النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد
عبد العزيز الراشدي: طفولة ضفدع (قصص)

ما تفعله بنا الصـور

 

(كل شوق يسكن باللقاء...

لا يُعوَّل عليه) ابن عربي

 

1

كان يتطابَق الشعر عنده مع الصورة،كان يؤمن أن في كل وجه أو زاوية استعارة ما. وحين اكتشف أنه مخدوع بالاسترسال، و بعد أن ضايقته الحكاية،بدأ يُدبِّج خلفية كل صورة بخاطرة أو قصيدة :نوع من التعويض الذي سيغنيه لفترة ثم لن يلبث أن تطحنه الدوائر.هل كتب يوما قصيدة؟لايُتعبه السؤال،فقد بدأ كل شيء منها.من الطفولة أم من القصيدة؟هولا يدري، فطفولته قصيدة تركض و تسير مع الريح،تنمو كما يُقَدَّرُ لها أن تنمو:تلقي بظلالها على الأشياء والوجوه وتمسح كل ركن من أركان الدنيا.كان يسير فلا يهمه ما بين يديه،بل ما خلفه،لا يلقي اعتبارا سوى للكؤوس التي لم يترع ،للوجوه التي لم ير،للرؤوس التي لم يمسح عليها بحنو،للأحلام التي لن يحقق...لم يكن يهمه في الحياة سوى الاحتمالات.وأي احتمالات؟أليست بالذات التي تفتح البوابة على التيار؟تلك التي لا تثبت على شكل أو معنى كما الحياة والتاريخ،يقرأهما الناس كل يوم بألف صورة ووجه؟ كم هو الوجود مغرم بالظلال والانعكاسات!ألا يموت شوقنا لأشياء كثيرة تسكننا حال الإحاطة بها؟ لكن من يستطيع إدعاء إحاطة ما؟!.ألهذا يواجهه مأزق الوجود على الدوام؟ألهذا يتعفف من كل شيء:لأنه لا يستطيع إدراك الوجود في كليته ولا ترضيه مصلحة أو معرفة مبتسرة؟

لا يني يلتقط من الحياة الصورة تلو الصورة ،يشحد بها صميم ذهنه وتشكل خلفية حركته وكلامه كصفحة النهاية في كتاب .صورٌ تكون في الأغلب الأعم لما لم يتحقق،تكون الشعر الذي لا يُسمّى.وجد نفسه بالصدفة يفعل ذلك.قال لنفسه يوما أن كل هذا الوجود ربما لا يكفيه لذلك يخلق أركانا لوجود مواز يحقق فيه ما ليس في الإمكان-لا يُحقق ،بل يوشك-حتى لا تنعدم احتمالات أُخرى للنهاية تُفسد عليه الدوائر.واطمئن لفترة طويلة من حياته إلى الأمر،مدركا بإحساس المخدوع أنه سوف ينفض عنه هذا الإحساس الخفيف حين يُقرر،لكنه استيقظ على وهمه حين حاول وأعاد :لقد اكتشف أنه كان مخدوعا ،وأن ضباب الأشياء كان يسكن وجوده قبل أن يكون حتى،وأنه لا مناص من الاسترسال في اللعبة .ربما راوده هذا الإحساس قبل هذه الوقفة فاستخف به.لماذا إذن تعب حتى الاختناق من التفاف الاحتمالات؟لمَ أتعبته حتى بحث لها عما يُلجمها؟.

كان قد أحس في لحظة ما عياء روحه من كثرة الصور المخزونة في داخله،وليهرب من مأزق وجوده الذي يحاصره،لينفض روحه التي تبدو له ثقيلة كألبوم قديم اشترى آله تصوير وبدأ في التجول .التقط صورا لكل شيء: أمكنة ووجوه ،شجارات وعناقات ،حيوانات تمشي على أربع وأخرى تمشي على إثنين وأخرى تزحف دون حركة.....سار في الطريق لا يهتم سوى لما يُدر ُّ التفاصيل،يأخذ صورا لكل شيء كي يهدأ باله قليلا ولا تعود تطارده الصور،وقتها يتذكر قصة ذلك الرجل الذي يحكي عنه الجميع نكتا،فتجول في يوم حاملا قلما ودفترا ليدون كل النكت،وفي ظنه أنه يَعقِلها بتلك الطريقة فلا يعود أحد لحكايتها .ظل يتعقب الصورة حين تكون ساخنة:حين لا يُهيَّأ لها.في عُرفه تكون أحلى وأكثر قوة،ويسيل منها سر الوجود الكبير الذي يُتعبه ويُنغص عيشه.. حتى تمحو البرزخ الفاصل بين الصورة و الاستعارة،حتى تكون عفوية وشعرية تُقرأ بالعين.

الصورة حسية أيضا،والأفضل أن يعلقها على جدار أو يضعها داخل ألبوم من أن تعلَقَ بروحه،على الأقل،سيرتاح حين ينام ،ولن تطارده أطيافُُ يظل يلوّنها الضباب طوال الوقت.لقد كانت وظيفة الكاميرا إزاحة الشبح الذي ظل يسير وراءه لاهثا دون توقف ولا يعلم إلى أين يقوده.شبح إسمه ما لا يُرى،أو ما يُرى ويتلون بأكثر من وجه،ذلك لأن الصور تلبس أكثر من صفة ،وتتخفى بين تجاعيد الروح،تثير التنمل بين ثناياها.

2

هو الآن في الغرفة ولامناص بعد أن تواردت الخواطر أن يتأمل ألبومه الكبير الذي تراكم عليه غبار الأيام. ليكتشف كم تورط مع الشعر ،وليرى إلى أي مدى أخرجته اللعبة من مصيدة التأمل الذي سكنه منذ الأزل.فلقد تعود أن يُفرغ كل طاقته في التقاط المشاهد وتأملها حين تحدوه رغبة في التأمل .الشعر يأتي في اللحظات التي يختلج مساره فيها ،وقتها تكون الكاميرا جاهزة لتُحَنِّط الصورة ولا تترك لها فسحة للتسلل إلى حيث ستنمو وتطوق الروح .

الألبوم مليء بالصور،وقد أحس منذ مدة بالمأزق الذي وضع نفسه فيه:لم تعد تكتفي الصور بذاتها،فقد صار مدمنا،ولم تعد تقبل أن تتحنط سوى لفترة،ثم تخرج من قمقمها وتعاود الظهور.وقتها،مرتجفا،يمسك القلم ليخط بضع كلمات وراء الصورة :أسلوب أراحه لفترة،لكنه لا يعلم بالتحديد عمق المتاهة :ألن تستعبده هذه الطريقة فيضطر للشكلين معا،كما يضطر المدمن إلى زيادة الجرعة مع المدة لينتهي به المطاف إلى سبات طويل؟ من الأفضل أن يُزيح عن ذهنه هذه الخواطر،فاللحظة لحظة سكون وتصالح مع وجوده قلّما يظفر بمثلها، فليحاول أن يسترجع بعض المشاهد علّه يظفر ببرزخ مَلك عليه حكايته:كيف تتحول الكائنات الحية إلى جماد ثم تحيا من جديد.كيف يكون هذا البعث الخاص في دنيا العدم...

استراح على مقعدٍ قريب،وبدأ ينفض الغبار عن ألبومه ثم يفتحه.. على ظهر الصورة الأولى،لم يكن من العسير أن يتهجى حروفا يعرف جيدا أنه من خطها

(يا للصوّر

تكبر كالخميرة بين أيديهم

ولا يسألونك شيئا

تُقشّر رغبتك في الوجود

أن تكون...

أن تكون الأصبع الصغير لعازف البيانو هناك في الأغنية التي تلملم شرخ طفولتك ،لأن تكون شرنقة تواكب أحلامها في الصعود من زبد التجربة،أن يضيء سماء وجودك شبح رؤياك.البحر البحر..."البحر وحيد كأعمى" كما قال بورخيس. أن تخبيء في الدرج رحابة الحب.

احتجاجا على زغب العالم

سأقبل نفسي كما أنا

زائغ النظرة كفأر يسكنه القط

ملتاعا كفكرة الخلود

وأسكن هذا البحر)

قَلَب الصورة :سيحاول أن يرى مدى تطابقها مع تلك الخواطر .هاله التناقض بين الكلام والمشهد(هل من تناقض؟) فقدرأى على وجه الصورة حصانا تمسك به من المقدمة فتاة تضحك بطلاقة .هو خارج إطار الصورة ،هو من أمسك الكاميرا -في ظهيرة أحدٍ كما استعادَ -قرب البحر ليلتقط الصورة ،فكّر مليا كيف خطَّ ذلك الكلام! وبدا له أن ذلك المشهد كان على شكل ملتقى طرق تحولت فيه الكتابة عن مسارها حيث لم تعد تضبط الصورة ولا ارتعاش الروح التي تخلفه ،لا شك أن هذه اللقطة برزخ ألقى به في يم المتاهة التي خافها وفكر فيها للتو...كان عليه إذن أن يجعل هذه الصورة التي مزقت علاقته بالمَشَاهِدِ أسفل الركام ،على الأقل،انضباطا للتأريخ، كما لو كانت توقيعا،أو مِفصلا،كي يعرف كيف بدأت هذه الحكاية وكيف انتهت.وتساءل:هل كان يكرر مافعله الإنسان حين بدأ التدوين؟حتما أخطأ الإنسان حين بدأ التدوين،لأنه بذلك لم يؤرخ سوى لذنوبه...

عاد للصورة و تذكر على نحو واضح –كما لوأن الصورة لا تكفي- أنه رجع إلى المنزل وكان لا يزال محملا بأنفاس البحر ورائحته. كتب تلك الجمل دون تفكير،حاول أن يكيف الصورة مع المعنى ليفهم شيئا ما،ليحقق الانتماء لهذا الشيء ،ليعود قليلا إلى الانضباط الذي كسرته الصورة:فكر ساهما أنه داخل الصورة:في ذهن الفتاة التي ترفع الريح شعرها وهي تمسك بالحصان المتذمر...

3

في صورة أخرى ،لم ير سوى ظهرها،قرأ قصيدة كتبها على عجل كما بدا من خطها المتسرع:

(أنا البحر خيالك اللاهب

لماذا تغامرين في صوري

حتى وأنت غائبة؟

ينبغي ربما أن نتذكر جيدا

كل المساءات

واحتمالاتها المؤجلة

حتى يفصح بحرك هذا

عن اختماراته المعلنة

كوني صريحة كالشهوة

وسأكون جديرا بالثقة)

كان بوده أن يقلب الصورة، ليرى مدى تناسبها مع صوره الشعرية المبثوثة على ظهرها،وليعرف سبب إصراره على البحر والنساء . هل كان من الصدفة أن يقرأ قصيدتين متتاليتين كتبهما عن البحر والنساء؟ هل من شبه بين البحر والنساء في هذا العصر؟ساذج من يقول ذلك،فقد أماط العصر اللثام عن كل أسرارهن،والقدماء كانوا يشبهون المرأة بالبحر لأنهم كانوا يجهلونها بسبب التقاليد والتخلف كما كانوا يجهلون البحر بسبب قوته.لكنه رغم ذلك كان يريد أن يعرف هل تحمل الصورة ملامح امرأة أخرى،أم المرأة ذاتها؟وتساءل : هل تكون أصيبت صوره الشعرية بالعقم حتى غدا يكرر البحر دون غيره؟وهل تكون أصيبت الكاميرا بالشلل حتى لم تعد تمسك بغير وجهها ؟ورغم ذلك أتعبته الصور.فلم كل هذا التعب؟ماذا لو تنوعت؟هل كان سيصاب بالجنون؟

سوف يجهد نفسه كثيرا وهو يغالب رغبته في تقليب المزيد منها.وسيحلف أغلظ الأيمان أنه سوف يمزق كل الصور غدا.ربما لن يفعل ،قد يذهب إلى أقرب مقهى للأنترنت،هناك سيترك الصور على شاشة أول كمبيوتر يصادفه،عالما بيقين أن ثمة من سيراها،ثمة فضولي ما سيفتح ذلك الملف،عندها تصادفه اللعنة. وتساءل قبل أن ينهض من مكانه:مم جاءه هوس الصور؟من قلتها في الطفولة؟أم من كثرتها في الشباب؟

هو الآن في السرير،مدثرا بإحكام كخنفساء داخل القش،لحسن حظه فالبرد قوي بالخارج وصوته يجعله يتكاسل ويستبعد النهوض أو تغيير وضعه .ربما سيغلب رغبته وينام،وربما ستغلبه الرغبة،وقد تمر أيام وسنين كي يدرك أن الأجمل هو ما لم نقم به،ربما سيتعب أيضا كثيرا قبل أن يصل إلى تلك الخلاصة:أن ما كان يحاوله هو تكييف الوجود وضبطه،لكن دون جدوى.ما تفعله بنا الصور هو عكس ما نريد:إنها تحشرنا في النفق وتذكرنا بأخطائنا.على الأقل ،حين كان يستسلم لخواطره كانت تتجدد،تسير مع الزمن وتمنحه لحظات صفاء،كان ضباب همومه وتأملاته يمارس حقه الطبيعي في الوجود...ألا نكون أنانيين حين نفرض على أشياء العالم أن تكون كما نريد لها: خارج أذهاننا، وبالشكل الذي يلائمنا.وحين يحدث تلامس ما نهرب كمن يفر من عدوى.سوف يمر الزمن،وهاهو يقف عند حافته،مرتجفا من الحقيقة التي اتضحت له تحت سماء ليل متلألئ بالنجوم.خاف أولا ثم تشجع حين عرف مصيره، سارع إلى التصالح مع الصور،كمن يحزم حقيبة سفر على عجل. رأى جسده يتغير،رأى خلاصة نفسه ،رأى الصور تحكم الوجود وتشكل انتظاره،رأى نفسه نبتة لا تتألم،رأى صباحا ودروبا وإيماءات،رأى البحر راجلا ،رأى أديبا ينتحر لأن صوره باهتة،رأى صورة أم تعانق جثة ابنها الذي ابتلعه البحر،رأى ورأى ورأى ثم رأى القلعة...

عند القلعة قد يتوقف،هو الآن بين اليقظة والنوم،طعم الفجر في فمه ،يعلم أن الصور لن تنتهي،لكنه مطمئن كونه لا يرغب في الدخول،كونه لم يعد يرغب بعد في تقييد الصور ،يتكاسل ويلف الغطاء حول جسده ،يتأمل صوره الداخلية والخارجية دون وجل، ينام و يباشر صوره وأحلامه ، ثم يقوم ليبدأ نهاره الجديد ويُدَبِّجَ –حين توقظه الجلبة التي تولد تحت نافذته كل صباح-صوره الجديدة بخواطر وأشعار...

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

  Copyright © 2001 unecma.net