النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد

المنشورات الإلكترونيـة

حسن يوسفـي

حسن يوسفـي، المسرح في المرايا. شعرية الميتامسرح واشتغالها في النص المسرحي الغربي والعربي

الباب الثاني: الفصل الثانـي:

تناسخ الشعريات المسرحيـة

 

ليس غريبا أن ينعت أرسطو بالأب المؤسس للشعرية المسرحية الغربية. فكتابه " فن الشعر" رسم الإطار النظري لها انطلاقا من مفهومي المحاكاة والتطهير اللذين يتحكمان في سيرورة إنتاج العمل المسرحي وتلقيه. وقد ظلت نظرية الأدب الغربية عموما تدور في فلك هذه الشعرية إلى حد يمكن القول معه إن " تاريخ نظرية النوع ... ليس سوى تاريخ للأرسطية في نظرية الأدب " (49). فبغض النظر عن الموقع الذي تبوأته الأرسطية عند الكلاسيكيين، فقد ظلت تلقي بظلالها على الإبداع والنظرية الغربيين، سواء من خلال التجارب التي جعلت منها خلفية أساسية، أو حتى من خلال تلك التي جعلت منها حقل مواجهة. فبريشت نفسه لم يحدد شعريته الملحمية بمبادئها المختلفة إلا انطلاقا من مقارنتها ومقابلتها مع مبادئ الشعرية الأرسطية.

إن هذا الوضع يجعلنا نؤكد أن تاريخ الشعرية المسرحية الغربية ظل يتأرجح بين الخضوع لسطلة الأب المؤسس أرسطو، وبين الانفلات من هذه السلطة، مما يدفعنا بالتالي إلى وصف صيرورة هذه الشعرية ب" تناسخ الشعريات المسرحية ". وما ينبغي تأكيده هنا هو أن الأمر لا يتعلق بالصيغة النظرية الصريحة وحسب، بل يطال ما يمكن أن نطلق عليه الصيغة الإبداعية للشعرية، أي تلك المنبثقة - ضمنيا - عن الممارسة الإبداعية نفسها، والتي جعلت من الميتامسرح دعامتها الأساسية.

لكن السؤال الذي يبقى مطروحا هنا هو: ماذا نقصد ب" التناسخ الشعري" ؟. نعتقد أن الدلالة اللغوية لكلمة " تناسخ " تقدم لنا ما يساعد على فهم دلالتها الاصطلاحية. فإذا عدنا إلى الجذر " نسخ " في " لسان العرب " لابن منظور نجد " والأشياء تناسخ : تداول فيكون بعضها مكان بعض كالدول والملك؛ وفي الحديث : لم تكن نبوة إلا تناسخت أي تحولت من حال إلى حال، يعني أمر الأمة وتغاير أحوالها. والعرب تقول : نسخت الشمس الظل وانتسخته أزالته، والمعنى أذهبت الظل وحلت محله [...] والتناسخ في الفرائض والميراث : أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم، وكذلك تناسخ الأزمنة والقرن بعد القرن "(50).

يرتبط التناسخ، إذن، بدلالات منها : التداول والتحول والتغير وموت الفروع مع بقاء الأصل؛ وهذه الدلالة نفسها تتحكم في المعنى الإصطلاحي لمفهوم " التناسخ الشعري".

فلو أخذنا مقولة " المحاكاة " التي تنهض عليها الشعرية الأرسطية وتأملنا صيرورتها في ضوء هذا التناسخ، لوجدنا أنها اتخذت صيغا مختلفة في الإبداع المسرحي الغربي : المحاكاة في إطار المحتمل Vraisemblable، المحاكاة في ضوء الحقيقي Véridique، المحاكاة الانعكاسية، المحاكاة الفوتوغرافية، المحاكاة الكاملة ... إلخ. وحتى عندما خضعت هذه المقولة لإعادة النظر، أو بالأحرى للقلب بحيث أصبح الفن هو الأصل أو النموذج والطبيعة هي النسخة - كما هو الشأن عند بيرانديلو - ظلت المحاكاة قائمة.

من ثم، يمكن القول إن " التناسخ الشعري " يدل على الثابت والمتحول في المسرح الغربي في آن واحد. وتكمن أهميته في الكشف عن الوجه الآخر لما سميناه سابقا بدينامية هذا المسرح، والمتمثلة هذه المرة في استحكام مبادئ شعرية أصلية في الإبداع المسرحي دون إلغاء انفتاح بنياته النوعية والنصية على التاريخ والثقافة والمجتمع، بشكل يضفي على تلك المبادئ الشعرية نفسها نوعا من النسبية والتحول والصيرورة والانفتاح على المحتمل واللامنتظر.

وللوقوف عن كثب على هذه الظاهرة، اخترنا - في هذا الفصل - تحليل نصوص ممثلة لها تعكس إبداعيا شعريات مختلفة تتصل، بشكل أو بآخر، بالشعرية الأصل. ويمكن أن نميز فيها بين توجهين كبيرين : أحدهما امتداد للأرسطية والثاني انقلاب عليها.

1. ظـــلال أرسـطــو :

1. 1 - الميتامسرح الباروكي : " الحياة حلم " لكالدرون :

تندرج مسرحية " الحياة حلم La vie est un songe " للكاتب الإسباني كالــدرون دي لاباركا Calderon De La Barca (1600/1681)، ضمــن الأدب الباروكي Baroque الذي تحددت مواصفاته موازاة مع ما يعرف بالعصر الذهبي في إسبانيا. وتكمن أهمية هذا النص في كونه ترجمة دقيقة للمبادئ التي تقوم عليها الشعرية الباروكية.

يتميز الباروك بخصائص ثقافية ودينية وأدبية محددة. فقد ورث عن النهضة الكلاسيكة ثقافتها ذات النزعة الإنسانية، كما تميز بسيطرة نزعة دينية تعتبر الإنسان كائنا هشا معرضا لأنواع الإغراءات والخطايا والذنوب التي لا يمكنه تجاوزها وحده دون معونة من الله. من ثم، يلاحظ " أن أدب العصر الباروكي كله، يستعيد، دون كلل، صورة إنسان مرهق بنزواته، مما ينتج عنه بحث مضن عن المعرفة والتحكم في الذات " (51). في هذا السياق، يصبح الانتصار الحقيقي للبطل الباروكي هو الانتصار على الذات في عالم كله أوهام وأحلام، ميزته العبور والتيه وانعدام الأمان والاستقرار، مما يستلزم العودة باستمرار إلى " إلاه عادل يبسط نظره على مسرح الدنيا الكبير " (52).

وللباروك بلاغة أدبية خاصة في التعبير عن هذه الرؤية للإنسان والعالم، ميزتها الأساسية شعرنة اللغة بشكل يدفع إلى القول إن " الدراما الباروكية للعصر الذهبي هي قصيدة قبل كل شيء " (53).

ضمن هذا السياق الميتافيزيقي والشعري ينبغي وضع الريبرتوار المسرحي لكالدرون عموما، ومسرحية " الحياة حلم " بشكل خاص. فهي تندرج - حسب صلاح فضل - في المرحلة الثانية من المسار الإبداعي لكالدرون، التي تطغى فيها " عناصر التصور الشعري والفلسفي للدراما، كما تتضح المادة الزخرفية التي كانت تميز أساليب عصر " الباروك "، ويبرز فيها كذلك الاتجاه الموسيقي الغنائي " (54).

إن ارتباط " الحياة حلم " بمواصفات العصر الذهبي الفكرية والأدبية يجعل الميتامسرح عند كالدرون يتعدى كونه إجراء شكليا يقوم على أساس المضاعفة المسرحية المبنية على الحلم، ليصبح رؤية مؤلف، بل وعصر بكامله، تنهض على أساس تمسرح معمم ينظر إلى العالم باعتباره مسرحا وإلى الحياة باعتبارها حلما.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن بعض الدارسين العرب بالخصوص رأوا أن الخلفية الثقافية لهذه الرؤية الكالدرونية ممتدة الجذور في التراث الأدبي والفلسفي العربي، ومنهم صلاح فضل الذي أكد على علاقة التناص بين " الحياة حلم " وإحدى قصص " ألف ليلة وليلة " المعنونة ب" النائم واليقظان " (55)، ومنهم كذلك سليمان عبد العظيم العطار الذي حاول الكشف عن التعالق الموجود بينها وبين تصوف ابن عربي مؤكدا أنها " عرض رمزي لتجربة صوفية على الطريقة الحاتمية لابن عربي " (56). ويمكن استثمار هذه الافتراضات للكشف عن جذور الميتامسرح الفلسفية في تراثنا العربي الإسلامي، لكننا لن نجازف بالقيام بذلك، الآن، مادام الأمر يتعلق بإشكالية مقارنة معقدة تتعدى حدود اهتمامنا وإمكاناتنا.

فإذا عدنا، إذن، إلى مسرحية " الحياة حلم "، سنلاحظ أنها تتكون من ثلاثة أجزاء اصطلح عليها ب " الأيام "، وأنها تحكي قصة الأمير سيجسموند Sigismond الذي حبسه أبوه الملك باسيليو Basilio في قلعة بين الجبال، لأنه تنبأ له - وهو عالم بالفلك والنجوم - أنه سيكون من أكثر الملوك قسوة واستبدادا إذا أخذ الحكم بعده. إلا أن شعورا بعدم عدالة هذا الموقف، سرعان ما دفع بالملك إلى التفكير في إجراء تجربة يسلم خلالها ابنه الحكم جزئيا ليختبر رد فعله. لذا، طلب من مربي ابنه وحارسه كلوتالدوClotaldo تنفيذ التجربة باستعمال مخدر يساعد على حمل الأمير منوما من قلعته إلى فضاء مليء بمظاهر الأبهة والملك. وعندما استفاق الأمير على هذا المناخ الجديد، تعامل بنوع من الاندفاع والقسوة مع كل من حوله رغبة في الانتقام لنفسه. وقد دفعه سلوكه العنيف إلى حد إلقاء أحد الخدم من النافذة. ولعل هذا ما جعل أباه يقتنع بتكهناته ويطلب تكبيله وإعادته ثانية إلى قلعته.

في غمرة هذا الانتقال بين الفضاءين، وبين حالتي النوم واليقظة، لا يكاد الأمير يصدق ما يقع ويعتبر كل لحظاته عبارة عن حلم لا ينتهي. لذا، نراه في نهاية اليوم الثاني يناجي نفسه قائلا :

" سيجسموند :... في هذا العالم، كل يحلم، في النهاية، ما هو عليه دون أن يعي ذلك. أنا أحلم أني هنا، مقيد بهذه الأغلال، وقد حلمت أني رأيت نفسي في وضعية أخرى أكثر مخادعة. ما هي الحياة ؟ جنون. ما هي الحياة ؟ وهم، ظل، خيال؛ والخير الأكبر ليس سوى شيء قليل، لأن الحياة كلها حلم، والأحلام نفسها ليست سوى أحلام " (57).

في غمرة هذا الوضع الغامض الذي يعيشه سيجسموند، سرعان ما تتعرف بعض عناصر التمرد من الشعب بأن لها أميرا شرعيا حرم من حقه في تولي العرش، مما يجعلها تلتحق به وتدعوه إلى أخذ حقه بالسلاح. وإن كان هو لم يتخلص من اعتبار ما يجري أمامه عبارة عن حلم، إلا أنه قرر، هذه المرة، أن ينخرط فيه منطلقا من قناعة:

" سيجسموند : ... حلم أو حقيقة؛ التصرف بشكل جيد هو الأساس " (58).

لذا، أعلن الحرب على أبيه وانتصر عليه، لكن الانتصار الحقيقي كان على ذاته، لاسيما وأنه عمد إلى تكريم أبيه عوض الانتقام منه، وأكد أن إرادة الإنسان الحر تجعله يتصرف بحكمة وتعقل ويستفيد من تجاربه السابقة. وأمام استغراب الجميع، يؤكد الأمير :

"سيجسموند: ما الذي يجعلكم تتعجبون وتستغربون ؟ الحلم كان هو معلمي"(59).

عندما نتأمل الحدث الدارمي في هذه المسرحية الكالدرونية، نلاحظ أنه يستند على لعبة الحلم والواقع، بحيث يتم الانتقال بينهما دون الإعلان عن ذلك صراحة، مما يجعلهما يمتزجان ويتداخلان بشكل عميق. ولعل تتبع الوقائع المرتبطة بسيجسموند - باعتباره شخصية مركزية في المسرحية - يكشف عن ذلك، بل إن هذا التأرجح بين عالمي الحلم والواقع يؤثر على مواقفه ويجعله لا يتحكم فعليا في سلوكاته.

إن هذه اللعبة هي الوجه الآخر لما يسمى بتقنية المسرح داخل المسرح، تسندها في " الحياة حلم " خلفية جمالية وفلسفية ودينية. يتعلق الأمر باستعارة معممة تنظر إلى العالم كله باعتباره مسرحا " Theatrum mundi "، تمتد جذورها العميقة في الأفلاطونية، التي تنظر إلى العالم المحسوس باعتباره عالم مسوخات وخيالات وظلالا متحولة وقابلة للاندثار، في مقابل عالم المثل أو القيم الفاضلة المطلقة، كما تسندها مرجعية دينية تتمثل في التيولوجيا المسيحية التي تؤمن بوجود قدرة إلاهية أكبر من القوة البشرية وتعترف بقدر من الحرية والإرادة بالنسبة للإنسان.

لقد تم تصريف هذه الخلفية المتعددة في مسرحية " الحياة حلم " عبر بنيات نوعية ودراماتورجية تعكس رؤية باروكية حول الإنسان والعالم.

انسجاما مع روح العصر الذهبي، اختار كالدرون صيغة نوعية أصيلة كانت قد بلغت أوجه على مستوى الإنتاج والقيمة الإبداعية في هذا العصر، ألا وهي " الكوميديا Comedia ". ويؤكد صلاح فضل في هذا السياق أنه ليست " نوعية الأعمال المسرحية ولا خصوبتها هي الميدان البكر الذي غزته العبقرية الإسبانية، وإنما هي معجزة مسرحة الحياة نفسها وإخضاعها لنوع من الرؤية الفنية الشاملة. وقد ترتب على هذا الشمول ظاهرة هامة هي تقارب الحدود بين الأجناس المسرحية التقليدية. فقد امتزجت في بوثقة هذا العصر الذهبي الإسباني المأساة بالملهاة، لا بطريقة " التراجيكوميديا " التي حدثت في الآداب الأخرى، وإنما بمنطق آخر أكثر حيوية وأصالة، والفرق بين الحالتين هو ما يميز الخلط من الإنصهار. ففي الحالة الأولى، تحتفظ العناصر المكونة بخصائصها القديمة وتجمع بين المأساة والملهاة في إطار واحد [...] أما ما كان يفعله المسرح الإسباني في وحداته الدرامية التي كان يطلق عليها لفظ " كوميديا " بمفهوم خاص به، فهو صهر هذه العناصر في بوثقة رؤية فنية واحدة أكثر ما تكون قربا من الحياة ومساسا لجوهرها" (60).

إن الاقتراب من الحياة في الكوميديا الإسبانية جعل مسرحية " الحياة حلم " تعوض البنية الدراماتورجية الكلاسيكية القائمة على خمسة فصول ببنية ثلاثية تتمفصل على أساس متوالية " اليوم " عوض " الفصل "، تسمح بأن " يتحول فيها البطولي إلى كوميدي"(61). ولعل ذلك ما يبدو واضحا من خلال شخصية سيجسموند الذي يصبح - رغم إمارته - موضوعا للضحك اعتمادا على لعبة الحلم والواقع.

إن استناد مسرحية " الحياة حلم " على خلفية متعددة، جعل الميتامسرح فيها - على الرغم من اعتماده على المضاعفة المسرحية - يتحول إلى رؤية عصر بكامله، وهو العصر الباروكي. وإذا كان الاختيار النوعي الأصيل لكالدرون قد زكى هذا الاتجاه في المسرحية، فإنه قد ساعد على ربط هذا "المتخيل الميتافيزيقي "(62) - حسب تعبير أبيل - بنزعة أفلاطونية تنظر إلى العالم المحسوس باعتباره عالما من الأوهام والظلال.

يستخلص من هذا، أن الميتامسرح الباروكي عند كالدرون يستند على شعرية مسرحية تنظر إلى هذا الفن باعتباره فن الإظهار والإيهام، ولعل هذا ما يفسر لجوءها إلى التقنع والحلم والجنون والمسخ والمسرح داخل المسرح. وإذا كانت صلتها بالشعرية الأرسطية أمرا لا جدال فيه، فإن النموذج المحاكى - أي الحياة باعتبارها مسرحا وحلما - يجعلها، في العمق، أميل إلى النموذج الأفلاطوني المثالي منها إلى النموذج الأرسطي.

1. 2 - الميتامسرح الكروتسكي : " هاملت " لشكسبير :

لا يمكن الحديث عن الميتامسرح الغربي دون الوقوف عند وليام شكسبير William Schakespeare الذي " جرب، عبر تجربته كلها، المسرح داخل المسرح حيث دمجه كمتواليات في تراجيدياته، كما دمج مثل هذه المتواليات في كوميدياته " (63).

وتعد مسرحيته " هاملت Hamlet " التي كتبها في فجر القرن السابع عشر (حوالي 1601)، أبز نماذج هذا الحضور الميتامسرحي عنده. وإذا كانت هذه المسرحية - شأنها شأن الريبرتوار الشكسبيري كله - قد حظيت باهتمام بالغ انصب على مختلف جوانبها الأدبية والفكرية، فإن ما يهمنا نحن، في هذا الإطار، هو نوعية التمظهر الميتامسرحي في هذا العمل، لاسيما وأن شكسبير اعتمد فيه على ما سميناه سابقا بالتجويف المسرحي، حيث بلوره في الإطار ما يمكن أن نطلق عليه هنا : الشعرية الكروتسكية.

والكروتسك Le Grotesque مفهوم أدبي وفني يعود ظهوره - حسب البعض - إلى نهاية القرن الخامس عشر، في حين يعود به فكتور هيجو إلى أبعد من ذلك، وبالضبط إلى الأدب اللاتيني. وقد اخترق هذا المفهوم الأدب الغربي إلى حدود عصرنا الحاضر، حيث نجد أن الكلاسيكية أخذت حظها منه. يقول أحد الدارسين في هذا السياق : " إن أشهر كلاسيكيين في مجال الكروتسك الأدبي (رابلي، شكسبير) ينتميان إلى عصر النهضة. لقد كان شكسبير يزخرف مسرحياته بشخوص ممسوخة غريبة كان حضورها يتناقض مع السياق المأساوي العام الذي يدرجون فيه "(64)

وتشكل مسرحية " هاملت " نموذجا للشعرية الكروتسكية سواء على مستوى الشخوص أو الأحداث أو اللغة. لذا، فلا عجب أن نجد فكتور هيجو يجعل من شكسبير - في مقدمة مسرحيته " كرومويل " - ممثلا للعصر الشعري الثالث الذي نعته بالعصر الدرامي الذي يقوم على حشد كل مظاهر الكروتسك في العمل المسرحي، بما في ذلك المزج بين المرعب والمضحك، وبالتالي بين التراجيدي والكوميدي. يقول هيجو : " شكسبير هو الدراما، أي الدراما التي تصهر في قالب واحد الكروتسك والمتعالي، المرعب والمضحك، التراجيديا والكوميديا " (65).

بموازاة هذا المزج في الأجواء الدرامية والصيغ النوعية، نجد مزجا في الأساليب الفنية بين التمسرح والتمسرح المضاعف، وفي الأساليب اللغوية بين الشعر والنثر. فقد حاول شكسبيربكل هذا، تقديم عمل أدبي شامل يتضمن مظاهر أدبية متعددة، وقف عليها جبرا إبراهيم جبرا في مقدمة ترجمته العربية للمسرحية قائلا : " وقد أراد حشد أمور كثيرة في هذه المأساة، ووضع فيها خلاصة لكل ما يتمناه كتاب الدرامه من أساليب. ففيها تمثيلية ضمن تمثيلية، وفيها شعر ونثر، وفيها حزن وفيها ضحك، وفيها غناء وفيها سخرية من أساليب الآخرين، وفيها جنون وفيها ادعاء بالجنون، وفيها طيف رهيب وجماجم وانتقام، تنتشر فيه الجثث ذات اليمين وذات الشمال، وفيها إلى ذاك كله سحر لفظي وفكر عميق وتأمل بالحياة " (66).

داخل هذا الإطار العام، يتعين وضع الميتامسرح في " هاملت "، وذلك باعتباره إجراء يقوم حكائيا على أساس التجويف، وشخوصيا على أساس نماذج شخوصية ممسرحة وممسرحة في آن واحد، ونوعيا على المزج بين التراجيديا والكوميديا. ويصب كل هذا في اتجاه رؤية فلسفية تمزج بدورها بين الأفلاطونية والإيمان الديني في عالم ينظر إليه باعتباره مسرحا. و" هاملت "، من هذه الزاوية، تتقاطع مع المنظور الباروكي السائد في " الحياة حلم "، وإن كانت الخلفية التاريخية المتحكمة فيهما مختلفة. فمسرحية "هاملت" تعكس روح العصر الإليزابيتي بقيمه الاجتماعية والثقافية والسياسية بما فيها : الوحدة القومية، النظام، الدعوة إلى الثبات والاستقرار والكشف عن مكونات الإنسان المتعددة (67).

تروي مسرحية " هاملت " قصة أمير دانماركي فقد أباه على إثر مؤامرة قتل دبرها عمه بتواطؤ مع أمه، وذلك من أجل الاستحواذ على الملك. هذا الفعل الشنيع المتمثل في "مقتل كونزاكو" هو الذي سيشكل بنية المضاعفة أو التجويف في المسرحية، حيث سيتم تشخيصه كمشهد أمام الملك، من طرف فرقة من الممثلين كانت تقوم بجولة. هذا التمثيل المضاعف سيتخذه هاملت وسيلة لإدانة عمه وأمه. إن مقتل كونزاكو يشكل حدثا مسرحيا مضاعفا يخترق الدراما، ويعكسها بشكل مصغر كما تعكس المرآة أشياء الواقع، ويبدو أن هاملت نفسه كان يستحضر هذا الوعي المرآوي عندما قرر إسناد تمثيل مأساة أبيه إلى الفرقة المسرحية. لذا، نجده يخاطب أحد الممثلين قائلا :

" هاملت : كما أرجوك ألا تبالغ بالألفة واللين. فلتكن فطنتك أستاذك. لائم الكلمة حركتها، والحركة كلمتها، متقيدا بهذا الشرط : وهو ألا تتخطى حشمة الطبيعة. فكل مبالغة في القول والحركة إنما هي نابية عن غاية التمثيل، وما هذه الغاية منذ البدء حتى اليوم، إلا أشبه بإقامة المرآة أمام الطبيعة لكي تعكس للفضيلة محياها، وللزراية صورتها ولجسد العصر والمجتمع شكله وأثره " (68).

فالمرآة التي يدعو هاملت إلى إقامتها هنا تستهدف تقديم درس عبر التمثيل، فعن طريق "مضاعفة جريمة الملك وخداع الملكة، تقيم " المسرحية داخل المسرحية " أمام المتهمين مرآة للإدانة Miroir Accusateur " (69).

إن شكسبير يرسم بهذه المرآة إطارا جديدا للمحاكاة الأرسطية يتوسل بأسلوب المضاعفة المسرحية باعتباره أسلوبا كروطسكيا يجمع بين الانعكاس والتقعر أو بعبارة أخرى إنه يعمل على مسرحة الواقع وتحويـل وقائعـه إلى فرجـة يمتـزج فيها الممسرح بالممسرح.

ولعل هذا المزج هو الذي جعل أبيل ينظر إلى شخوص مسرحية " هاملت " باعتبارهم مؤلفين مسرحيين، ومنهم أربعة بالخصوص وهم " كلوديوس، الطيف، بولونيوس، وهاملت [...] فكولديوس كاتب ميلودراما من البداية حتى النهاية [...] والطيف كاتب إليزابيتي نموذجي للميلودراما [...] وبولونيوس كاتب مسرحي هاو بامتياز [...] وهاملت، من أي نوع من الكتاب المسرحيين هو ؟ هذا السؤال تصعب الإجابة عليه. فهو يمتلك، شأنه شأن مبدعه، الحس المسرحي الأكثر امتيازا كما هو باد في نصيحته للممثلين. أكيد أن سوداوية هاملت قد دفعته بقوة نحو الشعر التراجيدي، لكنه يوجد في وضعية منعه طيف أبيه من تحديدها تراجيديا "(70).

تفتح هذه القراءة المسرحية لشخوص " هاملت " أمامنا أفقا مهما للنظر إليها باعتبارها تركيبا لاختيارات درامية مختلفة، وبالتالي مزيجا من أنواع مسرحية متعددة بتعدد مصائر الشخوص ومواقفهم واختياراتهم. إن مسرحية " هاملت " تعد، إذن، "مسرحية المسرحيات "؛ وهنا يكمن تميز خطابها الميتامسرحي.

ولا غرو أن نجد هذا النزوع نحو اختيارات درامية معينة لدى شخوص المسرحية يستند بعضها على وعي أجناسي بالاختلاف الموجود بين بعض الأنماط الدرامية السائدة. ولعل هذا ما يعكسه بولونيوس الذي يبدي معرفة واضحة بهذه الأنماط عند حديثه عن ممثلي الفرقة :

" بولونيوس : أبرع الممثلين في العالم. إنهم يجيدون المأساة والملهاة، والمسرحيات التاريخية، والريفية، والريفية الهزلية، والريفية التاريخية، والمأساوية التاريخية، والريفية التاريخية الهزلية المأساوية، كما يجيدون تمثيل المشهد اللايجزأ أو القصيدة اللاتحد. لايتصعبون سنيكا، ولا يستهينون بلاوطوس. وسواء لديهم ما تقيد بقوانين الكتابة وما تحرر منها. إنهم وحدهم الممثلون " (71).

ومن مظاهر هذا الوعي لدى الشخوص، ما يبديه هاملت نفسه الذي يصدر عن رؤية فكرية وجمالية واضحة المعالم تؤمن بأهمية المسرح في الكشف عن الحقيقة وفي الإدانة :

" هاملت : المسرحية هي الشيء الذي سأقبض به على ضمير الملك " (72).

لهذا، نجده يرسم الخطوط العريضة لطريقة أداء وتمثيل المشهد المتعلق بمقتل أبيه حتى يحقق الغاية المنشودة منه، حيث يحذر من السقوط في المبالغة، ويؤكد على الحرص على التلقائية وعلى الملاءمة بين الكلمة والحركة. فوق كل ذلك، فهاملت - انطلاقا من وعيه الجمالي بشروط التلقي - يوضح خلفية المزج بين المضحك والمحزن، وبالتالي بين الكوميديا والتراجيديا في مشهد " مقتل كونزاكو " :

" هاملت : ونبهوا الذين يمثلون أدوار المهرجين ألا يقولوا إلا ما دون لهم للقول، لأن منهم فئة تضحك من تلقاء نفسها لكي يضحك لها عدد من النظارة الأغبياء، بينما المسرحية فيها أمر غير الضحك يجب الالتفات إليه " (73).

إن هذا الخطاب الميتامسرحي، الذي بلوره هاملت، يتضمن العديد من ملامح شعرية شكسبير نفسه. فالمزج بين المحزن والمضحك كما عبر عنه هاملت، يجد إطاره في الدراما Drame الشكسبيرية القائمة على الكروتسك. وهذه الشعرية نفسها هي التي تتحكم في شروط إنتاج الضحك وتلقيه في سياق مأساوي، كما هو بارز أثرها في خطاب هاملت السابق.

يستخلص مما سلف، أن الميتامسرح الكروتسكي في " هاملت " يقوم على التجويف، حيث يجسد هاملت صورة شكسبير نفسه، وتشخص مسرحية " مقتل كونزاكو " نموذجا مصغرا للمأساة الكبرى المتعلقة بمقتل الملك. ويقوم هذا التجويف المسرحي في عمق شعرية كروتسكية تمزج بين الأنواع والعوالم والشخوص في المسرح.

ويمكن القول إن هذه الشعرية هي التجسيد الجمالي لميتافيزيقا العصر الإليزابيتي بشكل عام، وللميتادراما الشكسبيرية بالخصوص التي ينظر إليها باعتبارها تجليا " لظاهرة واسعة من الميتاتمسرح Metatheatricality تقوم على فكرة مفادها أن العالم مسرح " (74).

1. 3 - الميتامسرح الواقعي : " النورس " لتشيخوف :

كتـب أنطون تشيخوف Anton Tchékhov مسرحية "النورس La Mouette " حوالي سنة 1896. وقد أثارت هذه المسرحية العديد من التأويلات كان يصب أغلبها في ربط النص بالتيار الواقعي، وبالتالي بواقع روسيا خلال نهاية القرن التاسع عشر، ولاسيما منه الجانب المتعلق بوضعية الشريحة المثقفة التي تستحضر المسرحية بعضا من رموزها.

إن هذا التأويل وارد بالنسبة إلينا، لكن أدواته توجد - في نظرنا - في الجانب الذي أهملته الدراسات السابقة، ألا وهو المظهر الميتامسرحي في هذا العمل الدرامي، حيث يلاحظ أنه يشكل إجراء بارزا فيه، يتوسل بدعامات نصية ونوعية، ويتوخى وظيفية مزدوجة : جمالية وإيديولوجية في آن واحد.

لا نعثر في المسرحية على حكاية شاملة واحدة، وإنما على حكايات صغيرة متعددة ترتبط كل واحدة منها بمصير شخصية من شخوص المسرحية. ولعل أبرز حكاية تلقي بظلالها على عوالم النص هي حكاية تربليف Treplev الكاتب الشاب الذي أراد إبراز ذاته عن طريق الكتابة فاصطدم بواقع متحجر لا يؤمن بالجديد، وإنما يعمل على نبذه. يبدو ذلك واضحا من خلال المسرحية التي كتبها وحاول تشخيصها، إلا أنها تعرضت للنقد والسخرية. إن تربليف مهووس إلى حد كبير بـ"الأشكال الجديدة ". لذا، نجده يفصح عن ذلك صراحة :

" تربليف : المطلوب أشكال جديدة، يجب خلقها وإذا لم توجد فالأحسن ألا يوجد شيء على الإطلاق " (75).

ولعل هوسه هذا هو الذي يتحكم في نظرته إلى المسرح المعاصر :

" تربليف : ... أعتقد أن المسرح المعاصر ليس سوى رتابة وحكم مسبق " (76) .

وهذا ما يدفعه إلى توضيح رؤيته حول بعض القضايا الجوهرية التي يقوم عليها مفهوم المسرح كقضية المحاكاة، حيث نجده يناقشها في حواره مع نينا Nina :

" نينا : من الصعب التمثيل في مسرحيتك. الشخوص ليست كائنات حية.

تربليف : تقولين كائنات حية ! ينبغي محاكاة الحياة ليس كما هي، وإنما كما نراها في الحلم " (77).

وعلى الرغم من ذلك، فإن المشهد الذي قدمه تربليف قد عرضه للسخرية، مما أثار انفعاله وجعله يقتنع بأن المسرح يعيش تحت وطأة " المونوبولية " :

" تربليف : ... آسف، لقد نسيت أن كتابة المسرحيات واللعب على المسرح لا يسمح بهما سوى لقلة من المختارين. لقد كسرت المونوبول " (78).

إن اصطدام تجربة تربليف بهذا الواقع الثقافي المتحجر جعله يختار وضع حد لحياته باللجوء إلى الانتحار.

تفصح، إذن، حكاية هذا الكاتب الشاب عن موضوعات المسرحية التي تقول عنها " مترجمة النص إلى الفرنسية :" موضوعة " النورس " هي الفن، الأدب، المسرح" (79). ويبدو أن هذا يجسد اختيارا واعيا لدى تشيخوف الذي تحدث في إحدى رسائله عن "النورس" مؤكدا أنها تتضمن خطابا كثيرا عن الأدب. لذا، يمكن القول إن المسرحية تحيل، موضوعاتيا، على ذاتها وذلك من خلال تتبع مسار كاتب شاب وإبراز تصوراته عن المسرح والعوائق التي واجهها لفرض هذه التصورات.

لقد هيأ تشيخوف لهذه الموضوعاتية الذاتية إجراءين ميتامسرحيين يتمثل أولهما في تقنية المسرح داخل المسرح، والثاني في اللجوء إلى التناص. فالمشهد المسرحي لتربليف يشكل بنية للمضاعفة المسرحية في " النورس " استثمر كبنية مدمجة في البنية الكبرى للمسرحية، وكموضوع للحوار والنقاش والتداول بين مختلف الشخوص التي اتخذته ذريعة لمطارحة قضايا أدبية وفنية في النص. كما أن تشيخوف استعمله كوسيلة لإبراز البعد النقدي في خطابه الميتامسرحي، وذلك بتحويله هو وكاتبه تربليف إلى موضوع للمحاكاة الساخرة.

وبالنظر إلى طبيعة العلاقة بين تربليف وأمه أركدينا Arkadina المنشغلة بالأديب تريجورين Trigorine ، فإن المسرحية تلجأ إلى التناص، وذلك عن طريق تضمين مقاطع حوارية من " هاملت " لشكسبير أبطالها هاملت وأمه الخادعة لأبيه :

" أركدينا : (مستعرضة " هاملت ") " يا بني لقد حولت بص-ري إلى داخل روحي ورأيت فيها جروحا دامية ،مميتة. لقد فقد كل شيء "

تربليف : (مستعرضا " هاملت ") " لكن لم انسقت مع الرذيلة، وبحثت عن الحب في عمق الجريمة ؟ " (80).

إن استحضار هذه العلاقة يضفي على المسرحية طابع المأساة، وذلك من خلال الكشف عن نوع من التوازي في المعاناة بين تربليف الكاتب الشاب وهاملت البطل التراجيدي الشكسبيري.

فإذا كان هذا البعد التناصي يجعل " النورس " تنفتح على المأساة، فإن ما يثير حقا هو أن هذا التوجه لا ينسجم وطبيعة الاختيار النوعي الذي أعلن عنه تشيخوف بخصوص مسرحيته حين وسمها ب" كوميديا " من أربعة فصول. ولقد انتبه بعض الدارسين إلى هذا الالتباس، حيث أكد أحدهم أن " النورس " أثارت " الكثير من الجدل حول طبيعتها ككوميديا وسبب هذا أنها تشتمل على عناصر لمأساة حديثة عن الإنسان البسيط " (81).

إن وضعية تربليف توحي، بالفعل، بجو المأساة، مادام الأمر يتعلق بمثقف شاب، غادر الجامعة، لا يملك شهرة ولا مالا ويريد فرض ذاته في مجتمع تخضع ثقافته لنوع من الاحتكار، مما يؤدي به إلى الانتحار. لكن الأجواء الساخرة التي خلقتها المسرحية بعد تتبع مشهد تربليف، أضفت عليها طابعا كوميديا.

وإذا كان هذا التوجه الأخير يخدم الوظيفة النقدية من الميتامسرح في " النورس"، فإن الاختيار الأول ينسجم وشعرية المحاكاة الكاملة (82) التي تسند هذا الخطاب الميتامسرحي. لهذا، يمكن القول إن البعدين التراجيدي والكوميدي في مسرحية " النورس" لا يتناقضان، وإنما يلتحمان لخلق شعرية واقعية يقوم عليها الخطاب الميتامسرحي التشيخوفي.

وانسجاما مع مكونات هذه الشعرية، يلاحظ أن الميتامسرح في " النورس " يحقق ثلاث وظائف أساسية هي : الوظيفة السيرذاتية، الوظيفة النقدية ثم الوظيفة الإيديولوجية.

فبخصوص الوظيفة الأولى، تؤكد إلزا تريولي Elsa Triolet أن " النورس " هي "الأكثر سيرذاتية من بين مسرحيات تشيخوف، حيث بإمكاننا أن نتعرف بسهولة وأن نجد انشغالات تشيخوف فيها، وأن نجد أيضا أشخاصا من محيطه " (83). إن استحضار المرجع الواقعي من خلال الوقائع والشخوص ينسجم وطبيعة النزوع الواقعي في المسرحية، ويذكرنا بموليير الذي ضمن مرتجلته معطيات من سيرته الثقافية في مواجهة خصومه. إن هذا يجعلنا نكتشف أن ما يسمى بالسيرة الذاتية في تاريخ الأنواع الأدبية يمكن أن يصاغ صياغة مسرحية مثلما يصاغ عن طريق السرد. ولربما سيكون ممكنا الحديث عن نوع جديد نسميه " السيرة الذاتية المسرحية " التي تعتمد على الميتامسرح كإجراء أساسي للتشخيص.

وإذا كانت " النورس " تتضمن - من الناحية النقدية - نوعا من المحاكاة الساخرة؛ فإن المستهدف فيها ليس هو تربليف باعتباره شخصية من ورق - حسب تعبير بارث -، وإنما المستهدف هو ما يحيل عليه عمله المسرحي، أي التيار الأدبي الذي كتبت" النورس" أساسا من أجل اتخاذ موقف نقدي منه. في هذا السياق تؤكد دارسة أمريكية أن " النورس تسعتعمل كثيرا الإمكانات النقدية للميتادراما، حيث تمنحنا، ليس فقط المسرحية الداخلية بمؤلفها وأبطالها وإنما بخطابها أيضا. فعلى الرغم من كون مسرحية تربليف لا تسير بشكل جيد، إلا أن تشيخوف استعملها لكي يكشف عيوب وعناصر قوة الدراما الطبيعية والرومانسية على حد سواء" (84).

إن " النورس " تؤسس، من هذه الزاوية، شعرية خاصة على أنقاض شعريات أخرى، تنبني على مفهوم جديد للمحاكاة ينزع نحو الكمال دون نقل الواقع حرفيا كما هو الشأن في الاتجاه الطبيعي الذي يستند على خلفية " فوتوغرافية "، ودون ركوب الأحلام والاستيهامات بشكل يتجاوز حدود البساطة والحياة العادية كما هو الشأن في الاتجاه الرومانسي. يمكن القول، إذن، إن " محاكاة تشيخوف محاكاة أرسطية بالغة، غير أنها انتقلت من الحصيلة التقليدية إلى حصيلة جديدة وهي الحياة العادية البسيطة غير المعقدة والشخصيات التي تعبر عن عواطف

عادية ليست كعواطف الأبطال السامية المتعالية"(85).

إن تشيخوف لا يكتفي برسم الملامح الأدبية لشعريته المسرحية في "النورس"، بل يتجاوز ذلك نحو الإفصاح عن الوجه الإيديولوجي لهذه الشعرية. ويتم ذلك من خلال التأكيد على أن الإشكالية لا تكمن في تقابل شكل جديد مع آخر قديم، وهي القناعة التي عبر عنها تربليف نفسه عند اصطدامه بالواقع الثقافي القائم الذي يعكس، في الحقيقة، واقعا إيديولوجيا :

" تربليف : لقد تكلمت كثيرا عن أشكال جديدة، وها أنذا أحس بنفسي أنزلق نحو المتواضع عليه [...] نعم لقد أصبحت مقتنعا شيئا فشيئا بأن الأمر لا يتعلق بأشكال قديمة أو جديدة، وإنما يتعلق ببساطة بما ينبع من قلبك دون التفكير في هذا الشكل أوذاك " (86).

إن تربليف يجسد، في الواقع، رمزا من رموز الطبقة المثقفة الروسية، شأنه شأن جريجورين، كما أن كل واحد منهما يشكل وجها داخل بنية ثقافية وإيديولوجية يتصارع فيها القديم والجديد. وإذا كان " صراع الأشكال " ترجمة أدبية لصراع أشمل، فإن ما يؤكده تشيخوف بمسرحته لهذا الصراع، هو أن الواقع هو المنطلق بغض النظر عن طريقة تشكيله وتشخيصه، مادام حضوره في حد ذاته يفرض رؤية محددة تسمح بالإمساك بالبسيط والعادي فيه. من ثم، يمكن القول إن واقعية تشيخوف التي تنهض في المسرحية على أنقاض الرومانسية والطبيعية معا، ليست توجها أدبيا وحسب، وإنما هي توجه إيديولوجي أيضا.

2. ضـد أرسطــو :

2. 1 - ميتامسرح المفارقات : " ست شخصيات تبحث عن مـؤلف " لبيرانديلو :

تعد مسرحية " ست شخصيات تبحث عن مؤلف Six personnages en quête d’ auteur " (1921) العمل المسرحي الأول ضمن ثلاثية خصصها الكاتب الإيطالي لويجي بيرانديلو Luigi Pirandello لتقنية المسرح داخل المسرح، وتتضمن إلى جانب هذا النص مسرحيتي : " هكذا ... أو كذلك Comme ci ... ou comme ça " (1924)، ثم " الليلة نرتجل Ce soir on improvise " (1930). ونظرا للأهمية التي تحظى بها مسرحية " ست شخصيات " في مسار الكاتب، فقد خصها بتقديم بين فيه كيف تشكلت فكرة المسرحية وضمن أي سياق نظري وجمالي ينبغي وضعها.

ينطلق بيرانديلو من اعتبار سر الخلق الفني شبيها بالولادة الطبيعية، ذلك أن الفنان يستقبل رشيمات germes عديدة في الحياة دون أن يدري كيف أعطى أحدها مولودا ولا كيف خرج هذا المولود إلى الوجود. ولعل هذا ما وقع لبيرانديلو، فعلا، مع الشخصيات الست التي انبثقت من متخيله حية وقررت أن تخرج إلى الوجود. لهذا، فلا عجب أن نجده يتحدث بصيغة المفارقة عن " الواقع المتخيل للشخصيات الست " (87).

علاوة على هذا، يؤكد بيرانديلو أن صياغة موقف نقدي أو نظري ما، أو أي تصور مجرد قبل العمل الفني أو بعده، عمل لا جدوى منه. ذلك أن هذه القضايا تكون "حية ليس لأنها تقال بواسطة النقد، وإنما لكونها موجهة للتعبير عن نفسها بواسطة الفن؛ مادامت، إذن، غير محددة عن طريق الفكر الخالص الذي يخفض حرارتها ويثبتها ويقتلها بالتركيز، بطبيعة الحال، على صياغتها كقضايا، وإنما لأنها موجهة للعرض بواسطة الفن في إطار شكل يعد البنية والسبب نفسه لحياتها الأبدية "(88).

إن هذه الإشارات تشكل - في نظرنا - الخلفية الفكرية والجمالية للميتامسرح البيرانديلي، كما تجسده مسرحية " ست شخصيات ". ويمكن تلخيصها في عنصرين أساسيين هما :

- الواقع المتخيل La réalité imaginaire.

- البنينة Structuration الفنية لقضايا النقد والنظرية.

ينطوي العنصر الأول على مفارقة، لكنه يجد، مع ذلك، ما يبرره نصيا من خلال التوسل بتقنية " اللعب داخل اللعب " التي عرف بيرانديلو باستعماله لها بنوع من المبالغة في أعماله. أما العنصر الثاني، فيشكل قناعة خاصة لديه تتمثل في كون العمل المسرحي هو وحده الإطار الصحيح لصياغة رؤية حول المسرح والواقع في آن واحد.

إن هذا السند المزدوج للميتامسرح البيرانديلي هو الذي يجعلنا نميل إلى الموقف النقدي الذي اتخذه أبيل إزاء من يقول " بأن بيرانديلو هو عالم ابستمولوجيا Epistémologist الميتامسرح وليس عالم وجوده Ontologist " (89)، وذلك لأن بيرانديلو جعل من الميتامسرح في " ست شخصيات " مبحثا إبداعيا في المعرفة والوجود في آن واحد.

ولعل التأمل في البنيات الحكائية والموضوعاتية والنوعية للمسرحية من شأنه أن يدعم هذا التأويل ويجعلنا ننظر إلى الميتامسرح البيرانديلي ليس باعتباره تقنية أو شكلا فنيا وحسب، وإنما باعتباره رؤية للعالم تم التعبير عنها عبر شعرية ضدأرسطية تقوم على قلب مفهوم المحاكاة.

تجمع مسرحية " ست شخصيات " بين مساري مجموعتين من الشخصيات : الأولى عبارة عن عائلة مكونة من ست شخصيات جاءت عند مدير فرقة مسرحية تخبره بأنها تحمل " دراما " وتبحث عن مؤلف. ومادام المؤلف الذي تبحث عنه غير موجود، فإن "الدراما لم تعرض، وما سوف يعرض، بالعكس، هو كوميديا هذه المحاولة الفاشلة بكل ما فيها من مأساوي، وذلك من جراء الرفض الذي لقيته الشخصيات السـت" (90). أما المجموعة الثانية، فهي عناصر الفرقة المسرحية المنهمكة في تداريبها بقيادة مديرها.

يحاول الحدث في المسرحية، إذن، أن يعقد لقاء مستحيلا بين عالمين : أحدهما متخيل هو عالم الفرقة التي تؤدي مسرحيتها، والثاني واقعي هو عالم العائلة التي تصر على أداء دراما حياتها بنفسها لأنها مقتنعة بأن لا أحد بإمكانه تمثيل حقيقة هذه الدراما. لذا، فالأب - رغم إعجابه بأداء الفرقة لمشهد من دراما العائلة - يرى ذلك مخالفا للحقيقة :

" الأب : صحيح، الممثلون يؤدون أدوارنا بشكل جيد. لكن بالنسبة إلينا، هذا شيء آخر مخالف يريد أن يكون مثلنا لكنه ليس كذلك " (91) .

إن هذا الموقف الذي عبر عنه الأب شكل موضوع خلاف بينه وبين المدير وبالتالي قاعدة لحسم تصورات مختلفة حول علاقة الخيال بالواقع، والطبيعة بالفن. بل إن هذا التقابل في المواقف اتخذ في المسرحية كذريعة لإبراز التقابل بين شعريتين : إحداهما امتداد للأرسطية والثانية انقلاب عليها.

في هذا السياق، نلاحظ أن مسرحية " ست شخصيات " تعيد النظر في أهم المبادئ التي تقوم عليها الشعرية الأرسطية بما فيها : مفهوم الاحتمال والضرورة، المحاكاة والإيهام.

فالأب يؤكد أن البحث عن المحتمل ضرب من الجنون. لذا، يخاطب المدير قائلا:

" الأب : أقول يا سيدي إن الجنون هو البحث عن الاحتمال بحجة الإيهام بالحقيقة. وهذا الجنون، اسمح لي أن أقول لك إنه المبرر الوحيد لوجود مهنتك"(92).

ولكي يبين له أهمية الخلفية التي يستند عليها وجوده كشخصية حقيقية حية منبثقة من خيال المؤلف، عمل الأب على توضيح العلاقة بين المتخيل والطبيعة :

" الأب : ... لا أحد يمكنه أن يعرف أحسن منك أن الطبيعة تستعمل الخيال الإنساني من أجل إتمام عملية خلقها في مستوى أكثر سموا " (93).

نفهم من هذا القول أن المتخيل، وبالتالي الفن، يمكن أن يصبح نموذجا تحاكيه الطبيعة. إن بيرانديلو وجه - من خلال شخصية الأب - ضربة إلى المحاكاة الأرسطية وذلك بجعل الفن أصلا ونموذجا للمحاكاة عوض الطبيعة. لذا، فلا عجب أن نجد من يؤكد أن " الهجوم الذي شنه بيرانديلو ضد الفن باعتباره محاكاة، جد جذري بحيث دمر الحياة في الوقت نفسه " (94).

في إطار هذه الشعرية الضد - محاكاتيـة Anti - mimétique، يقيم بيرانديلـو تقابلا آخر بين الحقيقة واللعب.ففي الوقت الذي تركز فيه الربيبة على "الدراما الحقيقية Drame Véritable"، يحاول المدير إقناعها بأن الأمر يتعلق بمسرح، ولا يمكن أن يؤدى فيه إلا ما هو قابل للعب Jouable. إلا أن المثير في المسرحية هو عدم وجود حد فاصل بين عالمي الحقيقة واللعب. إنهما يتداخلان بشكل جعل التقني Machiniste نفسه يختلط عليه الأمر فيقوم بإغلاق ستار المسرح في الوقت الذي طلب المدير ذلك معلنا انتهاء مشهد من المسرحية المضاعفة.

ضمن هذا التداخل بين عالمي الحقيقة والمسرح تطرح مسألة الإيهام. فإذا كان المدير يحاول توضيح القصد من الإيهام بالواقع من خلال تمثيله، فإن الأب لا يتردد في إعلان موقفه الصريح منه قائلا :

" الأب : الإيهام ؟ أرجوك لا تتحدث عن الإيهام ! لا تستعمل هذه الكلمة التي هي قاسية بالنسبة إلينا بالخصوص" (95) .

إن الشعرية التي تبلورها مسرحية " ست شخصيات " تقوم، إذن، على قلب مفهوم المحاكاة، وضرب الاحتمال والإيهام، والمزج بين الحقيقة واللعب. وإذا كان الأب قد أكد أن هذه الشعرية تجد سندها الفلسفي في النسبية، فإن المدير قد عبر عن امتعاضه من تحويل المسرح إلى نوع من التفلسف :

" المدير : لن أترككم تخطبون إلى ما لا نهاية ! إن الدراما فعل قبل كل شيء؛ فعل وليس فلسفة " (96).

لكن بيرانديلو - الذي كتب المسرحية أساسا من أجل بلورة شعرية مفارقة - لا يهمه الفعل الدرامي إلا من حيث كونه أداة لصياغة تصور معرفي ووجودي عن الإنسان والحياة في عالم نسبي، كل شيء فيه قابل للانقلاب والتحول.

ولعل هذا الهاجس الفلسفي المتحكم في " ست شخصيات " هو الذي دفع برنار دورت إلى التأكيد " أن العنصر الأساسي في البيرانديلية ليس هو التجديدات التقنية الخالصة [...] وإنما هو إدخال مسافة داخل العمل بين الدراما بالمعنى الحقيقي للكلمة أي الدراما بمفهومها الطبيعي، وبين العرض [...] لذا، فإن ما يعرضه بيرانديلو ليس هو الدراما نفسها، وإنما هذه الدراما مفكر فيها داخل وعي شخصية ما. إن مسرحه تراجيديا (أو كوميديا) للتفكير" (97) .ويبدو أن هذا التحليل يسير بموازاة مع طبيعة المسرح البيرانديلي نفسه باعتباره مسرحا مفكرا ومفكرا فيه من جهة، ومع ما عبر عنه بيرانديلو في تنظيراته عندما تحدث عن أهمية الصياغة الفنية للقضايا النظرية والنقدية من جهة أخرى.

وإذا كان بيرانديلو قد اعتمد في صياغة شعريته الجديدة ذات التوجه النسبي على المضاعفة المسرحية والموضوعاتية الذاتية، فإن القالب النوعي الذي يستلزمه تصور أصيل ومتميز لابد أن يكون وفيا لهذه الروح النسبية. فما دمنا أمام " فرجة - لم نرها من قبل - تتعلق بالسيرورة الإبداعية في إطار الفعل " (98)، فإن هذه السيرورة قابلة لأن تحول، في سياق هذا الفعل، إما نحو الكوميدي أو التراجيدي.

فالعائلة أتت كي تقدم "دراما " حياتها؛ إلا أن مسار المسرحية سرعان ما انقلب في اتجاه الكوميديا ، ويتجلى ذلك في البحث غير المجدي عن المؤلف. لكن هذا البحث العبثي نفسه سوف يحول وضعية العائلة إلى تراجيديا. إن هذه الدينامية والمرونة النوعية التي تفتح المجال للحدث في المسرحية كي يتخذ وجهات متناقضة بشكل مستمر، تترجم - بشكل صريح - المنظور النسبي الذي يسند شعرية النص ككل. فلا وجود لحدود فاصلة ونهائية بين الكوميديا والتراجيديا والدراما. مما يدفع إلى القول إن مسرحية " ست شخصيات " لاتبلور شعرية للنص المسرحي وحسب، وإنما تتجاوز ذلك لصياغة شعرية جديدة للأنواع الدرامية، نعتقد أن أدق وصف لها هو : شعرية المفارقات التي تفجر الكوميدي في قلب التراجيديا، وتولد التراجيدي في عمق الكوميديا.

يستخلص من هذا التحليل أن الميتامسرح في " ست شخصيات" يضع - من الناحية النقدية- الشكل الدرامي نفسه موضع تساؤل، كما يعمل - من الزاوية النظرية - على بلورة شعرية تنهض على أساس المفارقة وتنبذ المحاكاة على الطريقة الأرسطية. ويلاحظ أن هذين المظهرين الجماليين يصبان في الاتجاه الذي يجعل منهما " كــلا إيديولوجيـا Un Tout Idéologique يريد أن يفهم باعتبـاره كذلك بالنسبة للمسرح البرجوازي المؤسس"(99).

لذا، فإن الأمر لا يتعلق كما - ذهب إلى ذلك بول لويس مينيون Paul Louis Mignon- ب " عودة مبدع إلى فنه لإيجاد علاج لقلقه النفسي" (100). فهذا البعد الذاتي للميتامسرح - حتى إن افترضنا أنه صحيح - ينصهر بشكل عميق في البعد الموضوعي الذي يجعل من مسرحية " ست شخصيات " فتحا جديدا في تاريخ الإبداع المسرحي الغربي، ليس على مستوى جمالية الشكل الدرامي وحسب، وإنما على مستوى " إيديولوجيا الشكل " أيضا، والتي تؤكد على نسبية الكائن وغياب التناسق والانسجام في الحياة وغياب المنطق، عكس ما يدعيه المسرح البرجوازي.

2. 2 - الميتامسرح الملحمي : " اقتناء النحاس " لبريشت :

تجدر الإشارة، في البداية، إلى أن الإحاطة الشاملة بالميتامسرح الملحمي تستلزم استحضار الريبرتوار المسرحي البريشتي، لاسيما وأن مسرح بريشت لم يبلور تجربة إبداعية جديدة وحسب، وإنما صاغ المبادئ الأساسية لشعرية قائمة الذات نهضت على أنقاض الشعرية الأرسطية. واللافت للانتباه أن بريشت لم يتوان عن تجلية هذه المبادئ عبر وسائل مختلفة منها تنظيراته وإبداعاته المسرحية نفسها.

وإذا كان الجانب الذي يستأثر باهتمامنا هو الصيغة الإبداعية لهذه الشعرية، فإن الوقوف على مختلف تجلياتها يتطلب استحضار جل النصوص المسرحية ذات الطابع الميتامسرحي، البارز منه والمضمر. لكن، مادام مثل هذا العمل الشامل يتجاوز حدود إمكاناتنا الحالية، فإننا نرى أن مقاربة مسرحية " اقتناء النحاس L’Achat du Cuivre " كفيلة بإضاءة جوانب أساسية في الشعرية الملحمية.

لا مناص أولا من التمييز بين صيغتين إبداعيتين للميتامسرح الملحمي : تتمثل الأولى في كتابة نصوص مسرحية بالمعنى المتعارف عليه، تندرج في إطار المتخيل، ومنها " أوبرا القروش الثلاثة " التي جعل منها بريشت محاكاة ساخرة لنوع درامي جاد وسام هو الأوبرا بما تحيل عليه من أبعاد فنية وإيديولوجية. لقد جعل منها بريشت خطابا نقديا وإيديولوجيا كشف فيه مظاهر الانسجام والإيهام اللذين تكرسهما الأوبرا قصد إخفاء التناقضات الاجتماعية، ذلك " أن التفكير في الأوبرا ليس منفصلا عن النقد الاجتماعي. فالأوبرا شكل برجوازي بالخصوص يحاول أن يحافظ على العنصر الرومانسي للفن داخل عالم غير سليم. إن التفكير يكشف، الآن، طابعها الشيطاني ويعري شاعريتها المبنية على التسليم بوجود عالم منسجم، كما يعري اللذة التي تصاحبها " (101). فهذه الصيغة الأولى تجعل النقد ينصهر في إطار مسرحي تخييلي.

أما الصيغة الثانية، فهي التي صاغها بريشت في ما يشبه المسرحية حيث لا نجد أنفسنا ونحن نقرأها أمام عمل تخييلي، وإنما أمام حوارات بين شخصيات، قائمة على صراع درامي ذي طبيعة أدبية وفكرية وليس سيكولوجية. إن مثل هذه الأعمال مكتوبة، بالأساس، من أجل بلورة خطاب نقدي ونظري إلا أن صيغتها التعبيرية تجعل منها نصا مسرحيا. في هذا الإطار يندرج نص " اقتناء النحاس " (1937/1951)، الذي يكشل نموذجا " لهذا الإنزلاق من ممارسة النقد إلى ممارسة المسرح " (102).

" اقتناء النحاس " عبارة عن حوار طويل بين أربع شخصيات هي : الفيلسوف، الدراماتورج، الممثل والممثلة؛ يحاول بلورة طريقة جديدة لممارسة المسرح. وقد قسم بريشت هذا النص إلى أربع متواليات كبرى سماها " الليالي "، وهو تمفصل يستهدف الإيحاء أو " الإيهام بالمسرح "، وليس بالواقع، وجعل القارئ يتعامل مع النص باعتباره مسرحية حقيقية.

وقد حاول بريشت، منذ بداية النص، أن يدعم هذا الإيهام وذلك من خلال إرشاد مسرحي يبدأ به ويصف فيه عناصر الفضاء المسرحي ومواقع الشخصيات داخل هذا الفضاء. وفوق ذلك، نلاحظ أن الشخصيات نفسها تحاول تثبيت هذا الإيهام بالمسرح، ولاسيما منها الدراماتورج الذي يقول :

" الدراماتورج : ... يمكننا، ونحن نتحدث عن المسرح، أن نشعر كما لو أننا نتحاور أمام جمهور، أي نؤدي بأنفسنا مسرحية صغيرة. بإمكاننا أيضا - إذا كان ذلك سيضيء نقاشنا - أن نقوم، هنا وهناك، بتمارين على سبيل

التمثيل" (103).

يستشف من هذا القول أن الميتامسرح في " اقتناء النحاس " لن يبقى في حدود الصياغة الخطابية، بل سيتحول إلى ممارسة فوق الخشبة. إن هذا التلاحم بين النظرية والممارسة المسرحية يضفي خصوصية على الشعرية الملحمية في هذا النص بحيث تصبح شعرية كلمة وفعل في آن واحد.

ولتكريس الطابع التخييلي لهذا النص الميتامسرحي من بدايته حتى نهايته، اختار بريشت عنوانا استعاريا لا يطابق محتواه المباشر ما يجري في النص. فالفيلسوف هو الذي يتخذه وصفا استعاريا لموقفه من المحاكاة في المسرح. ففي الوقت الذي يحاول الممثل التأكيد على أن المحاكاة لا تتم دون تشغيل الإحساسات والعواطف، يقول الفيلسوف أن ما يهمه هو أحداث الحياة الواقعية، وأن الإمساك بها، في المسرح، هو الفائدة المرتجاة من هذا الفن. لذا، يلجأ إلى شرح موقفه عن طريق مقارنته بموقف بائع النحاس :

" الفيلسوف : ... أشعر بتميز هذا الاهتمام إلى حد أني أتجه لمقارنة نفسي ببائع نحاس ذهب عند جوقة أبواق، ليس لاقتناء بوق وإنما لاقتناء النحاس فقط. صحيح أن البوق من نحاس لكن حظوظ قبول بيعه باعتباره نحاسا وبثمن النحاس ووزنه، جد ضئيلة. ورغم ذلك، فأنا أبحث - شأن هذا البائع - عن الأحداث التي تقع بين الناس. إنكم تقلدونها بطريقة ما، رغم أن لمحاكاتكم، بالتأكيد هدفا آخر غير إقناعي" (104).

يندرج هذا الموقف في سياق حوار طويل تمحورحول موضوع المحاكاة في المسرح، لأن الحسم فيه يعتبر قاعدة لحسم قضايا أخرى مرتبطة به في النص. في هذا الإطار، يلاحظ وجود تضارب بين وجهتي نظر، تنطلق إحداهما من داخل المسرح ويعبر عنها الدراماتورج والممثل، وتصاغ الثانية من خارجه ويعبر عنها الفيلسوف. وسواء تعلق الأمر بهذا المنظور أو ذاك، فإن الملاحظ أن الخطاب الميتامسرحي يستند على قاعدة الاستدلال والحجاج والمنطق العقلاني، وذلك إما بالإحالة على مرجعية فلسفية كما هو الشأن لدى الفيلسوف الذي يستحضر رموزا كبافلوف وبيكون وماركس، وإما بالاعتماد على التجربة والممارسة، كما هو الشأن بالنسبة للدراماتورج والممثل.

إن هذا الحوار العقلاني حول قضايا مسرحية في نص " اقتناء النحاس "، أدخل هذا الأخير في سياق المسرح المفكر فيه، بشكل جعل مينيون يؤكد " أن الفن الدرامي المسرحي لبرتولد بريشت يعد الأكثر تأملية " (105)، وجعل أبيل يعلن أن " برتولد بريشت هو منطقي Logician الميتامسرح " (106).

ولعل ما يزكي هذين الموقفين هو أن بريشت قام بمسح شامل في النص لمختلف المبادئ والمفاهيم المسرحية الأساسية وجعلها موضوعا للتداول العقلاني بين شخوصه، من ذلك مفاهيم : المحاكاة، الطبيعية، الإيهام، الاندماج، الواقعية، الوظيفة الاجتماعية للمسرح، المسرح بين الإمتاع والتعليم، التغريب، المسرح في العصر العلمي وغيرها من القضايا الجزئية التي تضيء الشعرية الملحمية.

لهذا، فنص " اقتناء النحاس " ينبغي أن يوضع بموازاة التنظيرات البريشتية التي تضمنها مؤلفه " كتابات حول المسرح " الذي يوضح فيه، بشكل شمولي، الأسس الجمالية والإيديولوجية للشعرية الملحمية. فإذا كان الميتامسرح في " اقتناء النحاس" يرسخ شعرية تنبذ الإيهام والاندماج وتقيم أسسا متينة لجماليات التغريب، فإن لهذا الميتامسرح وجها إيديولوجيا بارزا يركز على كون صورة العالم قائمة على التناقض وعدم الانسجام. ويتمثل الدور الأساسي للمسرح في الكشف عن هذه التناقضات ودفع المتفرج إلى اتخاذ موقف منها والعمل على تغييرها.

2. 3 - الميتامسرح الساخر : " ماكبث " ليونسكو :

يشير جان بيير رينغارت Jean Pierre Ryngaert في معرض حديثه عن علاقة القارئ بتجربة مسرح العبث إلى احتمالين أساسيين : فإذا " كان القارئ قد سبق له أن تعامل مع المسرح الموسوم ب " العبث " أو " الميتافيزيقي "، سيجد، في الحال، موضوعات مألوفة. وفي حالة العكس، سيواجه نظاما من المعلومات المتناقضة تقوم على أساس المحاكاة الساخرة للدراماتورجيا التقليدية " (107). لذا، فإن القارئ لمسرحية " ماكبث Macbett " لأوجين يونسكو Eugène Ionesco التي كتبت سنة 1972، سيجد نفسه أمام الاحتمالين معا في آن واحد.

يتعلق الأمربمسرحية تتناول موضوعات مألوفة متادولة بشكل كبير في مسرح العبث، ومنها على الخصوص موضوعة الموت في ارتباطها بعناصر أخرى كالسلطة والحرب وجرائم القتل المتتالية. علاوة على هذا، فمسرحية يونسكو مستوحاة من عمل درامي سابق في الزمان هو تراجيديا " ماكبث " لشكسبير. أو بعبارة أدق، إن " ماكبث " يونسكو " هي محاكاة ساخرة لماكبث شكسبير " (108).

ومعلوم أن المحاكاة الساخرة Parodie شكلت، بالنسبة لكتاب درما اللامعقول، إطارا آخر لممارسة إبداعية تنسجم مع الطابع المميز للكتابة العبثية باعتبارها كتابة تقوم على رفض كل مواضعات الدراما الكلاسيكية. لهذا، تقوم بتحويلها إلى مجال للصراع والمواجهة. ولعل أبرز مظهر يتخذه هذا الصراع هو السخرية التي تعمل على تحويل الأشكال التعبيرية التقليدية،إما بطريقة لعبية Ludique أو هجائية Satirique أو جادة Sérieuse، وذلك انسجاما مع ما تتيحه المحاكاة الساخرة (109) من إمكانات مختلفة لذلك.

وإذا كان الميتامسرح قد ارتبط في العديد من مراحل تطوره بالمحاكاة الساخرة، فإن نوعية هذا الارتباط في مسرح العبث تشكل محطة متميزة ضمن هذا التطور. فرغم أن المحاكاة الساخرة لا تتضمن - كما هو الشأن في مسرحية " ماكبث " ليونسكو - خطابا نقديا ونظريا ممسرحا بشكل صريح ومباشر؛ إلا أنها تشتغل هي نفسها عبر بنيات نصية تخييلية باعتبارها ميتالغة بالنسبة لنص سابق.

فالنص الساخر الذي هو " ماكبث " يونسكو يستحضر نصا سابقا مسخورا منه هو "ماكبث " شكسبير. لذا، يتعين - لفهم خصوصيات الميتامسرح في هذا العمل - الوقوف على العلاقة بين النصين وعلى طبيعة المسافة القائمة بينهما ونوعية السخرية التي يمارسها النص الثاني على النص الأول، هل هي جادة أم كوميدية، ثم على طبيعة الكتابة والأسلوب المستعمل في المحاكاة الساخرة. ذلك أن هذه المستويات تساعد على استخلاص ما إذا كان الأمر يتعلق بمحاكاة ساخرة لنص تراجيدي أم لنوع جاد بكامله هو التراجيديا ممثلة في أحد أبرز تجلياتها عبر التاريخ، وهو التراجيديا الإليزابيتية.

لا مناص أولا من استحضار النص المسخور منه وهو " ماكبث " شكسبير. فهو نص ينخرط في سياق التراجيديا الإليزابيتية التي شكلت مسرحة التاريخ بالنسبة إليها قاعدة أساسية للإبداع المسرحي. وقد تمت صياغة هذه المسرحة في إطار شعرية تستوحي أرسطو، وتقيم محاكاتها للتاريخ على أساس مبدأي الاحتمال والضرورة. فشكسبير يستحضر في مسرحيته أحداثا تاريخية متصلة بالصراع على السلطة خلال فترات معينة من التاريخ الإنجليزي، محاولا استخلاص مواقف إنسانية وطبائع بشرية من خلال هذا الصراع. وقد حشد لذلك نماذج شخوصية تنتمي، في أغلبها، إلى عالم النبلاء وقواد الجيش واللوردات والضباط.

وإذا كان يونسكو قد أظهر - بشكل مثير للاستغراب - رغبة في العودة إلى بناء الحدث على طريقة، الدارماتورجيا الكلاسيكية، وذلك من خلال الإحالة على الحدث التاريخي الشكسبيري، فإن ما يهمه، بالأساس، هو كون " هذا الحدث سلسلة من جرائم القتل، قبل كل شيء " (110). بالإضافة إلى هذا فالموت في هذا الحدث لا يتم التعامل معه باعتباره معطى ميتافيزيقيا، وإنما باعتباره مسألة سياسية واجتماعية. لذا، يتحول التاريخ في مسرحية يونسكو إلى سيل من الوقائع الدامية يستدعي أحدها الآخر بشكل حول النص إلى دائرة يشكل الموت نقطة بدايتها ونهايتها، في آن واحد. ففي "ماكبث" يونسكو تقتل شخوص عديدة بشكل متواتر منها كاندور Candor، كلاميس Glamiss، بانكوBanco، وماكبث Macbett.

لقد اختار يونسكو، إذن، توجيه الحدث الشكسبيري في الاتجاه الذي يخدم منظوره العبثي إزاء التاريخ الإنساني باعتباره تاريخا دمويا. وعليه، فإذا كان الموت حدثا خطيرا وجديا بالنسبة للتراجيديا الشكسبيرية، فإنه أصبح عند يونسكو حدثا مجانيا عاديا ومألوفا. فمشهد الإعدام، مثلا، في مسرحية يونسكو تحول إلى حدث آلي لا يضفي عليه الكاتب أية فظاعة أو خطورة من شأنها أن تحوله إلى مشهد تراجيدي. إننا نجد أنفسنا، بالأحرى، أمام مشهد " الموت المسلسلLa mort à la chaine " إن صح القول.

يمكن القول، إذن، إن يونسكو مارس من الناحية الموضوعاتية تحويلا لعبيا Transformation Ludique على " ماكبث " شكسبير تمثل في إضفاء طابع الابتذال والتكرار والألفة على موضوع خطير وجاد هو الموت، مما جعل المناخ العام للمسرحية يتحول مما هو تراجيدي إلى ما هو كوميدي، وجعلنا بالتالي، أمام مسرحية أجمع النقاد على كونها " الأكثر سوداوية والأكثر غرابة لهذا المؤلف " (111). فعلى الرغم من احتفاظ يونسكو على النماذج الأساسية التي صنعت الحدث الشكسبيري، إلا أنه أضفى عليها طابعا آخر حولها إلى " آلات ساخرة Automates dérisoires " (112). علاوة على هذا خلق يونسكو نوعا من التفاعل والتعايش بين هذه النماذج السامية وبين شخوص عاديين ينتمون للفئات المنحطة في المجتمع، حيث نجد رجالا ونساء من الشعب بالإضافة إلى شخوص يوحي مظهرها الأولي بأجواء العبث ومنها صياد الفراشات وبائع المشروبات Limonadier. فأي موقع للقارئ أن يتوقعه داخل العالم الدامي للمسرحية، بالنسبة لشخصوص من هذا النوع، غير موقع إضفاء الابتذال على الحدث وتوجيهه في اتجاه الضحك. فبائع المشروبات مثلا يقوم بعمله ويبيع داخل ساحة المعركة غير مبال بما يجري أمامه من قتال وما يحيط به من معالم الموت. أليس هذا إجراء يقوم على التناقض في الموقف الذي هو أساس العبث.

لم يستثمر يونسكو في مسرحيته التحويل اللعبي فحسب، وإنما مارس أيضا عملية من صلب المحاكاة الساخرة هي التحويل الهجائي Transformation satirique. ويتجلى ذلك واضحا من خلال الأسلوب الذي كتبت به مسرحية " ماكبث ". إن كوميك اللغة يدعم في هذا النص كوميك الموقف. فإذا كانت تراجيديا شكسبير قد كتبت بأسلوب شاعري يلائم أجواء التسامي السائدة فيها، فإن يونسكو عبأ، في محاكاته الساخرة، كل الإمكانات التعبيرية التي من شأنها تحويل هذا الجوالشاعري إلى مناخ كاريكاتوري ساخر ومضحك.

فمنذ المشهد الأول في المسرحية، نجد تعابير مقولبة Stéréotypes وتكرارات كثيرة وكلمات فظة وأسلوبا خشنا. فهذا جندي يحتسي جرعات من المشروب الذي قدمه له بائع المشروبات، ويعلق عليه قائلا :

" الجندي : (بعد أن شرب بعض الجرعات)

ليس جيدا. هذا بول القطط، ألا تخجل ؟ أيها السارق " (113).

وهذا ماكبث يتواجه مع ماكول Macol، ويتبادل أنواع الشتائم التي تحشد فيها مختلف النعوت والأوصاف الدني-ئة . فمثل هذه الأساليب لا نجدها حتى في أشد المشاهد توترا داخل " ماكبث " شكسبير.

إن هذه التحولات اللعبية والهجائية التي اعتمدها يونسكو لم يقف أثرها عند حدود سخرية نص لاحق من نص جاد سابق عليه. فتشويه بنيات الحدث والشخوص والموضوعات والأسلوب، امتد تأثيره ليشمل بنية النوع نفسها. إن إضفاء أجواء العبث والسخرية على "ماكبث" شكسبير جعلنا أمام نص كوميدي يسخر من التراجيديا كنوع جاد، بمظهريها الجمالي والإيديولوجي في آن واحد.

يستخلص من هذا، أن الميتامسرح في إطار المحاكاة الساخرة العبثية قد حقق من خلال مسرحية "ماكبث " ليونسكو ثلاث وظائف أساسية هي : الوظيفة النقدية والوظيفة التأويلية والوظيفة الإيديولوجية.

فمن الناحية النقدية، وعلى الرغم من كوننا لا نجد في النص خطابا نقديا ونظريا مباشرا إلا أنه يشتغل بإجراءيه التحويليين اللعبي والهجائي، باعتباره نقدا لبنية التراجيديا الإليزابيتية ممثلة في " ماكبث" شكسبير.

ومن الناحية التأويلية، يكشف لنا نص يونيسكو عن آليات جديدة لإعادة كتابة التراجيديا الإليزابيتية بكيفية تحولها إلى عمل كوميدي ساخر يفتح أمام المتلقي أفقا آخر يركز على بعد المسافة والاحساس بالتسامي أمام الشرط الوجودي، وذلك اعتمادا على السخرية والضحك. فالحدث التراجيدي قابل، إذن، لإعادة الإنتاج والتلقي بطرق جديدة لا تؤمن بمحاكاة الاحتمال ولا بالتطهير.

ومن الناحية الإيديولوجية، يتبين أن الهدف الأسمى لدى يونيسكو ليس هو نقل خطاب إيديولوجي مسكوك وجاهز، كما هو الشأن في المسرح التعليمي البريشتي مثلا، وإنما الهدف هو الكشف - عبر بنيات ساخرة - عن مظاهر الوحشية الرابضة في عمق الإنسان، والتي من شأنها أن تحول حياته إلى سلسلة من المشاهد الدموية يكون هو نفسه ضحية لها في نهاية المطاف. إن هذه الوحشية تجعل كل الشعارات السياسية والخطابات السلطوية مجرد مواقف لإخفاء عمق الفظاعة الإنسانية.

إن الميتامسرح في "ماكبث" يونسكو يؤسس - عبر بنية المحاكاة الساخرة - شعرية جديدة تقوم جمالي على مبدإ التحويل اللعبي والهجائي، وإيديولوجيا على الكشف عن حقيقة إنسانية لا يخلقها هنا الوضع الأنطولوجي للكائن الإنساني، بقدر ما يخلقها شرطه السياسي والاجتماعي.

3. تـركيــــب :

لقد وقفنا، من خلال هذا الفصل، على صيرورة الشعرية المسرحية الغربية من حيث انبثاقها من صيرورة الإبداع المسرحي نفسه، مستحضرين - بطبيعة الحال - التصور العام والمرن الذي يتعامل مع مفهوم " الشعرية " " بوصفها مجالا للتفكير النظري ومساءلة حصيلة النصوص المتحققة، لم تقف عند حدود الصنع الأدبي وتجليات اللغة داخله، وإنما وسعت الاهتمام والتفكير ليشمل تحديد بوطيقا مجموعة من الشعراء أو استخلاص شعرية كاتب معين أو استخراج نظرية عامة للأشكال الأدبية في فترة من الفترات"(114).

وانسجاما مع هذا التصور، تم التركيز على مختلف التوسلات الميتامسرحية التي اعتمدها المسرحيون الغربيون قصد بلورة شعريات ذاتية أو عامة من خلال إبداعاتهم.

لقد اعتمدت الإبداعات التي قمنا بتحليلها بنيات نصية متنوعة منها : المضاعفة المسرحية التي اتخذت شكل حلم داخل مسرحية عند كالدرون، وشكل مسرحية داخل مسرحية عند تشيخوف وبيرانديلو، ثم التجويف الأدبي الذي يسمح للنص بخلق مراياه الخاصة كما هو الشأن عند شكسبير؛ هذا بالإضافة إلى اعتماد استراتيجية التناص كما فعل تشيخوف ويونسكو، وإن كان الأول استعمله بكيفية جزئية لخدمة البنية الحكائية للنص، في حين اعتمده الثاني ضمن تصور جمالي شمولي أساسه المحاكاة الساخرة.

وانسجاما مع هذا التنوع في الإجراءات الميتامسرحية، عملت الأعمال المسرحية التي حللناها على الاتجاه نحو اختيارات نوعية أصيلة ومميزة تلائم خصوصيات التوجه "الشعري" لكل كاتب. فكالدرون اختار " الكوميديا "على الطريقة الإسبانية، وشكسبير لجأ إلى الدراما الكروتسكية. وتم المزج - لدى البعض - بين التراجيدي والكوميدي، ليس بطريقة التراجيكوميديا كنوع معروف، وإنما بطرق جد مختلفة جعلتنا نقف على ثلاثة مظاهر منها يبتعد بعضها عن بعض، لدى كل من تشيخوف وبيرانديلو ويونسكو. علاوة على هذا، حاول بريشت خلق نوع درامي جديد يمزج بين التخييل والتنظير ويقوم على "الإيهام بالمسرح".

وإذا كان المسرح - شأنه شأن الأدب - " ينوجد على تخوم الأجناس التعبيرية والخطابية ويتغذى من التفاعل مع النصوص الأخرى ومن مخزونات الذاكرة واللاوعي، ومن المكونات المادية المتناسلة التي غيرت، جذريا، علاقة الفرد بمحيطه، وبالطبيعة وبالذات الخاصة "(115)، فإن الشعريات التي بلورتها النصوص المدروسة - سواء تلك التي ظلت وفية لأرسطو أو التي تمردت عليه - ارتبطت في وعي أصحابها بمواقف ورؤيات للعالم يتخذ بعضها بعدا ذاتيا محضا، ويتجاوب بعضها الآخر مع روح العصر الذي يعيش فيه المبدع.

فكالدرون ممثل العصر الباروكي بامتياز، يتقاطع بشكل كبير مع شكسبير ممثل العصر الإليزابيتي، وذلك من حيث استنادهما معا على رؤية فلسفية ودينية متشابهة تقوم على مزيج من الأفلاطونية التي تنظر إلى العالم الواقعي باعتباره عالم أشباح وأوهام وأحلام، والإيمان الديني الذي يستحضر صورة متعالية للإلاه الذي يتحكم في " مسرح العالم الكبير". وبالمقابل، ينطلق كل من تشيخوف وبيرانديلو وبريشت ويونسكو من منطلق واحد هو الواقع باعتباره مجموعة أحداث وأفعال نابعة من الإنسان الموجود داخل شرط زمني محدد.

إلا أن التعامل مع هذا الواقع اختلف من مبدع إلى آخر. فتشيخوف اختار منظورا واقعيا يقوم على مفهوم " المحاكاة الكاملة "، وبيرانديلو عكس، من منطلق نسبي، صورة واقع مليء بالمفارقات، وبريشت جعل منه بؤرة للتناقضات الاجتماعية وألح على محاكاته بكيفية تجعله مكشوفا وتساعد على تغييره. أما يونسكو، فإن رؤيته الإنسانية الشمولية دفعته إلى إدانة واقع الشرور القائم في عمق الإنسان قبل أن تصبح الصراعات السياسية والاجتماعية تجليا له.

يستخلص من كل هذا، أن تناسخ الشعريات في المسرح الغربي لم يكن ترجمة لهواجس جمالية أو تقلبات في الحساسيات الفنية لدى كتاب المسرح الغربيين وحسب، وإنما هو استجابة إبداعية عميقة لما تمور به ذات المبدع في تفاعلها مع محيطها الثقافي والاجتماعي والسياسي.

وعليه، يمكننا أن نعتبر أن الميتامسرح إحدى أهم النوافذ الأساسية التي يمكن أن نطل من خلالها على واقع المسرح الغربي، وبالتالي على واقع الثقافة الغربية عموما، باعتبارها ثقافة تتفاعل فيها الأشكال الجمالية بالمضامين الإيديولوجية بشكل كبير.

هوامــش:

(49) Gottfried Willems (Cité par) Jean Marie Scheaffer - qu’est ce qu’un genre littéraire - Seuil 1989 - p.10/11.

(50) ابن منظور ـ لسان العرب ـ دار صادر ـ بيروت 1990 ـ ج.3 ـ ص.61.

(51) Didier Souiller - Introduction : Calderon et le Siècle D’or Espagnol (in) Calderon - La vie est un songe - Librairie générale Française 1996 - p.XXI.

(52) Ibid - p.XXI.

(53) Ibid - p.XL.

(54) صلاح فضل ـ ظواهر المسرح الإسباني ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992 ـ ص.76.

(55) نفســـه ـ ص.86.

(56) سليمان عبد العظيم العطار ـ بين مسرح كالدرون وفكر ابن عربي ـ عالم الفكر ـ المجلد 16 ـ العدد.2 ـ يوليو/أغسطس /سبتمبر 1985 ـ ص.382.

(57) Calderon - La vie est un songe - p.52.

(58) Ibid - p.58.

(59) Ibid - p.75/76.

(60) صلاح فضل ـ ظواهر المسرح الإسباني ـ ص.15.

(61) Michel Corvin - Lire la comédie - p.69.

(62) Lionel Abel - Metatheatre - p.65.

(63) Ibid - p.66.

(64) مارتن فان بورن ـ الجسد الكروتسكي : تمظهراته لدى غومبروفتس (في) حسن المنيعي ـ الجسد في المسرح (إعداد وترجمة) ـ مطبعة سندي 1996 ـ ص.106.

(65) Victor Hugo - Préface (in) Cromwell - Garnier - Flammarion 1968 - p.75.

(66) جبرا إبراهيم جبرا ـ ملاحظة عن تمثيل " هاملت " على المسرح (في) وليم شكسبير ـ المآسي الكبرى ـ عربها وقدم لنها جبرا إبراهيم جبرا ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1990 ـ ص.25.

(67) انظر : د.أ.م.وتيليارد ـ الأدب في عصر شكسبير ـ ترجمة نبيل حلمي ـ دار المعارف مصر 1971.

(68) هاملت (في) المآسي الكبرى ـ ص.114.

(69) Lucien Dallenbach - Le Récit spéculaire - p.22.

(70) Lionel Abel - Metatheatre - p.50/51.

(71) هاملت (في) المآسي الكبرى ـ ص.93/94.

(72) نفســــه ـ ص.103.

(73) نفســه ـ ص.115.

(74) Lurana Donnels O’Malley - plays within Realistic plays - p.40.

(75) La Mouette (in) - Anton Tchekhov - Théâtre (Platonov - Ivanov - la Mouette ) - Traduit et commenté par Elsa Triolet - E.F.R . de poche 1954/1962 - p.348.

(76) Ibid - p.347.

(77) Ibid - p.351.

(78) Ibid - p.356.

(79) Elsa Triolet (in) Anton Tchékhov - op-cit - p.337.

(80) La Mouette - p.353.

(81) مصطفى منصور ـ الكوميديا في مسرحيات " تشيخوف " النورس نموذجا ـ مجلة المسرح ـ العدد 52 ـ يوليو 1993 ص.25.

(82) Pierre Chabert - Le corps comme matériau dans la représentation théâtrale - p.302.

(83) Elsa Triolet (in) Anton Tchékhov - Théâtre - p.338.

(84) Lurana Donnels O’ Malley - palys within Realistic plays - p.46.

(85) فوزي فهمي احمد ـ المفهوم التراجيدي والدراما الحديثة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986 ـ ص.136.

(86) La Mouette - p.409/410.

(87) Luigi Pirandello - Ecrits sur le Théâtre et la littérature - Traduction de l’Italien et Introduction par Georges Piroué - Edit Denoël 1968 - p.77.

(88) Ibid - p.45.

(89) Lionel Abel - Metatheatre - p.111.

(90) Luigi Pirandello - Ecrits sur le théâtre et la littérature - p.69.

(91) Luigi Pirandello - Six personnages en quête d’Auteur (suivi de) la volupté de l’Honneur - Version Française de Benjamin Crémieux - Edit Gallimard 1950 - p.73.

(92) Ibid - p.13.

(93) Ibid - p.15.

(94) Manfred Schmeling - Métathéâtre et Intertexte - p.66.

(95) Luigi Pirandello - Six personnages en quête d’Auteur - p.82.

(96) Ibid - p.91.

(97) Bernard Dort - Théâtres (essais) - p.84/85.

(98) Georges Piroué - Présentation (in) Luigi Pirandello - Ecrits sur le théâtre et la littérature - p.6.

(99) Manfred Schmeling - Métathéâtre et Intertexte - p.62.

(100) Paul Louis Mignon - Le Théâtre au XX Siècle - Edit Gallimard 1986 - p.247.

(101) Philippe Ivernel - Pédagogie et politique chez Berthold Brecht (in) le Théâtre Moderne : Hommes et Tendances - C.N.R.S. 1968 - p.180.

(102) Jacques Nichet - La Critique du Théâtre au Théâtre - p.31.

(103) Berthold Brecht - l’Achat du cuivre: Entretiens à quatre sur une nouvelle manière de faire du théâtre - Edit - l’Arche 1970 - p.11/12.

(104) Ibid - p.17.

(105) Paul Louis Mignon - Le théâtre au XX Siècle - p.294.

(106) Lionel Abel - Metatheatre - p.111.

(107)Jean Pierre Ryngaert - Lire le Théâtre Contemporain - Dunod 1993 - p.11.

(108) Tatsuo Morimoto - Fonctions du rire dans le Théâtre Français contemprorain - Librairie A.G. Nizet - Paris 1984 - p.94.

(109) انظر في هذا الصدد الفصل الخاص ب "المحاكاة الساخرة " في:

- Denise Jardon - Du Comique dans le texte Littéraire .

(110) Tatsuo Morimoto - Fonction du Rire dans le théâtre Français cintemporain - p.78.

(111) Ibid - p.76.

(112) Ibid - p.91.

(113) Eugène Ionesco - Macbett - Edit Gallimard 1972 - p.27.

(114)محمد برادة ـ الأدب وبوطيقا المجهول ـ الكرمل ـ العدد51 ـ ربيع 1997 ـ ص.292.

(115) نفســـه ـ ص.293.

 

 

Contactez-nous

  Copyright © 2001 unecma.net