النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد
عبد العزيز الراشدي: طفولة ضفدع (قصص)

ما يفعله بنا الرباط

 

1- باب شالة:

في باب شالة تتوقف الحافلة رقم 27، يتأمل ركام الناس وهم يتدافعون نحوها كسيل فيتراجع، تتداخل الوجوه والأجناس ثم تهدأ فيصعد ويتشبت بالأعمدة، يتنفس الدخان و المشهد المعتاد لبشر يترحلون بين قرية أولاد موسى وقلب المدينة، يتقدم باحثا عن فراغ لجثته المتعبة.

الحافلة مخنوقة، كما ينبغي دائما، لذلك اتجه نحو نهايتها، مدفوعا بأجساد سمينة لم يأخذ منها الزمان حقا ولا باطلا، كانت تدعّه الأكتاف والأيادي بعنف،  خفي أحيانا ، ظاهر غالبا. وفيما كان يخطو، يعوم، باتجاه نهاية الحافلة، متلمسا الأعمدة، معتذرا عما لم يفعل، تتجه نحوه نظرات لا تلبث أن تخبو، فيتعرق وتضايقه ربطة العنق. .

كان يلقي بنظره المتسائل على الركاب، باحثا عن مقعد فارغ، وسط رائحة العرق والعطر، مستكشفا ملامح مهمومة، حين اصطدم بكتف الجابية.

هي لم تلق بالا لحادثة صغيرة تعودت عليها، أما هو فحدق في وجهها لبعض الوقت:شاحبة، بنظارتين تغطيان كامل العينين، وكانت مسحة الحزن الطالعة من خلف الزجاجتين بادية. وعلى الشفاه اليابسة المزرَقّة، تمكن من ضبط القليل من أحمر الشفاه. بكثير من العناية غطت شعيرات خفيفة جبهتها المندفعة، لكن دون تكلف أو إدعاء. فكّر في مصير امرأة تتجه نحو المجهول. .

قدَّر في ثوان أنها عانس، لا خواتم في أصابعها. وقبل أن تنزلق، وتتملص من المصادمة بدربة، توقف الأتوبيس فنزل خلق كثير، عنَّ له وقتذاك أن يظفر بكرسي، وتمكن فيما استعاد أنفاسه أن يراقبها بوضوح، تعمل بهمة في ثياب العمل القديمة الزرقاء الباهتة، وتمكن أيضا أن يجعلها موضوع تأمله الشخصي. .

تخيل كم جسدا ضم تلك الكسوة، في واقع عمل لا يهدأ:الذاهبون فيه أكثر من القادمين.  وبدا له جيش العاملات يتناوبن على الكسوة والطرد والتحرش ،  ثم تخيل جسدها عاريا دون كسوة، جائعا،  ظمآنا للعناق،  فاجتاحته الحرارة .

لم تكن على قدر كبير من الجمال، لكنها مقبولة على العموم، لذلك اعتبرها سهلة كالعادة.  وضع النقود في يديها ببطء عندما اقتربت وناولته التذكرة، ثم أطلق كلامه الضروري:

-عجبتيني. باغي نهضر معاك.

للحظة رفعت عينيها باتجاهه، تأملته مليا كما لو اكتشفته للتو، واكتسى وجهها تعبيرا خاصا:اندهاشٌ أم احتجاج؟ ثم هاهو وجهها يتورد:غضبٌ أم خجل؟لكنه كان قد قطع الطريق الأصعب،  وترك نفسه معلقا في فراغ نظرتها.

لم تجب .  خفضت نظرها ومضت.

وهي تعمل، كانت تتجول بحرية في فضاء خَبرته جيدا، تمارس عملها محاولة أن يكون طبيعيا دون أن تفلح، تحاور وتجادل ، تقطب حين يكون ذلك ضروريا،  تحاول إخفاء ارتباكها، ثم يغالبها الفضول فتحول بصرها نحوه ، وترسم على شفتيها طيف ابتسامة. يدرك وقتها أن فكرته تعيش معها فيبتسم كمنتصر.

لم تجزم، كانت ابتسامتها بين القبول والرفض، متحفّظة كنقطة نظام وسط نقاش، لكنه الدائم الحظوة عند نفسه، اعتاد أن يرى نصف الكأس الممتلئ، لذلك بدأ يرسم الخطط.

ليست سوى مسألة وقت، سوف يصل المحطة عما قريب، ويكون لديها ألف عذر لتغادر عملها قبل الوقت. سيقصدان منزله القريب.

الموسيقى خفيفة و الكأسان على الطاولة.

ينزع النظارتين ويرفع خصلة الشعر الخفيفة عن الجبهة الشاحبة ثم يعتصر العظام الناحلة.

ما أصعب الأقفال الصدئة.  جسدها سيرسم لوحات خرافية في الهواء، ستنقب عن لذة مضاعفة ، تمتصها من الأشجار والدروب والليالي. .

أما هو،  مدفوعا بالواجب، فسيغلق النوافذ كي لا يتسرب صوت الآهات خارج المنزل.

كان غارقا في أفكاره والحافلة تسير حين حدث ما لم يكن في الحسبان…

2- باب الضيق:

جرِّب حظك مع أنغام السمفونيات،  في شارع محمد الخامس، حين تنمو السيارات باتجاهك والناس "المكرفطين" .  تنمو السيارات باتجاه النافورة وحول أذنيك الموسيقى.

هل من معنى لأن تعبر قنطرة النهر؟ لأن تلقي بنفسك في مغامرة غير مأمونة العواقب؟ الحافلة كادت تدهس نهر أبي رقراق والجابية أخلت الطرقات من المارة الذين جاؤوا يقترفون التلصص عليكما. هل من معنى لاختيارها القنطرة كي تصنع مغامرتها؟يا للهول!تُوقف الأتوبيس وتُلقي بالناس إلى الخارج وتقترب منك ، يملأ عينيها الشبق. وأنت، ماذا دهى حاستك العاشرة، لطالما كنت حذرا. . أوف. . تقف أمامها دون حراك وتتقيد بتعليماتها؟

هل من معنى للعالم الآن حين يمر نهارك كغيره في مدينة الأقنعة ؟قهوة مرة في باليما، وعناوين لا تمنح جديدا . صاحبك لم يأت ، والصحبة قليلة هذه الأيام. تمسح عقب السيجارة، تهندم قميصك وسروالك،  تتطلع إلى الخبر الأخير في الجريدة عن رجل مهندم وفتاة تذاكر أوقفت الحافلة التي كادت تدهس النهر وأنزلت الناس وفي عينيها شبق الدنيا كاملا. تدخل دورة المياه وتخرج منها، تتحسس جيبك المنتفخ بالمسودات التي أصبحت تجلب لك السخرية وفضول الناس. تنظر ذات اليمين وذات الشمال كلص ، ثم تُخرج قلما وورقة وتخط عنوان قصتك الجديدة:

RABAT

سلا في يونيو2001

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

  Copyright © 2001 unecma. net