النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد

المنشورات الإلكترونيـة

حسن يوسفـي

حسن يوسفـي، المسرح في المرايا. شعرية الميتامسرح واشتغالها في النص المسرحي الغربي والعربي

مقدمــــــة

 

 

تبحث هذه الدراسة في أحد مظاهر التسامي النصي Transcendance Textuelle الذي يجسده النص المسرحي، ألا وهو الميتامسرح Métathéâtre. وكما تدل على ذلك صيغة المصطلح نفسها، فقد تبلور على غرار مصطلحات أخرى أفرزها الخطاب النقدي المعاصر منها، على الخصوص، الميتارواية، الميتاشعر والميتانقد.

ولعل ما تجدر الإشارة إليه، بدءا، هو أن الميتامسرح - كمصطلح حديث ظهر مع بداية الستينات في النقد الأنكلو- أمريكي وانتقل، فيما بعد، إلى النقد الفرنسي - يعبر، في واقع الحال، عن ظاهرة مسرحية قديمة قدم المسرح نفسه، وتعود أصولها الأولى إلى المسرح اليوناني بشكل عام، وكوميديات أرسطوفان على وجه الخصوص.

وللميتامسرح آلياته اللعبية والتخييلية والنقدية التي تشتغل، إما بشكل جزئي أو كلي، داخل النص المسرحي. من ثم، فهو تجسيد لنمط من الممارسة المسرحية التي تستقطب، من جهة، بعض مكونات الميتانصية Métatextualité والتجويف الأدبي Mise en Abyme Littéraire، كما تستولد، من جهة أخرى، إجراءات خصوصية محايثة للنص المسرحي لعل أبرزها ما يمكن تسميته بالتمسرح المضاعف Double Théâtralité.

انطلاقا من هذا التحديد، يتبين أن الميتامسرح يشكل نقطة تقاطع بين شعرية النص الأدبي بشكل عام، وشعرية المسرح بشكل خاص. ولا مناص، إذن، من الإفادة منهما قصد إقامة تصور خاص حول هذه الظاهرة المسرحية.

فكون الميتامسرح ممارسة ميتانصية وتجويفا أدبيا، يستلزم النظر إليه في ضوء ما قدمته الشعرية الحديثة من تصورات حول هذين الجانبين. لذا، فإن إسهامات جيرار جينيت Gérard Genette التي بلورها، على الخصوص، في " طروس Palimpsestes " حول الأدب من الدرجة الثانية، بالإضافة إلى النظرية التي صاغها لوسيان دلينباخ Lucien Dallenbach حول "الحكي المرآوي Le Récit Spéculaire "،

تشكلان بالنسبة إلينا، منطلقا أساسيا.

وكون الميتامسرح ممارسة منبثقة أساسا من النص المسرحي الذي نفترض أنه يجسد خصوصيته عبر ما تسميه آن أوبر سفيلد ب" أنوية التمسرح "، يدفعنا إلى ضرورة التفكير في الكيفية التي يبنين بها هذا النص هذه الممارسة الميتانصية والمرآوية. من ثم، تصبح الإفادة من تراكمات الشعرية المسرحية الحديثة أمرا ضروريا. لذا، فإن ما بلورته الشعرية الأنكلو- أمريكية مع ليونيل أبيل Lionel Abel في كتابه: "الميتامسرح : نظرة جديدة للشكل الدرامي Metatheatre : A New View of Dramatic form "، بالإضافة إلى ماصاغه مانفريد شميلنغManfred Schmeling في إطار الشعرية الفرنسية ، من خلال كتابه " الميتامسرح والتناص : مظاهر من المسرح داخل المسرح Métathéâtre et Intertexte : Aspects du Théâtre dans le Théâtre "، شكلا، بالنسبة إلينا، قاعدة أساسية.

في ضوء هذا التوجه المزدوج، يحاول هذا العمل بلورة تطلع، لا يخلو من مجازفة، نحو بناء شعرية للميتامسرح ترسم مبادئ محددة لهذه الممارسة المسرحية، استرشادا بثلاثة منطلقات أساسية هي :

- الميتامسرح ممارسة نصية.

- الميتامسرح تجويف أدبي.

- الميتامسرح تمسرح مضاعف.

وبما أننا نضع نصب أعيننا طبيعة التحولات التي عرفتها الشعرية نفسها، بحيث لم تعد تقف عند حدود الصنع الأدبي وتمظهراته اللغوية، بل اتسعت لتشمل شعرية مجموعة من الكتاب أو شعرية كاتب بعينه، مما أضفى عليها نوعا من الحركية توازي حركية الممارسة الأدبية نفسها؛ فإننا نحترس من تحويل شعرية الميتامسرح إلى شعرية معيارية. فنحن نستحضر أمامنا هذا المتخيل المسرحي المتنوع الذي يمتد، في المسرح الغربي، من أرسطوفان حتى آخر التجارب الطليعية، كما يمتد، في المسرح العربي، من يعقوب صنوع حتى آخر ما أبدعه سعد الله ونوس قبيل رحيله.

إن هذه الخلفية المزدوجة - أي انفتاح ومرونة الشعرية بالإضافة إلى شساعة المتخيل المسرحي وتنوعه - جعلتنا نفكر في أن نجعل من شعرية الميتامسرح شعرية تأويلية، ونعني بذلك جعلها مفتوحة على ثالوث أساسي هو : المبدع، المتلقي والواقع. وما كنا لنفكر بهذه الكيفية، لولا أن الريبرتوار المسرحي الذي كنا نختبره بموازاة البحث في النظرية، سواء كان غربيا أو عربيا، كان يوحي لنا بضرورة إدراك الحدود بين الشعرية كنظرية عامة وبين الشعرية كممارسة نصية، وبالتالي، كان يقنعنا بضرورة إقامة تصور مفتوح على كل الاحتمالات يفكر في ما هو منجز مثلما يأخذ بعين الاعتبار الإمكانات المحتملة للخطاب المسرحي. إن كل عمل مسرحي، غربيا كان أو عربيا، كنا نقرأه كان يفرز من الخصوصية ما يجعلنا نفكر في شعريتنا باعتبارها احتمالا واحدا من بين شعريات نصية مختلفة باختلاف الأنساق الأدبية، والجماليات المسرحية والسياقات الخاصة بكل مبدع.

وحتى لا تبقى هذه التصورات مجرد افتراضات، فقد اقتنعنا بضرورة إيلاء اختبار التمظهرات النصية لشعرية الميتامسرح، ما يستحقه من عناية. ولعل هذا ما يفسر تخصيصنا بابين كاملين لذلك، انصب اهتمامنا فيهما على ما يربو على عشرين نصا مسرحيا موزعة بين المسرح الغربي والمسرح العربي، أنجزنا حول مظاهرها الميتامسرحية مقاربات تحليلية وتأويلية في آن واحد.

في ضوء هذه التصورات، قسمنا محاور الموضوع إلى ثلاثة أبواب رئيسية يتشكل كل واحد منها من فصلين.

يتكون الباب الأول المعنون ب" نحو شعرية تأويلية للميتامسرح " من فصلين؛ يتوقف أولهما عند تقاطعات الممارسة الميتامسرحية مع بعض مظاهر النص الأدبي كالميتانصية والتجويف الأدبي. والهدف من ذلك هو رصد مختلف الآليات الأساسية التي يقوم عليها الميتامسرح مقارنة بالميتارواية والميتاشعرمع محاولة فهم الصيغة التي يتحول بها الميتامسرح إلى نوع من التأمل الذاتي أو الحكي المرآوي الملتصق بالنص المسرحي.

أما الفصل الثاني، فإنه يحاول الوقوف على المصطلح في حد ذاته قصد البحث في صيغته ودلالته في ضوء بعض التصورات التي يبلورها كل من ليونيل أبيل، ومانفريد شميلنغ وباتريس بافيس، كما يحاول أيضا تركيب تصور خاص عن الميتامسرح يحدد بنياته ووظائفه الأساسية في النص المسرحي.

وبناء على ذلك، فإن الباب الأول حدد تعريفا للميتامسرح يعتبره ممارسة نصية تتوسل بمجموعة من البنيات الشكلية والموضوعاتية والنوعية Génériques وتستقطب مجموعة من الوظائف منها : الوظيفة النقدية والتنظيرية والتأويلية والإيديولوجية. وفي ضوء هذا التحديد ارتسمت الآفاق التحليلية والتأويلية لتمظهراته في نصوص مسرحية غربية وعربية، كرسنا لكل منها بابا خاصا.

الباب الثاني خصص "للميتامسرح في المسرح الغربي" وذلك من خلال مساءلة ظاهرتين بارزتين، الظاهرة الأولى التي حللناها في الفصل الأول سميناها بـ"صراع المسارح La Querelle des Théâtres"، وقد ارتبطت بمجموعة من الأعمال المسرحية التي حاولت أن تمسرح صراع المواقف والمنظورات والاتجاهات المسرحية. وهي ظاهرة برزت بوادرها الأولى مع " ضفادع " أرسطوفان، وبلغت أوجها مع ما عرف في المسرح الغربي بالمرتجلات، كتلك التي كتبها موليير Molière وجيرودوGiraudoux ويونسكو Ionesco. أما الظاهرة الثانية، فعبرنا عنها بـ "تناسخ الشعريات المسرحية"، والفصل المخصص لها يحاول إقامة ربط بين الممارسة الميتامسرحية وبعض الجماليات المسرحية التي خلقت صيرورة المسرح الغربي نفسه، وعلى رأسها الجماليات الباروكية والكروتسكية والواقعية والملحمية والعبثية.

لقد سمح لنا هذا الباب الثاني بالوقوف على صيروة الشعرية المسرحية الغربية المنبثقة من النص المسرحي نفسه، كما جعلنا نكتشف الدينامية التي عرفها المسرح الغربي على مستوى الأفكار والقيم الجمالية والإيديولوجية للمسرح، والتي ساهم فيها المبدعون المسرحيون بشكل بارز.

أما الباب الثالث فقد كرسناه "للميتامسرح في المسرح العربي"، وحتى لا نقع في إسقاط ظواهر خارجية على النص الدرامي العربي، فقد حاولنا أن ننظر إلى ممارساته الميتامسرحية في ضوء الإشكالات الكبرى التي خاص فيها المسرحيون العرب. وبما أن إشكاليتي التأصيل والتجريب قد استحكمتا في مسار النص العربي، فإن الميتامسرح قد اقترن بهما هو أيضا. من ثم، حاولنا أن نقترح صيغتين إجرائيتين للاقتراب من تمظهراته، وهما : الميتامسرح التأصيلي والميتامسرح التجريبي.

في الفصل الأول المخصص " للميتامسرح التأصيلي"حاولنا أن نبقى منسجمين مع منطلقاتنا الشعرية. لذا، لم ننخرط في التحليلات الفكرية والإيديولوجية لقضية التأصيل في المسرح العربي، لأننا نعتبر أن عملا من هذا القبيل لن يكون سوى نوع من الاجترار. من ثم، وقفنا على تمظهرات الميتامسرح التأصيلي في ضوء ثلاث بنيات أساسية هي : السير ذاتية، الوثائقية والملحمية. وقد كان هدفنا هو إبراز الكيفية التي تمثل بها النص المسرحي العربي مكونات الميتامسرح، وعمل على تكييفها مع أسئلة التأصيل التي كان يمليها، في الغالب، سياق عربي له مواصفاته السوسيو- ثقافية. بالإضافة إلى هذا، فإننا حرصنا على الإحاطة بالميتامسرح التأصيلي سواء من خلال تجربة رواد المسرح العربي ويمثلهم هنا يعقوب صنوع من خلال عمله المثير " موليير مصروما يقاسيه " أو من خلال امتداداته في تجارب أجيال لاحقة يمثلها كل من نعمان عاشور وسعد الله ونوس.

أما الفصل المخصص "للميتامسرح التجريبي"، فقد جعل من قضية التجريب ومن الآفاق التي فتحتها للكتابة المسرحية العربية موجها أساسيا. من ثم، حاولنا ربط الممارسة الميتامسرحية بثلاث استراتيجيات أساسية نعتبرها جسورا حاسمة لعبور النص العربي نحو تمثلات الحداثة المسرحية، وهي : استراتيجية التناص، والارتجال، والحكي.

فإذا كان اقتران الميتامسرح بالتناص في المسرح العربي قد سمح لنا بالكشف عن تمثل عميق للشعرية المسرحية الغربية، كلاسيكية كانت أو حديثة، جسدته محاولات محاكاتها (pastiche) أو السخرية منها (parodie) لدى كل من عبد الكريم برشيد ومحمد الماغوط، فإن ارتباط الميتامسرح بالارتجال جعلنا نقف على صيغ جديدة في الكتابة المسرحية العربية تجسد ما عرف في المسرح الغربي ب" صراع المسارح" وتبلوره في قالب ارتجالي مفتوح. وللتمثيل على ذلك وقفنا على تجربة كتابة " المرتجلة L’Impromptu" مع محمد الكغاط، وتجربة التأليف الجماعي المرتجل مع وليد إخلاصي.

علاوة على هذا، فإن ارتهان الميتامسرح باستراتيجية الحكي أفرز تعاملا جديدا مع التراث العربي باعتباره جماليات وأشكالا حكائية وليس باعتباره محتويات جاهزة. من ثم، استلهمت منه أسماء بارزة، من أمثال عز الدين المدني ومحمد مسكين والمسكيني الصغير وسعد الله ونوس، قاعدة أساسية لبلورة شعرية للمحكي المسرحي العربي توسلت بنيات متنوعة منها : الاستطراد، التضمين، التمثيل والتناظر.

إن إبراز تمظهرات الميتامسرح في النص الدرامي العربي يبين لنا كيف استثمر المسرحيون العرب إمكانات هذه الممارسة في ضوء إكراهات التأصيل وآفاق التجريب، ويساعدنا على أن نلامس، عن كثب، خصوصيات هذه الممارسة ومدى إسهامها في تطوير شعرية المسرح، إما بالاجتهاد في إطار منجزها أو بالانزياح عنه لفتح آفاق جديدة له.

إن تحليلاتنا لمختلف تجليات الممارسة الميتامسرحية سواء في النص الغربي أو العربي تدرك جيدا الحدود القائمة بين النظرية والممارسة. فنحن نعي جيدا أن الأعمال الفردية قد تتطابق أحيانا مع البنيات العامة، لكنها قد تنزاح عنها، أحيانا أخرى، بما يستوجب إعادة النظر في النظرية نفسها. ولعل هذه الإمكانية الأخيرة هي التي تحضر بقوة في مفاصل هذا العمل، ذلك أن الأعمال المسرحية التي نقوم بمقاربتها سرعان ما تفرز إجراءات وصياغات وبنيات ترتهن بالتوجهات الجمالية والإيديولوجية للمبدع وبشروط التلقي في عصره، مما يجعلنا نلامس حضورا خاصا لبنيات النموذج النظري الذي أقمناه في البداية. وربما لن نبالغ إذا قلنا إن الطموح الذي عكسه النص المسرحي العربي، لاسيما من خلال استثماره المحكم لبنية المحكي المسرحي المستلهم من التراث، يكشف عن إضافة نوعية يتعين على كل نظرية مستقبلية للميتامسرح أن تأخذها بعين الاعتبار.

واضح، إذن، أن هذا العمل يعكس اهتماما بشعرية المسرح، ورغبة أكيدة في المساهمة في الإنجازات النظرية والعملية المتصلة بها، كما يعبر عن قناعة مفادها أن إقامة النقد المسرحي العربي على أسس متينة لا يمكن أن يتأتى إلا بتخليصه من الخوض في الإشكالات العامة وربطه بالمتون الإبداعية من جهة، والإسهام في جعله يتمثل تراكمات النقد الحديث ويفيد من مصطلحاته ومناهجه من جهة أخرى.

ولعل هذا ما يفسر الجهد المتواضع الذي بذلناه في هذا العمل قصد التعريف بطبيعة الاهتمامات الجديدة لشعرية المسرح وإبراز كيفية تشخيص النص المسرحي لمختلف مبادئها، سواء كان نصا غربيا أو عربيا. إلا أن استحضار السياقين الغربي والعربي هنا لا يعني أننا كتبنا هذا العمل بهاجس المقارنة. لا نخفي أن تأثيرا من هذا النوع كان يفرض نفسه علينا، لكننا لا ندعي أبدا أننا أنجزنا عملا مقارنا، لأننا، ببساطة، لا نملك العدة المعرفية والمنهجية الكفيلة بتحقيق ذلك.

 

 

 

Contactez-nous

  Copyright © 2001 unecma.net