجاد مكان في قبو أو مقهى أو إسطبل، وحيث القيء : أكل النيئ ( في مقابل المطهو)، بقايا السردين العفن التي يلتقطها الطفل في الميناء وهو يتضور جوعا، لكي تصل الدورة إلى منتهاها عندما يلتجئ الطفل إلى إسطبل حيوانات فتبول عليه الفرس . إنها القذارة في حدودها القصوى :

" التقطت سمكة أخرى صغيرة جافة، رائحتها أكثر نتنا من السمكة الأولى، أقيء الماء المالح، أقيئ وأقيئ حتى لم يبق إلا صوت القيء إلا صوته" ( ص102).

-" أذاك العجوز يجد في مص أزباب الناس نفس اللذة التي أجدها في مص صدور النساء ؟ مازال دافئا ولزجا يقطر بين فخذي، هكذا يقحب الناس إذن " (ص107).

-" قلبي يخفق بعنف، يجب أن أشتري سكينا أو عدة شفرات حلاقة، هبطت الدرج في الظلام الخفيف مسرعا. توقفت أمام إسطبل الحيوانات، اتجهت إلى ركن وجلست مسندا يدي على ركبتي مقرفصا. دخنت واحدة وحلمت قليلا. هل تعمد الله أن يخلق هذا العالم على هذا الشكل من الفوضى والتنوع ؟ رائحة الحيوانات كريهة، على بعد خطوات من مكاني فرس واقفة. شبكت ذراعي فوق ركبتي ونعست. نمت جالسا خائفا أن يغتصبوني أحسست برشاش حار كريه الرائحة يسقيني ،انتفضت برعب، شتمت العالم، الفرس تكمش فرجها وتفتحه وتتحرك إلى الوراء نهضت بسرعة وابتعدت عن المكان " (ص111).

وذاك ما تقتضيه سلطة القذارة ذاتها وموقعها فيما يفصل بين المدنس والمقدس، فهي قذارة الحياة التي لا تريد أن تنتهي وقذارة من أجل استعجال النهاية، إنها حالة الفقراء والجهلة والمهمشين والذين لا مأوى لهم، ولكنها أيضا حالة الدراويش أو حالة النساك اللائذين بالمغارات هربا من صخب المدينة وسكانها، وبحثا عن قذارة تقربهم من الطبيعة التي جاءوا منها. لذلك " فالقذارة ليست غيابا للنظافة أو نقيضا لها، إن القذارة مرتبطة بكل ما يشوش على هوية أو نظام أو نسق، وهي أيضا ما لا يحترم الحدود والمواقع والقواعد" (7).

وفي الحالتين معا هناك " مركز ثابت أصلي حقيقي " داخل المجتمع، يفرز، ككل الكائنات الحية أحيانا قذارات تدعو إلى النفور والتقزز والاشمئزاز، فهي بؤرة العنف والعدوانية والانفلات من كل رقابة، دينية أو أخلاقية أو سياسية، وتارة أخرى " حالات صفاء قصوى " يجسدها النسك والزاهدون، بالمعنى المزدوج للكلمة العلماني والديني. إن هذا وذاك يلبيان حاجة من حاجات النظام الاجتماعي الطامح إلى خلق حالات التوازن بالعين أو الكفاية : التلذذ الحسي في حدوده القصوى، والانكفاء على النفس فيما يشبه العرفان التطهيري.

وهي الحالة التي ستجسدها اللحظات الأخيرة في حياة الطفل داخل " العراء" الاجتماعي واللغوي. إن الطفولة ذاتها عراء لأنها إحالة على " عالم الملائكة" ( ص 238)، والخروج منها معناه التقيد بقواعد نظام اجتماعي جديد أساسه" الممنوع " الطوعي. فللانتماء ثمن تؤديه الذات من حريتها وحالات انطلاقها اللامتناهي. لذلك فنهاية الهامش بدأت مع قرار الدخول إلى المدرسة. فالذي دله على عالم المعرفة هو الذي قاده إلى المقبرة لكي يترحم على أخيه ويدفن نهائيا عالم الطفولة الشقي، لكي تبدأ رحلة الثقافة. فالمعرفة شيء آخر في الحياة غير ما تثيره العوالم الحسية، إنها طريقة في تعلم الانتماء إلى نظام ثقافي له قواعد في الوجود وفي اللغة وفي كل أشكال التبادل التي يختفي فيها الحسي في تلابيب الأشكال الرمزية.

www.saidbengrad.com

---------

هوامش

1-انظر Julia kristeva : Pouvoir de l’horreur, essai sur l’abjection, éd Seuil, 1980, p.75

2- نفسه ص 75

3- نفسه ص 75

4- Jean chevalier, Alain Gheerbrant : Dictionnaire des symboles, article sexe

5- نفسه

6-نفسه الصفحة الرابعة من الغلاف.

7- كريستيفا ، المرجع السابق ص 12

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

Copyright © 2001 unecma.net