النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد
لطيفة باقـا: ما الذي نفعلـه؟

هذا كل ما في الأمـر

 

 - انظرا معي.. فرويد استغل الأسطورة في تحليلاته السيكولوجية.

خذا مثلا ما أسماه بعقدة أوديب.. هناك أسطورة تتحدث عن أوديب هذا، أسطورة يونانية قديمة.. إنها حكاية رجل تزوج أمه وقتل أباه...

كنا ثلاثة وكان الجر حارا ولم تكن الحافلة قد وصلت بعد...

- يمكن أيضا اعتبار عقدة أوديب... في نفس السباق عقدة الأب... فتحت "هي" عينيها مندهشة بشكل مسرحي.. كنا نعرفه جميعا..

- ياه.. هذا مثير تماما... ومن فرويد هذا؟ نظر إليها باستغراب.. ومضينا أنا وهي بعيدا نتمم ما بدأناه من ضحك.

- العيالات.. سوق مطيار.. قال وهو يصارع عدوى الضحك...

- العيالات.. قلت؟ توقفت هي متسائلة وهي تقاوم هستيرة الضحك..

والرجال أيضا.. ولم يسمعني أحد..

واقترح إحدى مقاهي الشارع.

طلبنا جميعا قهوة سوداء وسقط كل واحد منا في فنجانه.. كان الراديو يقدم نشرة الأخبار. مضى على هذا الآن ست سنوات. اعتقد أننا لا زلنا أحياء وأن الأرض لا زالت كروية بحيث يمكننا أن نلتقي يوما ما.. صدفة، وندخل إحدى مقاهي المدينة ثم نطلب كما في ذلك المساء البعيد قهوة سوداء ليعلن كل واحد منا مع نفسه بسرية تامة أنه يرى فيها مرارته الخاصة. فيتحدث هو عن فرويد وعن ذاك الذي ضاجع أمه في الأسطورة وتختلق هي طريقة تسخر بها من معرفته "العلمية".. أما أنا فأفضل غالبا أن أبحث عن أوديب حولي لا تنهي بحكاية ذلك الذي كان يجرع أمه العجوز كل ليلة حبة منومة ليمارس عليها الجنس إلى أن تكتشفه ذات ليلة فيلقى به في السجن بتهمة نكاح الحرمات التي حرم الله وهي الأم والجدة والأخت والخالة والعمة... القائمة طويلة..

الحافلة تقترب من محطتي. وضعت يدي على كتف الرجل أمامي لأقف، فوقع الكيس البلاستيكي وتناثرت علب الأدوية. انحنى الرجل يجمع معي ما سقط.. فكرت أن المشهد سينمائي تماما.. هكذا يصور الكثير من المخرجين بداية علاقة ساخنة أو خطيرة.. أو فقط عابرة أو أي نوع آخر من العلاقات التي يمكن أن تربط رجلا بامرأة. وضعت الكيس تحت ابطي والحقيبة على كتفي وشطرته دون أن أرفع نحوه رأسي. وأنا أقف عند الرصيف رفعت رأسي نحو المكان حيث تركته. كان ينظر إلى من خلال زجاج الحافلة ويبتسم.. أيمكن أن يكون هو؟ ابتسامة تقول إنه هو بعد ست سنوات … القهوة السوداء والمرارات الشخصية. لوحت له بيدي، رفع لي يده وكان يبتسم بسعادة!..

كنت أعلم أن الحافلة ستجمعنا مرة أخرى وربما دخلنا إحدى مقاهي المدينة...

وحصل. كان رأسه يخرج من ربطة عنقه الحمراء المخططة ويداه بدتا مهزومتين خارج الأكمام السوداء.. رأيت بعض الحلقات من سلسلة ذهبية تلمع على معصمه.. حدثني عن همومه طويلا ثم عن طموحاته.. قلت لنفسي لقد " هرس له الزمن رأسه "..

وفي لحظة عم صمت نعرفه جيدا.. اسقطنا عيوننا في فنجانينا وكانت القهوة.. سوداء.

سألته عنها.. قال إنه رآها صدفة وكانت ترتدي معطفا ثمينا وتتأبط ذراع رجل..

ضحك عندما علم أنني لا زلت أبحث عن "ذاتي" ولم يفته أن يعلق على ذوقي في اللباس كما في الماضي.. ثم استغرقنا في فنجانينا مرة أخرى.. كلانا يسبح في فنجانه.. في هذا السواد الهائل الذي يبدو بلا قرار ولا نهاية... كأنه فهم الغول.. جوفه.. الغول العظيم.. غول الحكايات القديمة والخوف القديم.. العتمة التي تأكل أعضاءنا الصغيرة.. هل كبرنا فعلا؟

- من منا نحن الثلاثة تعتقد أنه كبر فعلا؟

سألته كي نصعد أخيرا من الفنجانين..

- لم يكبر أحد.. ثم إن.. العيالات ناقصات عقل..

أردت أن أقول إنني تأكدت مؤخرا أن الرجال أيضا..

فتحت فمي.. فوجدت أن الأفضل دائما أن نضحك وليقل كل واحد ما يريد.. هي الآن تلمع وسط المعادن التي لا يمكنها أن تكون أكثر من معادن في النهاية.. وهو يخرج رأسه من ربطة عنق مخططة ويتحدث عن "العيالات".. وأنا أضحك دائما، لأننا نضحك حتما عندما نكتشف أن الغول لا وجود له... وأن أمهاتنا وآباءنا وكل الكبار الآخرين كانوا متطرفين في سخافتهم.

جدتي مثلا كانت تمنعنا من النظر في عيون "النصارى" الزرقاء العميقة. تقول أن ذلك حرام وأن النبي محمد نهى عن ذلك.. ثم تضيف أن ذلك حرام حتى ولو في التلفزيون.. كنا جميعا نحاول أن ننظر إلى الأشياء الأخرى المحيطة.. لنتفادى النظر إلى العيون الزرق.. لكن الصورة كانت أحيانا تحاصر تلك العيون.. تقربها.. فتكبر العيون وتشمل كل الشاشة.. عيون صافي مشحونة بالحرام.. نرفع أيدينا الصغيرة إلى أعيننا وننتظر مرود المشهد.. وبين الأصابع الصغيرة.. كانت الرغبة في الاكتشاف تتسلل وتعانق الحرام.. فنضحك.. نضحك ملأ خوفنا ونرفع أيدينا عن عيوننا.. وننظر أمامنا تماما..

- نضحك دائما بعد اكتشاف الخدعة..

إحدى يديه تتحرك من جيبه لتدفع أرنبة النظارة.. يفتح عينيه ولا يقول شيئا.. سأخبره بما أفكر فيه:

- أعتقد أنني ربما أخذت قهوة بحليب في المرة القادمة.. وقفت وصافحته ثم اتجهت نحو محطة الحافلة...

 

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

  Copyright © 2001 unecma. net