النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد
عبد العزيز الراشدي: طفولة ضفدع (قصص)

حـذاء المجتمع المدنـي

 

هذه حكاية تقلبت في ذهن رجل حتى مٌسخت.ما طالها شحوب التكرار ، لكن كاد.وهي ليست قصة، القصة أجدى بكثير، القصة وهم كبير.وإذا كان الشعر موجودا في خلف ما كما قال يوما شاعر عظيم فإن القصة على الأرجح كذلك.كل كتابة هي في ذلك الخلف، لكن الحكاية لا تحتاج إلى أمام أو خلف، إنها موجودة في كل مكان، مطروحة على الطرقات:حكايات في المقاهي والجرائد والإذاعات، في البارات وأمام المدفأة.في مقرات الأحزاب والنقابات، في التلفاز والراديو والحدائق.و لكن الحكاية قد تؤول إلى قصة عندما تصبح عسيرة مموهة عجوزا، مختلفة.

هذه حكاية حاول ان يجد لها صاحبها عنوانا ، وعندما فشل سماها :حذاء المجتمع المدني.كاتبها رجل يعشق التاوي في الأشياء، والحكاية مبنية على حقيقة او بعض حقيقة.

كان الكاتب يسير في الطرقات ويفكر في بدايتها.وحيدا، مهموما كمن فقد ظله، فأصعب شيء على كاتب بداية نص، إنها مُهينة وتجلب المتاعب، خصوصا حين يتعلق الأمر بسردٍ ما.وهذا الكاتب يتداعى ما إن يكتشف البداية، لكنه يعاني إذا تصلبت:القصة أنثى...

كان القاص يسير مفكرا في الحذاء وعلاقته بالمجتمع المدني.ولكون حذائه جديد، فقد فكر في بداية حية صادقة يستثمره فيها.

سنقول أنه اختار مقهى شعبيا يجلس فيه صديقان يدردشان حول القصيدة.لكن أحدهما، وهو الكاتب نفسه، والذي لا يستطيع سوى أن يحشر نفسه في كل نص، سيظل متساميا، يعيش عالمه، ويفكر في حذائه اللامع الجديد ، الذي لا يحتاج إلى مادة تُلمعه:تكفيه خرقة عادية يَمسحه بها ليبقى جديدا على الدوام، كما أكد البائع.أما صديقه ، فظل يطرح طوال الجلسة تصوره للقصيدة، وحين ينحني ليلتقط شيئا ما يفاجأ بحذاء صديقه فيصبح موضوع الجلسة بدل الأدب.

فكرة الكتابة عن الحذاء ليست تافهة أو سيئةكما قد يرى البعض، فتأمل أحذية الناس طريق نحو إدراك هوياتهم:الأغنياء مثلا ينتعلون أحذية غالية، وتكون في الغالب ملمعة، وتعطي انطباعا جديا بالاحترام.أما الفقراء ، فأحذيتهم بالية من كثرة المشي ويغطيها غبار المسافات.وحتى لو حاولوا تلميعها تتكرش.

ستتطور القصة في ذهن الكاتب، فيفكر في مزايا حذائه العجيب:كيف ساهم الحذاء مثلا في إذابة الجليد بينه وبين نورا.كانت تلتقي به غاضبة، ثم تلين حين ترى حذاءه الجديد اللام.

أما في الحزب، فقد كان الحذاء يحل المشاكل حين يسود الخلاف النظري وتتعقد الأمور، فقد كان يرفعه ويهوي به على الأرض فيسود الوجوم:كان الحذاء إذن وسيلة بيداغوجية للإقناع.

بعد قراءة ما كتب، سيكتشف تفاهة البداية والمضمون.القصة نسق، وكل ما يرد فيها ينبغي أن يخدم الحدث.فما علاقة الشعر بالحذاء؟ ثم، ألا يبدو الانحناء لرؤية الحذاء في حديث ما نوع من إسقاط الطائرة في حقل الحكاية؟ليبحث إذن عن بداية مريحة مناسبة.

سوف يبدأ هذه المرة، بعطف زائد، مفيدا من قدرته على الحلم، فيكتب عن المطر، وعن زقاق مغلق، وأناس يفرون من الرذاذ، لكنه لا يهرب.ودون أن يتوقف المطر، تنفتح السماء فجأة فتسقط أشعة الشمس على جسده المبتل، يتسرب الماء البارد من أسفل حذائه القديم ، وفي الوقت ذاته، كما لو ان الأمر يتعلق بلقطة سينمائية مركبة، تنعكس الأشعة على زجاج محل قريب لبيع الأحذية، فيظهر الحذاء ويقرر شراءه.

المسألة معقدة قليلا، بها نوع من الصناعة والافتعال، لكن هذه البداية بدت للكاتب افضل من تلك الواقعية جدا...

غوصا في الهامشي، سيضيف أحداثا إلى قصته:يسير في الشارع، وينظر إلى أحذية الناس ويقارنها بحذائه.ويظل يحلم بنورا تسير أمامه عارية ، لا تنتعل سواه ، والشعر يسقط على الظهر.

"وذات يوم، كنت في المنزل، مسحته بعناية ووضعته.ثم ابتعدت عنه قليلا وفكرت ُ بعد التأمل:كيف سيكون مصيري في الحياة دونه؟ سمعت طرقا خفيفا على الباب، فتحت فانزلق صديقي إلى الداخل دون أن يُسلم، اتجه نحو الداخل مباشرة، حمل الحذاء بين يديه لبرهة فخفت أن يطلب استعارته مني ، لكنه وضعه برفق ومحبة ، وانبرى يحدثني ببطء وهدوء عن الأحذية ، لوقت طويل، حتى سقط الظلام دون أن نحس به:عدَّدَ مزايا وأنواع الأحذية وتاريخها ولم ينس نظرية التطور الحذائي..وحين انتهى، رفعه من جديد، ثم هكذا، بعينين مغمضتين، وفرح طفولي، ودون حياد، فاجأته الحكمة فسماه:حذاء المجتمع المدني."

الآن، وقد اطمأن الكاتب لمسار القصة، ينبغي أن يسعى للنهاية.كان قد خبأ نهاية مأساوية لحكايته يصبح الحذاء فيها نسيا منسيا:هو داخل الغرفة يسمع الموسيقى والحذاء في القمامة تأكله الرطوبة، أو مرميا في حديقة المنزل معبرا عن تفاهة الحياة التي تمر دون أن تلوح حتى بيديها.لكنه ظل باحثا عن نهاية أكثر حرارة وجدوى، كأن يكون الحذاء بطل هذه الخرافة سببا في تغيير حياة الكاتب، لذلك سهر أياما يبحث عن تخريجة لذلك، ثم اهتدى إلى أن ما يغير الإنسان هو اقترابه من الموت، فقرر أن يجعل نهاية القصة هكذا:يدخل ذات مساء إلى الغرفة فيجد الحذاء مرميا في العتمة، لكنه لم يفطن إلى كون الكومة ثعبان كبير...

في مقر الحزب، سيقرأ بعض رفاقه القصة ويتفكهون بمزاجه الجامح وفكره البرجوازي الصغير.يشبعونه وقصته نقدا سياسيا مبرزين تفاهتها لأنها بعيدة عن الواقع، ويؤكدون أن الأساسي في الحياة ، هو أن يمزق المناظل حذاءه جريا وراء قضية.أما صديقه الشاعر فسيقاطعه مدى الحياة لأنه أشار إليه في القصة باقتضاب لا يلائم قيمته الأدبية.

ونورا، الفتاة التي قبلها على علاتها، ستتركه كي لا يجعل من المشترك بينهما الأكثر إحراجا لها، موضوعا لقصصه القادمة.

في مقهى بعيدة، في مدينة لم يطأها الكاتب قط، سيجلس شاب على كرسي في مقهى ما، يقرأ القصة ويعيدها، يحمل القلم ويحاول محاكاتها، يحاول تبين الخيوط الفاصلة بين الحقيقة والوهم، ويتمنى لو التقى كاتب القصة الموهوب.هذا الذي يعرف كيف يتوغل في الوجود التاوي.

لكن الكاتب، بعد تفكير عميق، قرر ألا يكتب حكايته، لأنها تجلب له نارا قريبة، وإن كانت تسقيه بردا وسلاما بعيدين لا يدركهما.

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

  Copyright © 2001 unecma.net