ماتفعله بنا الحروف
"المعرفة حزن"
بايرون
1
لا يتعبك كالوصول شيء. تتعجله على الدوام لكن رحيقه
يُدوي حين تصل . تُدحرج خطاك دوما باتجاه الأمكنة المعتادة التي لم تستطع أن تكبح
جماحها رغم السنين، تُسرع لتصل ثم تتعجل الرحيل. أي مارد يجري منك مجرى
الأعصاب؟
حين نلقاك نذكّرُك بالطريق: برزخٌ ضروري للكائن.
تُحرّك رأسك المتعب علامة الموافقة ثم تسير. نعلم أنك تسخر منا في داخلك. تسخر من
رؤيتنا البسيطة للحياة لأننا لا نُدرك شيئا عن وجود الإنسان . . .
لا تتركك المدينة تَهنأ أبدا. من زاوية إلى أخرى
، يحل الليل فتقصد الشقة التي تتقاسم مع رجل لا يُكلمك إلا لماما، تتفرج على
قتلى الحروب وأجساد المغنيات، وعضلات الهوليوديين وتنام. . .
قُلت لنا ذات يوم عن مسار حياتك : عن خوفك
الدائم غير المبرر من أشياء كثيرة انطبعت فيك منذ زمن، عن وهمك الذي يُتعبك كلما
انسل إلى القلب، قلتَ كم تُدغدغ المضارع حرصا على توازنك الهش، ثم قلت لنا عن شقتك
الصغيرة، أشياء صغيرة تربط معها علاقة خاصة جدا: عودك وتلفازك وكتبك المتناثرة
وقطتك الصغيرة. .
كالعادة تصحو على صوت المنبه فيجيء شريط أيامك
الذي ما استطعت يوما نه فكاكا: وجبة باردة لا تعرف كيف تجعل السخونة تغزوها، الوهم
الذي ينسل إلى ما تحت القميص، يدغدغ أعضاءك، أحصنة كثيرة تتسلل إلى الصدر بعده ولا
تعرف كيف تكبحها ، فصول ضيقة من الطفولة تهرب منك . إحساسك باليتم الوجودي كلما ريح
شديدة هوجاء تعبر شارع المدينة ويكون الضوء كاب. .
في المقهى تلوذ بنفسك، نهرب إلى صمتنا حين نحدثك
ولا تجيب. تسألنا كمن تلسعه سياط الهلوسة: من يمسح مخاط الجداول؟ من يمسح دمع
الكائنات الفانية؟
ونحن معك، كم تتفنن في استدعاء طفولتك،
ملاذك الأخير رغم كل شيء. تترحل في كل الزوايا ، تمشي ساهما يكاد الناظر يرى أفكارك
وهي تسعى، ثم تحكي لنا بغزارة عن صباحاتك التي تستيقظ فيها صافي الذهن والسريرة
فتأتيك الصور والحروف لذيذة، عن الشاي الذي تُصر عليه في مقهى" التمور" كي تقبض على
كائنات تبثها في نصوصك الجديدة، عن الأمسيات الباردة حين يسقط الضوء الخفيض
على الشارع فتفكر في الحياة من جديد لكن بلذة وتوقن أن "على هذه الأرض ما يستحق
الحياة". . .
تصمت فنهرب إلى الوجوم احتراما، توشك أن تنطق
بشيء ما لكنك تحجم، ثم تفيض فتحدثنا عن هذه المدينة المغروسة في الصحراء: أي جني
رمى بها وسط هذا اليباب؟وأي جني رمى بك بين أسوارها. تحكي عن كل شيء في المدينة:
الوجوه المكرورة ، الأسماء نفسها، الحركات نفسها، كل شيء ساقط في الرتابة. . .
قبل أن نضجر من تشتت الخيوط عند بوابة حياتك،
تقفز إلى المغزى فتحكي لنا عن مهمتك: القول. . . تحذرنا منه ، فالإنسان
لا يِعرف مأساوية مصيره حين يبتلي بالقول إلا في النهاية، لا يعرف أن الريح تلعب به
لا معه، يتخبط في دروب الحياة كفأر ٍ يتيم في البداية، ثم يصل إلى الخلاصة: يُدرك
أن كلامه لا يُسمِن وأنه لن يخلد ولاهم يكتئبون.
تركبنا الحيرة، نحاول التسرية عنك لكنك تستقيم،
تقول أن لمصيرك مع القول وجهان: إما أن تتواطأ مع الحياة، وتعرف أن أصل مهمتك أن
تتكلم وتمضي، وإما أن تنتحر. . .
-أما أنا فلن أنتحر،
ولن أتواطأ. أنا صحيح متعب وحيران -لن أكابر-لكنني لم أفقد بعدُ البوصلة. . .
نتلفت يمينا وشمالا خوفا من أن يراك زبائن
المقهى، أو يسمعوا صوتك القوي الذي يكسر صمت المكان، ثم نتنفس عميقا حين نُدرك أنك
كائن مفترض، وأننا نصنعك للتسرية عن أنفسنا ، نحن جماعة الحمقى، ممن يلهيهم القول
ويفسد عليهم حياتهم. نعلم حقيقتك حين نرى الناس يتابعون" الريال" و"البارصة" كأنك
عدم. رغم ذلك نتابع بحرصٍ شديد كلامك:
-"اللّي عْيَا يْشَدّ
الأرض "كما يقول أبي، وأنا على الأرض. الأرض علي والقلق، أحس الغثيان
وتبغي معدتي الهروب، بين المنزل والمقهى. أحاول أن أهرب من الصور. لا أسأل عن أي
شيء: لا عن طيف الأقلام ، لا جدوى الأحلام. مذاق الحروف يبدو لي بطعم "الببوش"،
تداهمني الرائحة فيطلع جوفي إلى الحلقوم وأشد الأرض. . .
نكتم الضحك ، نصنع وجهَ الجادين محاولين التسلل
مزيدا إلى عُش روحك، تفسِّر سُهد الليالي، حين تخرج عليك كائنات ملثمة كي تُطعمك
الحروف، حين يضع رجل ما ، لا تأتيك ملامحه الآن، أمامك حزمة الجرائد والكتب ،
يُخرج الملعقة من جيبه ويبدأ في إطعامك الحروف، تظل تغرفها وتشرب طعمها فتهيج في
داخلك الأنهار والأشجار وخط الاستواء ومولانا جلال الدين وأبو العتاهية وأبو العلاء
المعري. تركلك كل حمير الوجود، هناك بالضبط، في منطقة الكتابة من الجسد :
تماما تحت الحزام . . .
2
نتركك ونمضي متعللين بانشغال ما، وتظل في المقهى
ذاتها ، حيث تبرد قهوتك ، -كما حكيت وتحكي -ويمر المتسول ذاته للمرة العاشرة
على طاولتك ، تتذمر ثم تفكر هل أنت الرجل نفسه الذي مر عليه المتسول؟هل أنا
الرجل ذاته الذي ابتسم في وجه نفسه حين نظر في مرآة مضببة؟تنظر إلى الطاولة
المجاورة حيث يجلس رجلان يثرثران عن المباني وغلاء الإسمنت، يضحك أحدهما ،
فتحزن لأنه لا يتمتع بهبة النسيان والتماهي ، لكونه لا يعرف أنه واحد من شخوص
مسرحيتك القادمة، ثم تقول أن الحياة لا تستقيم بل تتعرج.
ونعود بعد أن نشتاق إلى خيالك من جديد، هكذا
نحن، نكاد نشبه وجلك وترددك القاتل، لا تستطيع الصبر على الكلام، تحدثنا عن كتابك
الجديد، عن الواقعي والخيالي. . تريد أن تكتب عن المرأة حين يسيل لعاب أصحاب
الشوارب المعقودة. تصمت لبرهة لتلتقط -كأنما الحياة تبعث إليك بالرسائل-ما قاله رجل
ضخم البطن بشكل يُثير الشفقة لامرأة تمر أمامه بعد أن التفت يمينا ويسارا شمالا
وجنوبا :
-عينيك ألالا
حَرْشِين. كيعذبوني.
يقولها ويعود إلى الالتفات بحرج ثم يطلق ضحكة
فتضئ الشمس صلعته ويبدو شاربه كبيرا بشكل مبالغ فيه. . .
قلتَ لنا أنه أحد شخوص مسرحيتك القادمة، "لاشك
أنه من المستثمرين الجدد ، ممن استفادوا من وضع المدينة الصغيرة، يصنعون صورة الغني
بفقرها، جديد ولا شك فأنا لم أره من قبل. تكاثروا كالعشب الضار مؤخرا وضاقت
بهم المقاهي. هو مادة دسمة لنص ولا شك، لكن الحروف بطعم الببوش ولا أستطيعها.
أريد أن أكتب عن شيء لا يموت. . . "
في المقهى ذاتها، حين غادرناك ذاك المساء، بدأتَ
في الكتابة، كما قرأنا لك في ما بعد، عن رجل مخبول يفكر في معنى الحياة على
الدوام، موقنا أنها سلسلة إشارات مترابطة، وحين تسمع كلام البدين تتأمل في مغزاه ،
وفي علاقته بوضع الرجل، هذا الذي على الدوام يسير في الأسواق والشوارع ليلتقط
مفردات يعتقدها ستؤثر في مسار حياته. هذا الرجل يسكن لوحده، ولا ينفك يتأمل مغزى أي
شيء مهْما كانت بساطته، يحب النساء ويرتعش للجَمال، لكنه يتمنى ألا يُضطر للزواج،
لأنه يقتل الحب. ويطمح في حياة هادئة مع رفيقة لا تسكن معه، بل تعيش في مدينة قريبة
كي لا يملان بعضيهما: تجيئه في الآحاد، ثم تغادر طوال الأسبوع . عملها يقتضي
أن تعد تقاريرا دائمة لمدير مُسن مُصاب بالسكري ، ينحني أمام رؤسائه بخشوع،
ويفكر في ابنه الذي أوشك أن يتخرج، قلقا على مستقبله ومُرتابا، وبناته الخمسة
اللواتي كثرت مطالبهن، دون أن يظهر زوج واحد.
ثم يسترسل الرجل المخبول ويقول أن أجمل حب هو
البعيد : منفصلين ونلتقي مرة في الأسبوع بعد أن يشتعل الشوق بيننا .
أجمل الأشياء ما ينتظر الحدوث. . .
تظل المرأة طوال الأسبوع تعد التقارير، ثم يحاول
المدير إغواءها فترفض لأنها مرتبطة. تخرج من مكتبه بعصبية، فيجلس على كرسيه،
ويفكر أنه أخطأ كثيرا. يخاف أن تشي به، ولا يعرف هل يرضيها أم يهددها كي لا تشي.
وهي ، تذهب إلى المنزل، فتتذكر صديقها وأحدَها
القادم ، ثم تحس ندما خفيفا لأنها لم تستجب للمدير ، وتتساءل إلى أي مدى يُخلص لها
الصديق وهما مرتبطان بهذا الشكل؟
ودون أن تفسر لنالم َ تُعاني شخوص قصصك كل هذا
الفصام، دون أن تعترف أنك الرجل، وأن الفتاة ليست سوى سعاد التي تخاف الارتباط بها
كي لا تسقط في حفرة الالتزام وتربية الأولاد، تسترسل ونحن آدان مفتوحة: "قد
يتسامح الرجل مع ندمها قليلا فهو سمة البشر، لكن على ألا يتحول إلى إعادة نظر في
الأمر. إنه يُفضل أن تتجهز للقائه ، بسرعة وشوق، حتى أن المشط سيسقط من يدها من
اللذة والارتباك وهي ترتب شعرها.
تأتيه في الأحد ، كالعادة، فتصعد الدرج، لديها
مفتاحها، يجدها جاهزة. "
عند هذا الحد ينتهي تأملك، وانغراسنا في حكايتك
المغرقة في التفاصيل ، هبتك التي نحسدك عليها، فلسوف يتكلم المستثمر صاحب البطن
الضخم من جديد فتتابع ما يقول وتدونه. . .
3
في العمارة ذاتها، كما يحدث وسيحدث ، حيث يسرق شخص
غير لطيف مصابيح الدرج، في المنزل ذاته، في الغرفة ذاتها، دائما دائما دائما،
يُرهقك الظّل اليسير وراء المزهرية، تحاول التوقف عن مضاهاة عينيك بعيني
النمر في الفيلم الوثائقي، تحاول التوقف عن صناعة المثلثات بزهور الستارة التي تغطي
النافذة، وتشم صورة المرأة التي تسكن في المدينة القريبة في كل مثلث ، تكاد لا
تفارقك ذكرى ذلك اليوم الذي تدثرتما فيه بالستارة لأنكما تناومتما وأنتما تطلان من
النافدة على أضواء المدينة الكابية، تشتهي جسد امرأة المسلسل الذي يشبه جسدها حين
تلمس الموج بنهديها فيرتجف الموج من الشبق، تغلق التلفاز و تطل من النافذة
فترى الطريق وأضواء المدينة اليسيرة، تعود إلى مكانك وتفكر أن هذا آخر عهد لك
بالقول. تسال نفسك : هل أنا المقاول ذاته؟هل أنا الرجل المخبول أم المدير؟ومن
هي الفتاة التي كلمها صاحب البطن الغليظ أليست فتاتي؟
نغتم كثيرا لوجودك التالف، نفكر أيضا في الكتابة
عنك و عن كل الشخوص بصيغة الغياب كي نقتلهم، كي لا تكتئب، كي نشاركك الهم،
نجتمع لتدارس أمرك في غيابك، نحاول إقناعك بالعدول عن التفكير في كل شيء دفعة
واحدة، لكننا نجد أن كل الكلام عاديا، فجأة قيل كل الكلام. .
تهيج الرائحة اللعينة وتهاجمنا، ونعرف أننا لن نقدر علىمساعدتك، نعرف
أن الوهم لن يبزغ من جديد وأنك انحدرت . . صافي. .
نعرف مصيرك فنحزن، ثم خوفا من أن تفعلها بنا
الأوراق ونحن لا نزال صغارا(حليب أمهاتنا في افواهنا) نهرب ولا نعود للقائك. .
|