النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد
 

:::: الحسين قمري، هديل الروح، شعر،منشورات اتحاد كتاب المغرب، 2000، 70 ص.

·مقاومة الغياب

بقلم بشير القمري

 

يحلق "هديل الروح" كما حلق في السابق شعر حسين القمري في "ألف باء" (76، ديوانه الأول) ثم في "كتاب الليالي" (91، ديوانه الثاني)، في عدة أرباض وتخوم متراكبة، أبرزها ربضُ اللغة الجزلة المحنكة التي نذرت وتنذر نفسها وشحنتها ونبراتها لمقاومة الغياب، كل الغياب، ومن ثم تفك عقدة "لسانها" وتمدّ –وتمدّدُ أشرعتها المثخنة والمحركة لتنشرها في وجه كل احتمالات التوتر والانصهار كي تتشكل، عن قصد ورغبة سنخيين. في أرخبيلات التدال النصي عبر أرحام منسية، مكبوتة، مدفونة، متروكة للهجير والصقيع معا وللظى أحبةٍ من أهلها تركوها مسبية، مطنبين فيها تارة، وتارة أخرى متحذلقين في عشقها، على ناصية الغواية الموؤودة في الذاكرة، على قارعة الهجر والنسيان :

أليس التناسي – وهو أقسى درجات النسيان- قريبا من "لموت الريحم" L’euthanasie .

إن بلاغة "هديل الروح" في هذا المسرى والمجرى، بلاغة اكتناه سحيق تمارس غوايتها هي ، كل غواياتها المؤجلة، وتقتنص- في سمو معجمها الباذخ وتشخيصها البلوري الشفاف، متعة انشائها واحتفائها باللحظة، -الكلمة- اللفظ- وبالتركيب في السبك الشعري، بنوع من الاتساق الذي يتضمن للإنثيال رونقه، اتساق وانثيال يحتدمان ويذكّران بانسياب مياه الشلالات ودفقها المتوثب حباباً، كأنه اللجين يندلق، ويأتي ذلك، كل ذلك، بنفس وجرس شعريين متعاليين موغلين في الترصد، ترصد بلاغة رُخامية تنسكب وبنبعثُ حرائق وموجات لاهبة حين يخضخضها حسين القمري لتزداد توقدا واشتغالا، كالجمر، في خرائط نسيناها لشدة السهو والإمعان في تفاصيل الغياب وفي مراسم الفقدان.

ولأن حسين القمري شاعر بالفعل، بالسليقة والقدرة على التقاط كيمياء الحياة والعناصر والأشياء، وعلى اختراق هندسة المكان، من حوله، والاحتفاظ بذلك ليختمر أكثر، ولكونه تنقّل، على امتداد قرابة أربعة عقود متواصلة عبر عدة قارات شعرية، حتى لا أقول "أشكالا" شعرية، منها العمودي أساسا، و"الوطني" و "التحريضي" و "الواقعي" برنامجا ومسارا،

خاصة في السبعينيات، ويأتي كعادته، من عمق مشهدنا الشعري المفتوح، فإن أبرز مكون لديه يتمظهر في شعره – نصوصه- كتابته هو الصياغة الفيحاء الأنيقة، ونحس، ونحن نقرأ نصوص "هديل الروح" أننا نُبحرُ في واحة ظليلة نهتدي إليها بعد ترحال طويل في يباس التجريب المطلق الذي دمر روح الشعر وأتلف شعرية متمزقة الإهاب بفعل هوس حداثي معطوب، يرتدي كل المعاطف والأردية ولا يحسن الإيقاع بنا.

عندما نقيم في هذا "الهديل" الواحة نحسٌ رفرفة طير لا يرى وحمام يُقبلُ في تجاويف الغياب ليُحط بجانبنا، فنمنحُ أنفسنا التيه –للتيه ولإيقاد الحنين نحو ذاتنا المهجرة في قعْر تمركُزنا الفردي حول "أنا" لا يطاق : إنها متعة الانتشاء بالعالم كما هو، في فطريته المتوحشة وفي توحشه الفطري الذي نحياه مقنَّعين، ملَفعين بحقيقتنا الغُفل وقناعاتنا الراسخة : "أنا، أنا، وبعدي الطوفان" احتفاء حسين القمري بالعالم هو احتفاء بوحشته الآثمة، اللازمة أحيانا، قرب ذواتنا المترعة بالخرابات منذ ولجنا عالمنا الميت هذا، العالم اللايستجيب إلا قسرا وعنوة، ويفعل حسين القمري ذلك على حافة المتوسط، توأم بحر الظلمات، وهو يراود لغته التي تمنحه هوية مسافرة في المكان وفي

الزمان، ولا الزمن وحده، وشتان ما بين هذا وذاك، على حافة الذاكرة، ولا يعني هذا أنه شاعر ذاتي صرف بالمعنى المتهالك المستهلك، ذلك أنه بذاتيته، متى سلمنا بها، وليس عيبا، ينغل من فتيل تغريبة اكتناه العالم أصلا والفعل فيه، وهو في هذا يعانق تغريبات أخرى، منها تغريبة طرفه والمتنبي والسياب والمجاطي وراجع إلى أن يستقر عند نفسه، وفي تغريبته هو .

يبرز هذا عندما يعلن شعر –شاعر "هديل الروح" اعتناقه لألم الفقدان، فقدان شعراء هم من فصيلة هذه التغريبة (راجع، المجاطي، بركات) فقدان أمكنة هي الإيثاكيا الرابضة مثل أبي هول يردد الأسئلة (مليلية، القدس، في لحظة مقاومة الغياب، بشير القمري) . وبين ألم الفقدان والنشوة المستحيلة، يبرز مكون الاحتباس الذي يشق طريقه ويرد الشاعر فيه إلى عزلته الضافية في الصمت والإمساك عن الجهر بالجرح أو الفرح : هامش تفرضه "الضرورة الشعرية" التي تقتضي أن يخلق الشاعر –دائما- مسافته ليشهد ما يحدث وعلى زمنه، على الزمن الذي ينسل ويترك المكان دارسا إلى حين اشتعال الرعب واشتعال الورق والمداد.

هوية دفينة تسطرها نصوص "هديل الروح" وتجعل شاعرها ينشد إلى رمزية ابن عربي، مثلا، أو التوحيدي، درءا للإنشطار والتوزع، وكأنني بأخي حسين القمري يبحث عن خريطة أخرى لا توازن فيها إلا بمقاومة الغياب، عن مِجَنّ لرفع الاحتباس ودفع التقلب الحاصل في روزنامة الوقت، لكن هيهات!

هيهات، هيهات، فللشعر سلطته، للشعر –دائما- سلطة الشعر، خارج مدارت الذاكرة والرموز والأسماء والأماكن : الشاعر هنا يبحث فلا يجد غير "اشتباهه" (نص في حضرة محي الدين بن عربي)، اشتباه يبعد الشّبهة وانفصام اللسان –اللغة، بين نص ونص، وبين فقدان وفقدان، ثم يشتد النسيان، لكن تقوى المقاومة، مقاومة الغياب. ووحدها اللغة تتحول إلى مِجَنّ، إلى ذراع لدرء الفجيعة، وما أشدها علي، ياحسين، ماأقساها حين أقرأها، حين أقرأك نصوصك وأحسن فيها، مرتحلا معك، بين الأزمنة –في الأمكنة، ومعنا كل الذين تذكرهم، واحدا واحدا، يقاومون غيابهم وغياب الأشياء –العناصر- الكلمات التي تشدهم – تشدك – تشدني- تشدنا إلى ما تبقَّى من خرابات وما تحمله طيات الكتاب والذاكرة، ثم يأتي شعرك، في "هديل الروح" بلسما، يأتي مَهَلاً ورحيقا، يأتي إكسيراً غير أنه، في امتداده واشتغاله طلَّسْمُ المتاهات التي أعشقُها في انشدادي إليك وإلي شعرك، أوَّلا بأولٍ، ولي الحق، كلِّ الحق، في ذلك ، وإلا ما كنت مجبرا على الاعتراف بين يديك، وإلا ما كنتُ أتجرأ لأمنح نفسي العبور إلى هديل روحك المترعة بالعزلةِ الساحقة

التي تحياها في الناظور وأنا على حافة الأطلسي، منذ عقدين ونيف، ألاحق متاهي وأدعوك إليها قدر الشعر والغواية،

هل "الحقيقة" هي "بنت اليقين"؟

وهل رأيت عبد الله "يهندس الدنيا" و "يصنع من خرائبها جوابا"؟

وهل الزمن "طاحونة"؟

وهل أحمد بركات "سيد المرجان"؟

سأترك أسئلتي معلقة، وأجنح إلى الصمت قليلا في "وحشة الطرق" (ص 14) أو في "قرية الحلم" (ص 16) لكنني معك في "بحر المعاني (ص 19) ونعم : "أنا شرفتك" (ص19)

قمري البشير

الرباط، أواسط شتنبر 1998

 

 

 

 

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

Copyright © 2001 unecma.net