النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد

المنشورات الإلكترونيـة

حسن يوسفـي

حسن يوسفـي، المسرح في المرايا. شعرية الميتامسرح واشتغالها في النص المسرحي الغربي والعربي

الفصل الأول:

الميتامسرح بين الميتانصية والتجويف الأدبي

 

 

1 - الميتامسرح ظاهرة ميتانصية :

حدد جيرار جينيت Gérard Genette موضوع الشعرية في كتابه "طروس Palimpsestes " في ما سماه بالعبر- نصية Transtextualité. وقد ميز فيها بين خمسة أنماط هي : التناص Intertextualité والنص الموازي Paratexte والتعالي النصيHypertextualité وجامع النص Architextualité ، بالإضافة إلى الميتانصية Métatextualité . وما دام كل نمط ينبني على علاقة نصية محددة، فإن الميتانصية " هي، ببساطة، علاقة " تعليق " تجمع نصا بنص آخر يتحدث عنه دون أن يحيل عليه (أو يستحضره) بالضرورة، بل دون تسميته، على الأقل [...] إنها العلاقة النقدية بامتياز" (13).

إن الميتا نصية هي عملية إدماج للبعد النقدي داخل العمل الإبداعي. لذا، فإنها تدفع إلى إعادة النظر في التقليد الذي دأب على إقامة تمييز صارم بين عالمي النقد والإبداع. ويبدو أن المصطلح الذي اختاره جينيت للتعبير عن هذا التداخل يفي بالغرض، لاسيما وأن الدلالة المتصلة بأداة التصدير " ميتا " تعبر عن عمليتين نقديتن متزامنتين هما : التضمين والتجاوز. يقول أحد الدارسين في هذا الصدد : "ميتا - إيتيمولوجيا - هي "ما يتضمن" و "ما يتجاوز" أيضا " (14).

انطلاقا من هذا التحليل، يمكن القول إن علاقة الميتامسرح بالميتانص هي علاقة الخاص بالعام، لأن هذا الإجراء الميتانصي يطال مختلف الأجناس الأدبية شعرا كانت، أو رواية، أو مسرحا. ولعل هذا الاقتران بالأجناس هو الذي أدى إلى نحت مصطلحات كفيلة بالتعبير عنه في النقد المعاصر. لذا، فلا عجب أن نجد الأوساط الأدبية تتداول مصطلحات من قبيل : الميتاشعر، الميتارواية والميتامسرح.

إن هذه المصطلحات تؤكد أن التداخل والانصهار بين الإبداعي والنقدي ظاهرة عامة في كل الأجناس. إلا أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن هذا التداخل خضع عبر تاريخ الممارسة الإبداعية لتوجهين : أحدهما عفوي غير خاضع بالضرورة لوعي بآليات الظاهرة وأبعادها، وثانيهما واع يترجم اختيارا جماليا وفكريا تحكمه خلفية نظرية يمكن نعتها بالحداثة الأدبية والنقدية (15). لذا، فلا مناص للباحث في هذه الظاهرة الميتانصية في علاقتها بمختلف الأجناس، من استحضار التمييز بين هذين التوجهين حتى لا يخلط بين الإجراءات التي انبثقت بعفوية عن الإبداع، والإجراءات التي تحولت إلى اختيارات أدبية محكومة بسياقات ثقافية محددة المعالم.

1 - 1 - الأدب من " كتابة المغامرة " إلى " مغامرة الكتابة "

من مظاهر الحداثة الأدبية في السياق الغربي عموما، وفي فرنسا على وجه الخصوص، ظهور ما يسمى بموجة الرواية الجديدة التي جاءت بأساليب فنية وطرق سردية جديدة أعلنت، من خلالها، قطيعتها مع التقليد السائد في الرواية الكلاسيكية. وقد أفلح جان ريكاردو، أحد أقطاب هذه الموجة الروائية، في اختيار الصيغة الملائمة للتعبير عن هذا التحول، حين قال إن الرواية الجديدة ليست " كتابة مغامرة " وإنما هي " مغامرة كتابة ". وقد قصد بذلك أن الرهان الجديد للرواية ليس هو سرد المغامرات والحكايات، وإنما هو الاشتغال على الأداة الأساسية التي هي اللغة. ويبدو أن هذا الرهان المتمثل في الانشغال بقضايا الكتابة لم يقتصر على الرواية وحدها، بل أصبح هاجس الأدباء المعاصرين عموما في الشعر وفي المسرح أيضا. ولعل هذا ما جعل أحد الدارسين يرى "أن قضايا الكتابة التي يعالجها " الأدب " أصبحت في النصوص " الحديثة " تناظرا مهيمنا Isotopie dominante (16).

إن اختيار كلمة "تناظر" للتعبير عن هذه الظاهرة يؤكد، بشكل جلي، مدى الحضور المتواتر والمتكرر لهواجس الكتابة داخل النص الحديث لاسيما وأن التناظـر كما يعرفه كريماس - هو: " مجموعة اعتباطية من الخصائص الدلالية التي تسمح بالقراءة الموحدة للمحكي"(17) .

إن النص الحديث لم يعد ينتظر من النقد أن يكون مرآته التي ينظر من خلالها إلى نفسه، لأنه أصبح يخلق مراياه الخاصة بداخله. لقد تحول، بالتالي، هذا النص إلى مرآة مقعرة أو بالأحرى إلى " زجاج غير مرصص Glace sans Tain " حسب التعبير الاستعاري لكلود أباسطادو. وإذا كانت هذه الاستعارة توحي بأن النص لم يعد يعكس شيئا في حقيقة الأمر، مما يجعلنا نفترض أن ظاهرة الاهتمام بمغامرة الكتابة ظاهرة غير إيجابية، فإن العكس هو ما يعبر عنه البعض حين يرى في لحظة مزاولة النص للتفكير النقدي والنظري "أخصب لحظة، حيث تتخلل الإنتاج النصي تأملات نقدية فتصبح الكتابة قراءة للكتابة، والممارسة تنظيرا للممارسة"(18) .

إن التحول الذي عرفه الأدب الحديث من كتابة المغامرة إلى مغامرة الكتابة، نتج عنه تحول في طبيعة الممارسة النقدية نفسها. فإذا كان الإبداع قد سمح لنفسه باختراق عالم النقد إلى حد الاحتواء والامتصاص، فإن النقد، بالمقابل، عرف كيف يخرج من قوقعته ويحطم سياج العلمية والصرامة ليصبح بدوره إبداعا قابلا للقراءة بالشكل الذي تقرأ به الآثار الأدبية. إن النقد تحول - في هذا السياق الجديد - إلى كتابة. ولعل هذا ما يشير إليه رولان بارث في "النقد والحقيقة " حين يقول: " الكاتب هو من يكون القول بالنسبة له معضلة، إنه يختبر عمق القول لا أداتيته أو جماله. وإذن، فقد ولدت كتب نقدية تقدم نفسها للقراءة بحسب نفس الطرق المتبعة في قراءة الأثر الأدبي ذاته، مع أن كتابها لا يعتبرون، بحسب وضعيتهم، سوى نقاد لا كتاب. فإن كان للنقد الجديد حقيقة ما فهي تكمن هنا : ليس في وحدة مناهجه، ولا في نزعة التباهي التي تدعمه - كما يقول البعض - وإنما في عزلة فعل النقد الذي يترسخ من الآن فصاعدا، بعيدا عن تعلة العلم والمؤسسات، باعتباره فعل كتابة مكتملة بذاتها " (19) .

إن هـذا الاختـراق المتبـادل بيـن الإبـداع والنقـد يعـد عنوانا للحداثة الأدبيـة والنقدية لاسيما وأنه يعيد النظر، بشكل واضح، في نظرية الأجناس المنحدرة من الفكر الكلاسيكي الذي جعل من النظرية الأرسطية مذهبا أو عقيدة Doxa وليس تصورا جماليا قابلا للتجاوز والاختراق.في ضوء هذا التحول، ينبغي النظر إلى الميتانصية كمظهر أدبي عام وإلى المتياشعر والميتارواية والميتامسرح كتجليات نوعية لهذا المظهر.

1 - 2 - الميتارواية :

الميتارواية من الظواهر الميتانصية التي استأثرت باهتمام النقد الروائي الأوربي والأمريكي والعربي أيضا، حيث انصب البحث فيها على جانبين كبيرين : التعريف بالميتارواية وأشكالها وبنياتها، ثم تفسيرها باعتبارها ظاهرة أدبية ذات أبعاد ثقافية وسوسيولوجية. ولعل ما يفسر هذا الاهتمام هو الاقتناع بأن دراستها هي " في الواقع، دراسة لما يعطي للرواية هويتها "(20)؛ هويتها النوعية باعتبارها جنسا عرف صيرورة تاريخية، وهويتها النصية باعتبارها تشكلات حكائية وتمثيلات ورسما لمواثيق قرائية مختلفة.

لقد أثارت الميتارواية ردود فعل مختلفة، حيث رأى فيها البعض نوعا من الرعونة والسذاجة (نللي كورنو)، ومظهرا لأزمة الرواية (ميشال ريمون) أو موتها، وتعبيرا عن نزعة لا إنسانية في الأدب (أورتيجا إيكاسي) ومؤشرا على نضوب الأدب وجفافه (جون بارث). في حين رأى فيها البعض الآخر ظاهرة أدبية ذات أبعاد سوسيوثقافية، كما هو الشأن لدى لندا هيتشون Linda Hutcheon التي ترى " أن محكيا يبنين ذاته لا يدل على نقص في الحساسية أو في الاهتمامات ذات البعد الإنساني لدى الروائي، كما أنه ليس علامة على أزمة، أو على اختناق المتخيل الأدبي المترتب عن جهد كبير جدا في التفكير النقدي، أو على مبالغة في الفضول إزاء الكتاب، أو فقدان الروائيين الإيمان بعملهم، أو عن التكعيبية أو السينما، أو كل الفرضيات التي قدمها أعداء المتخيل الأدبي. فلو كان الوعي بالذات علامة على تفكك من هذا النوع، لكانت الرواية، إذن، بدأت انحطاطها منذ ولادتها "(21) .

إن الميتارواية - حسب هذا المنظور الإيجابي - ترتبط بظاهرة عامة للشكلانية الأدبية كإطار تبلورت فيه أشكال الوعي الذاتي التي تترجم التحول العميق في المفاهيم الأساسية التي تنبني عليها الظاهرة الأدبية، وخصوصا منها مفهومي الإنسان واللغة. فالإنسان أصبح يعيش تجربة تتمثل في الشك في كل القيم وعدم الاطمئنان للمعيش المحكوم بأية سلطة سواء كانت اجتماعية أو متعالية. ولعل هذا التفسير السوسيوثقافي هو الذي تميل إليه باحثة أخرى في مجال الميتارواية حيث ترى أنه " على الرغم من كون هذا الإجراء التعارضي، موجودا بشكل ما في الرواية عموما [...] فإن حضوره في الرواية المعاصرة فريد من نوعه. إن الفترة التاريخية التي نعيشها لا يقينية بشكل متميز، غير آمنة، مسائلة لذاتها ومتعددة ثقافيا. والرواية المعاصرة تعكس، بوضوح، هذا النوع من عدم الاقتناع بالقيم التقليدية وتدمرها "(22).

إن هذا المستوى من الوعي الذاتي الذي تعبر عنه الميتارواية لم يأت، في الحقيقة، إلا تتويجا لمسار قطعته الرواية عبر تارخها الطويل جعلها - في نظرلندا هتشون - شبيهة بنرسيس Narcisse . فهذا الأخير مر بمراحل قبل أن يكتشف صورته في الماء وينبهر بجماله. إلا أن الفرق الموجود هو في كون التغير النرجسي في الرواية " تغير في الدرجة وليس في النوعية "(23).فالرواية كانت دائما واعية بمساراتها، إلا أن الجديد، في الميتارواية، هو أن هذا الوعي أصبح قضية مركزية واختيارا جماليا أملته شروط سوسيوثقافية.

في هذا الإطار، لابد أن نعيد النظر في الرأي الذي يقول بأن انقطاع الصلة بين الروائي وواقعه هي التي جعلته يصبح هو ذاته موضوعا لأدبه. إن مفهوم الواقع خضع، في الميتارواية، للتحويل وليس للتغييب، وبعبارة أدق، فهي " تشتغل من خلال أشكلة Problematization مفهوم الواقع أكثر من تدميره " (24)، وذلك لأنها لا تعتمد مبدأ التمثيل، وتعوض " محاكاة الإنتاج " ب " محاكاة السيرورة " حسب تعبير هتشون. ذلك أن هذه المحاكاة الأخيرة تساعد على استحضار الواقع عبر إجراءات جمالية واعية تراهن على إشراك القارئ في بنائها وتفعيلها عوض البحث عن معادل يطابقها في الواقع، كما هو الشأن في المحاكاة الأولى. ونظرا لأهمية هذا الإجراء الميتاروائي إزاء الواقع، فقد أصبح مكونا أساسيا في تعريف الميتارواية كمصطلح " أطلق على الكتابة الروائية التي تأخذ بالاهتمام، بكيفية واعية بذاتها ونسقية، أنظمتها، وذلك كإجراء يستهدف مساءلة العلاقة بين الرواية والواقع "(25)

وإذا كان هذا هو الهدف من عملية التأمل الذاتي، فإن موضوع التأمل يتمثل في المكونين الأساسين للرواية وهما : المحكي واللغة. لذا، نجد هتشون تستحضرهما في تعريفها للميتارواية حين تقول : " الميتارواية [...] هي الرواية عن الرواية، أي الرواية التي تدمج داخلها تعليقا حول هويتها السردية و/ أو هويتها اللغوية "(26). ولعل الأهمية الكبرى لهذا الإجراء المزدوج، تكمن في الأفق الجديد الذي فتحته للعلاقة بين المؤلف والقارئ والموقع المتميز لكل منهما داخل المتخيل الروائي. فالمؤلف لم يعد محروما من الانخراط المباشر في عمله والتعبير عن آرائه إزاء مسار الحكي وتشكلاته اللغوية بكيفية تسمح باستحضار القارئ وإشراكه في هذه العملية.

ويتميز وضع القارئ في الميتارواية بطابع المفارقة لأنه مرغم على أن يكون مندمجا ومبعدا في آن واحد. يتمثل الاندماج في مشاركته في صنع متخيل النص، أما الإبعاد فيتجلى في ضرورة جعله واعيا بالطابع اللغوي والتخييلي للعمل الروائي، وكذا بالمسافة الفاصلة بينه وبين الكائنات الورقية حسب تعبير بارث. ويبدو أن الميتارواية تشكل، من هذه الزاوية، المعادل الإبداعي للنظريات النقدية المعاصرة التي ردت الاعتبار للقارئ وأكدت على دوره الفعال في العملية الإبداعية.

ولتقديم صورة واضحة عن هذه القضايا النظرية التي أفرزتها الميتارواية، لابأس أن نقدم نموذجا لتمظهراتها في عمل روائي عربي جديد هو رواية " النجوم تحاكم القمر" لحنا مينه.

تشير المعطيات الأولية التي يصدر بها المؤلف روايته إلى أن الأمر يتعلق بعمل مفتوح من حيث الإنتماء النوعي : " هذه رواية ومسرحية معا، فمن شاء أن يقرأها رواية ففي وسعه ذلك، ومن شاء أن يقرأها مسرحية ففي ميسوره أن يفعل"(27)، بالإضافة إلى هذا فهي عمل تجريبي : " إن التجريب، مع الابتكار، ليس صرعة قصدية بالنسبة إلي، بل هو هدف أسعى إليه مجتهدا "(28).

"النجوم تحاكم القمر" رواية يحاكم فيها حنا مينه متخيله الروائي السابق الذي أسسه عبر عشرين رواية ظهرت قبل هذه الرواية. إنها رواية عن الروايات، تشتغل عبر إجراءات ميتانصية تتأرجح بين التعليق والنقد والتنظير. يقوم متخيل هذه الرواية على محاكمة يمثل فيها أمام القضاء عناد الزكرتاوي المتهم الرئيسي والناطق باسم المؤلف، وتتكون هيأة المحكمة من شخوص الروايات السابقة لحنا مينه، التي جاءت كي تحاكمه على الأقدار والمسارات التي رسمها لها في أعماله، في جو مفعم بالصراع الدرامي : "قال عناد الزكرتاوي الذي جره حارسا المحكمة إلى قفص الاتهام وأغلقا باب القفص الحديدي دونه :

- أنا أطعن في صلاحية هذه المحكمة. أوقفوا هذه المهزلة. انصرفوا. انصرفوا كلكم. دعوني في وحدتي. أنا لست جانيا أو مجرما. أنا الذي خلقتكم من ذاتي الأدبية، فهل تبلغ القحة بكم أن تحاكموا خالقكم من ذاته الأدبية ! ؟.

ردت أصوات الجمع :

- إنما نحاكمك لأنك خلقتنا، أو لأنك تعذبنا فتماطل في خلقنا " (29).

في هذا الإطار، يحضر " ديميتريو " ليحاسب المؤلف على العذاب الذي ألحقه به والمأساة التي قدرها له والمتمثلة في موت كريه ومجاني، كما تحضر " راجعة " حبيبة ديميتريو كي تطالب بدم هذا الأخير وتتعرف على قاتله. بل إن بعض الروايات السابقة ك " الربيع والخريف " تستحضر ككتاب في إطار الشهادة.

يستخلص من هذا أن " النجوم تحاكم القمر " تكشف النقاب عن الكيفية التي يصنع بها الروائي شخوصه ومسارات حكاياته، بمعنى أنها تعري آليات الصنعة الروائية. لذا، يمكن القول إن الرواية أصبحت شفافة إلى حد بعيد. ولعل هذه الشفافية هي التي جعلت حنا مينه لا يتردد في تضمين روايته خطابا ميتانصيا يعلن فيه عن موقفه من النقد الروائي:

" رئيس المحكمة :

- بين الخبراء نقاد، وهم قراء لأنهم نقاد، هل تجادل بهذه البدهية أيضا ؟

المتهم الزكرتاوي :

- أجادل ؟ نعم أجادل ! أطعن أيضا ! القراء غير النقاد. القراء يقرأون بقلوبهم البريئة، وبعض النقاد يطبقون نظرياتهم الرديئة، وفي رؤوسهم، غالبا، أحكام مسبقة وجاهزة !

رئيس المحكمة :

- أنت ترفض النقاد إذن ؟ هذا يخالف ما كنت تصرح به للصحف والمجلات.

المتهم :

أنا لا أرفض النقاد جميعا. بيني وبين أكثرهم علاقات احترام متبادل. أرفض الذين يتعتعون بالكلام من السكر، والذين يعزلون النص، وأولئك الذين يرسمون خطوطا ودوائر ويتسقطون المفردات باسم البنيوية أو الألسنية، وكذلك الذين في قلوبهم مرض. أريد قرائي. الذين ذكرتهم لا يقرأون ما في الكتب، بل ما هو تحت جلودهم الصفراء، لدي أدلة على ذلك "(30).

يتضح، من خلال هذا المقطع، أن حنا مينه ينخرط بشكل مباشر في متخيله الروائي كي يعلن موقفه من النقاد. لذا، فهو يستفيد من الوضع الجديد الذي تتيحه الميتارواية للمبدع كي يعلن عن اختياراته الجمالية، ويسائل ذاته وتجربته، ويتأمل الكيفية التي تم بها تلقي أعماله السابقة(31).

1. 3 - الميتاشعـر:

شكل الشعر دوما مجالا خصبا للتداخل والانصهار بين الابداع والنقد في مختلف الآداب العالمية. وقد اتخذ هذا التداخل أشكالا مختلفة، بدءا من الوعي النقدي الذي يلازم سيرورة الإبداع نفسها من حيث خضوعها للتأمل والتنقيح وإعادة النظر والتقويم وغيرها من العمليات التي تجعلنا نؤكد أن الشاعر يضمر في داخله ناقدا بالقوة وبالفعل، وصولا إلى إدماج القصيدة الحديثة للمكون الميتاشعري باعتباره جزءا من متخيل القصيدة كتعبير عن أفق حداثي في التجربة الشعرية.

فبخصوص المظهر الأول، يؤكد ت.س. إليوت أن " عملية الغربلة والربط والبناء والشطب والتصحيح والاختيار... تشكل جهدا مضنيا للنقد فيها ما للخلق من أهمية. وأنا أزعم أن النقد الذي يمارسه كاتب ماهر متمرس على أعماله هو أهم أنواع النقد وأسماها"(32). ونظرا للمظهر الإيجابي لهذا النوع من النقد، فقد وجدنا في التراث الشعري العربي تجارب تعتمده كقاعدة في الممارسة الإبداعية، ومنها، على الخصوص مدرسة الحوليات التي يمثلها زهير بن أبي سلمى الذي كان لا يخرج قصيدته للتداول إلا بعد أن يمر عليها حول كامل من التنقيح والتحكيك. وبموازاة مع هذا، نجد بعض الشعراء الذين لا يكتفون بجعل قصائدهم تنوب عنهم في التعبير عما بذلوه من جهد نقدي في نظمها، بل يحولون هذا الجهد إلى موضوع أساسي داخل القصيدة، حيث نجد في الشعر العربي القديم، مثلا، أبياتا كثيرة يتحدث فيها الشعراء عن معاناتهم في اختيار القوافي وفي تقويم وزن القصيدة.

ويلاحظ أن العلاقة بين الشعر والنقد قد تجاوزت، أحيانا، هذه المظاهر الضمنية لتصبح صياغة خطابية صريحة، كما هو الشأن بالنسبة لما سمي ب " النقد المنظوم "، الذي ينحدر تاريخه من " شعرية " هوراس ليصل إلى سانت بوف في العصر الحديث. وفي تعليقهما على هذا الأخير، يرى صاحبا كتاب " النقد الأدبي " بأن " ما يجعل شعره وروايته رديئتين، من جهة، هو الصفات النقدية التي يظهرها فيهما. إن سانت بوف بدلا من أن يعبر مباشرة عن نفسه، فإنه يحلل نفسه، وبدلا من أن يفصح بالشعر أو النثر عن مشاعره وانفعالاته وقلقه، فإنه يعطيها تفسيرا مجردا؛ وأن دواوينه الشعرية هي، في الواقع، مختلطة بأفكار عن مهمته كناقد حتى أننا نجد فيها نقدا منظوما! "(33).

وفيما يتعلق بما سميناه بالمكون الميتاشعري في القصيدة، يمكن القول إن أصوله وإرهاصاته الأولية بدأت مع القصيدة القديمة، حيث نجد شعراء يصوغون تصوراتهم عن الشعر وطبيعته ووظيفته في أبيات شعرية. ويمكن أن نمثل لهذا بنموذجين : الأول يعبر، من خلاله، حسان بن ثابت عن موقفه من قضية الصدق والكذب في الشعر- وهي قضية أساسية في النقد العربي القديم - حيث يقول :

وإنما الشعر لب المرء يعرضه وإن أشعر بيت أنت قائـلـه

على المجالس إن كيسا وإن حمقـا بيت يقال إذا أنشدته : صدقـــــا

والثاني يتحدث فيه البحتري عن الفرق بين الشعر والخطبة من حيث اعتماد الأول على الإيحاء عوض الهذر، وهو الموقف الذي تبناه أبو الحسن الآمدي باعتباره ناقدا، حيث يقول: ".لأن الشعر أجوده أبلغه، والبلاغة إنما هي إصابة المعنى، وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة مستعملة سليمة من التكلف، لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة، ولا تنقص نقصانا يقف دون الغاية، وذلك كما قال البحتري :

والشعر لمــح تكفي إشارتـه وليس بالهذر طولت خطبه " (34)

إلا أن ما ينبغي تأكيده هو أن حضورا من هذا النوع للمكون الميتاشعري، لم يكن ترجمة لاختيار جمالي واع كما هو الشأن في التجربة الشعرية الحداثية التي أصبحت فيها علاقة هذا المكون بالنص جزءا من متخيل القصيدة، وبالتالي، عنصرا دالا في البناء الدلالي والرؤيوي لهذه القصيدة. عن هذا النمط، يسرد رينيه ويليك نماذج من الشعر الأوربي والأمريكي، حيث يقول : " ومع ذلك ظل بعض الشعراء يحاولون التحدث في شعرهم عن الشعر والشعراء، أي أن يخلقوا شيئا سمي الشعر الحديث عن الشعر Meta- poetry مثلما نتكلم عن لغة الحديث عن اللغة. ويهتم هذا الشعر الذي يتحدث عن الشعر بتجديد هوية الشاعر ووظيفته ورسالته. ولابد من ربطه بالتساؤل الحديث حول مكانته كصاحب رؤيا، ككاهن أو حكيم. وقد أعاد هولدرلن في ألمانيا التأكيد في الشعر على قدسية رسالة الشاعر، وطلب رلكه في وقت ليس بالبعيد من الشاعر، في المرثية السابعة من مراثي دوينو، أن يعيد تشكيل العالم المرئي برمته إلى فضاء داخلي. وفي فرنسا كتب مالارميه قصيدة " النخب الحزين " لتيوفيل غوتييه أعاد فيها التأكيد بلهجة التحدي اليائس على وظيفة الفن المخلدة " عن طريق التحريك الرزين لهواء الكلمات ". أما في الشعر الأمريكي، فمن الممكن الاستشهاد بقصيدة والس ستيفنز " ملاحظات من أجل عالم خيالي علوي" أو قصيدة " فكرة النظام في كي وست" التي تخاطب ناقدا فرنسيا هو رامون فرناندز لتمدح " ذلك الحماس المقدس للنظام ، حماس الصانع لنظم الكلمات .. أو قد نستشهد بقصيدة آرجيبولد مكليش " فن الشعر " بخاتمتها التي غالبا ما يساء فهمها والتي تقول : القصيدة لا يجب أن تعنيبل أن تكون " (35).

وقد يتخذ المكون الميتاشعري، في بعض التجارب، شكل خطاب نقدي يصوغ إبداعيا اهتمامات المحيط الثقافي للشاعر اللسانية والشعرية، بحيث يصبح الشعر حقلا لتجريب هذه الاهتمامات. ولعل هذا ما تبرزه إحدى الدراسات التي عملت على " تحديد عدد معين من العلاقات بين الكتابات اللسانية ل ج.بولان J.Paulhan ،والنصوص النقدية أو الشعرية لإيلوار، وإبراز كيفية تمكن الأولى من إنشاء ميتالغة محددة باعتبارها " نموذجا لغويا " بالنسبة للثانية " (36). فإذا كان بولان قد صاغ ميتالغة لسانية تقوم على الاهتمام بالكلمة، وبعلاقة الذات المتكلمة باللغة والصور والأمثال، فإن الإبداع الشعري للشاعر السوريالي بول إيلوار قد عمل على اختبار هذه الميتالغة وتقديم معادلها الإبداعي.

وقد يتحول المكون الميتاشعري إلى تحليل لتجارب شعراء آخرين والتعليق عليها. ويمكن أن نمثل لذلك بنموذج من الشعر العربي المعاصر يجسده محمد عفيفي مطر، هذا الشاعر الذي تجمع شخصيته الأدبية بين الخاصيتين الإبداعية والنقدية (37)، ويتميز بالقدرة على صهرهما في قالب واحد، كما هو الشأن في إحدى قصائده ذات النفس الدرامي عنونها ب " الملكة واللوردات وآخرون " تراجيديا " ". يقول في مقطعها السادس الموسوم ب " الشعر " :

"(6) الشعر

دعوا التشطير والتخميس .. هذا الشعر أجداث

وأوهام مخرقة وأضغاث

دعوا الخيام يشرب كأسه وحده

ويلعن ظلمة الحفرة

ويشكو قسوة الأقدار للندمان

دعوا " شوقي " يسبح ربه السلطان

ويلبس تاج مملكة مزيفة بلا تيجان

دعوا الموتى ..

فكم سفحوا محابرهم على الأعتاب

ومدوا كفهم للرّفد والخلعة

ويا أسفا .. مضوا .. تركوا حروفا

طرزت بالوشي والصنعة

وليس بها عبير تراب

وليس بها عبير الليل حين ينيره الإنسان

ببعض عذابه، بالجوع بالحمى

وهذا العصر - رغم جفافه - يشتاق للكلمة

إذا سارت على قدمين

وغاصت في الدم المشبوب حمرة نار

وشفت عن ضمير القاع .. " (38).

يتأرجح الخطاب الميتاشعري في هذا المقطع بين بنيتين : إحداهما تقويضية، والثانية تأسيسية. الأولى هدم لمفهوم شعري يتغنى بالأجداث والأوهام والأضغاث، والثانية بناء لمفهوم آخر، نقيض للأول، يقوم على ضرورة غوص الشعر في عمق الإنسان وفي دمه وضميره. إن عفيفي مطر ينتقد هنا تجربتين شعريتين : الأولى لعمر الخيام الذي تغنى بالكأس ولعن الموت في رباعياته، والثانية لأحمد شوقي الذي كرس جانبا من شعره لمدح السلطان. وعلى أنقاض هاتين التجربتين يبني موقفه الذي يعتبر الشعر ضرورة لهذا العصر، ويمجد ما ارتبط منه بالأرض والإنسان، وغاص في أعماقهما بعيدا عن الزيف والخداع.

1. 4 - الميتامسـرح :

يفترض الحديث عن الميتامسرح باعتباره ممارسة ميتانصية شبيهة بالميتارواية والميتاشعر، الانطلاق من اعتبار المسرح جنسا أدبيا. والواقع أننا حين نفكر في النص المسرحي من زاوية شعرية النص الأدبي، فإننا نسير في هذا الاتجاه. إلا أن ثمة معطى قد يشوش على هذا الاختيار، ويتعلق بالوضع المزدوج للمسرح الذي يجعله نصا أدبيا وفرجة في آن واحد. إن هذا الوضع يتطلب استحضار إشكال الخصوصية المسرحية، ويدفع إلى القول إن الميتامسرح ممارسة ميتانصية، لكنها تتم بأدوات مسرحية أساسا.

فالنص المسرحي يتكون من طبقتين نصيتين هما : الحوار والإرشادات المسرحية. لذا، فإن التساؤل المطروح هو : أين تظهر الميتانصية، هل في الحوار، أم في الإرشادات المسرحية، أم فيهما معا ؟

لقد حاول بعض الدارسين التصدي لهذا الإشكال باعتماد مفهوم مرن قابل للتكيف مع ظواهر علمية ولسانية وسيميائية وأدبية في آن واحد، هو مفهوم الميتالغة Métalangage، الذي انحدر من المنطق ليخضع لنوع من التعميم جعله ينتقل إلى حقل اللسانيات ثم إلى حقل النقد الأدبي.

ففي سياق حديثها عن الوظائف الست الجاكبسونية في علاقتها بالخطاب المسرحي، ترى آن اوبرسفيلد Anne Ubersfeld أن الوظيفة الميتالغوية " التي نادرا ما تحضر في الحوار الذي لا يفكر في شروط إنتاجه إلا قليلا، تشتغل بشكل كبير في كل الحالات التي تحضر فيها المسرحة، أي الإعلان عن المسرح، أو المسرح داخل المسرح، أي في حالة القول : إن سنني سنن مسرحي " (39).لكن الملاحظ ان أوبرسفيلد بقيت وفية في هذا التحديد لتعريف جاكبسون للميتالغة باعتبارها سلوكا لغويا مضاعفا ينصب على السنن. لذا، فهي ترى أن الحوارلا يمكن أن يتضمن وظيفة ميتالغوية.

إلا أن استقراء بسيطا للحوار المسرحي سواء في التأليف الكلاسيكي الذي كان يتوارى فيه المؤلف وراء شخوصه ويجعل البعض منها يتحدث باسمه، أو في التأليف الحديث الذي سمح له بالخروج إلى واجهة الأحداث كي يعبر عن مواقفه وآرائه النقدية والنظرية مباشرة عبر إبداعه، يجعلنا نؤكد أن هذه الممارسة الميتالغوية كانت موجودة دائما، لكن بأشكال مختلفة.

وبالنظر إلى العلاقة بين الحوار والإرشادات المسرحية، يشير أحد الباحثين إلى "إمكانية اعتبار الإرشادات المسرحية لنص درامي ما ميتالغات، ودراستها على أساس كونها كذلك" (40). ويستند هذا الرأي إلى الطابع الوصفي لهذه الإرشادات التي تتخذ الحوار على أساس كونه لغة - موضوعا Langage - objet. إلا أن ما يغيب عن صاحب هذا الرأي هو الوضع الذي تتخذه الإرشادات المسرحية في بعض التجارب الطليعية في المسرح، حيث يغيب الحوار كليا وتصبح هي الخطاب الوحيد في النص.

وسواء أخذنا الرأي الأول أو الثاني، فإننا سنلاحظ غياب الحديث عن البعد الميتانصي في هذه الميتالغة المتصلة بالنص المسرحي، والحال أن هذا النص، شأنه شأن الرواية والشعر، قابل للجمع بين خطابه التخييلي وخطاب نقدي محايث له في سياق واحد. وهو حين يقوم بذلك " يصبح نشاطا متأملا لذاته ولعبيا، أي يمزج - بمرح - الملفوظ (النص المقول، الفرجة المصنوعة) بالتلفظ (التفكير حول المقول) " (41). وهذا المزج بقدر ما يتم عبر قناة الحوار، بقدر ما تساهم فيه الإرشادات المسرحية أيضا.

وإذا كانت الممارسة المسرحية تفترض وجودا آخر يتحقق في العرض، فإن هنالك مبدأ ثابتا يتحكم في علاقة النص بالعرض - كيفما كان الشكل الذي تتخذه هذه العلاقة : ترجمة، تأويل أو ثقاطع - وهو أن لغة العرض تبنى في الغالب على لغة النص مما يجعلها تشتغل كلغة فوقية أو بعدية. ولعل هذه العلاقة هي التي أوحت للبعض بإقامة تشابه بين علاقة النص النقدي بالنص الإبداعي وعلاقة العرض بالنص المسرحي، حيث يصبح العرض بمثابة ميتالغة بالنسبة للنص.

في هذا الصدد يقول برنار دورت Bernard Dort : "ألا يعني عرض عمل ما إخضاعه، في الواقع، لنقد الخشبة ثم لنقد القاعة؛ أي التأكد من مدى قدرته على الإشتغال اليوم ؟ [...] ثمة تشابه بين عمل الناقد الذي يقضي أن يحدثنا عن العمل بلغة أخرى، وعمل المخرج ومساعديه الذي يتمثل، أساسا، في إيجاد معادل للعمل، إن لم يكن داخل لغة أخرى (هل يمكن الحديث عن لغة العرض؟)، فعلى الأقل ضمن أشكال العرض المسرحي بما فيها فضاء الخشبة، جسد الممثل وكلامه [...] يتعلق الأمر، سواء في هذه الحالة أو تلك، بإعطاء معنى للعمل عبر شكل جديد، أو عبر ما نسميه " ميتالغة "، والسماح بفهم متجدد ودائم له، من خلال ذلك " (42).

صحيح أن العرض يشي بهذه الخاصية النقدية، مادام يخرج النص إلى المواجهة، ومادام يضمر العديد من الدلالات النقدية بما فيها الكشف والتعرية والإظهار والمواجهة المباشرة وإشراك المتلقي. لكن السؤال المطروح هنا هو : إذا كان العرض يقوم بهذه المهمة بالنسبة للنص، فهل يمكنه أن يؤدي نفس الدور بالنسبة لذاته ؟ أو بعبارة أخرى : هل يمكنه استغلال أنساقه التعبيرية لخلق ممارسة ميتالغوية متصلة بخطابه الفرجوي ؟

إن هذا التساؤل يضعنا في صلب إشكال كبير يتعلق بعلاقة الميتامسرح بالعرض وليس بالنص، وبمدى إمكانية تأمل المسرح لذاته عبرالأنساق غير اللغوية للعرض. يجيب بافيس على هذا الإشكال بقوله : " يجد المسرح صعوبة في الحديث عن المسرح بأدوات مسرحية، أي أدوات غير أدبية وغير لغوية وإنما أدوات فرجوية ولعبية. لذا، فإن بيرانديلو نفسه ليس سوى منظر كثير الثرثرة " (43).

يتضح جليا، من خلال هذا الرأي، أنه يستعصي على المسرح صياغة خطاب ميتامسرحي خارج إطار اللغة الأدبية. ولعل هذا ما يزكي الاختيار الذي انطلقنا منه، منذ البدء، والمتمثل في اعتبار المسرح أدبا، واعتبار الميتامسرح ممارسة ميتانصية متصلة بالحوار وبالإرشادات المسرحية في آن واحد. وانسجاما مع هذا الاختيار نفترض أن الميتامسرح - علاوة على كونه ممارسة ميتانصية - يعد شكلا من أشكال التجويف الأدبي Mise en Abyme littéraire؛ والتنصيص على نعت " أدبي " يدخل في حسابه وظيفة اللغة الأدبية في المسرح بالدرجة الأولى.

2 - الميتامسرح تجويف أدبي :

التجويف - حسب بافيس - هو " الإجراء الذي يرتكز على إدخال تطويق في العمل (التشكيلي، الأدبي أو المسرحي) يع-يد إنتاج بع-ض خصائصه أو تماثلات-ه البنيوية " (44)، ونجده في الآداب والفنون على حد سواء، في الرواية والمسرح والتشكيل والسينما. وهو ليس ممارسة طارئة على الأدب الحديث، لأن أصوله تعود - حسب لوسيان دلينباخ Lucien Dallenbach - إلى الأدب الباروكي الذي عرف في إطاره إحدى أخصب لحظاته، تلتها لحظات أخرى تمثلت بالخصوص في الرومانسية، الطبيعية، الرمزية ثم الرواية الجديدة.

ويعود الفضل في الاهتمام بالمظهر النصي للتجويف إلى النقد البنيوي الذي تتردد فيه صيغ مختلفة لمصطلح التجويف تتأرجح بين التركيب التجويفي، والبناء التجويفي، والبنية التجويفية.

يلاحظ، من الزاوية التاريخية، أن العمل الأدبي للعصر الباروكي كان يشكل عملا وخلقا لهذا العمل في آن واحد. وفي الأدب الرومانسي، نعلم جيدا المكانة التي حظيت بها مقولة " التأملية Reflexivité " خصوصا عند الرومانسيين الألمان الذين استوحوها من فلسفتي كانط وفيخته اللتين تؤكدان على " فكر الفكر " وتدفعان الوعي بالذات كي يصبح موضوعا للتفكير. لقد وجدت هذه المقولة صداها لدى الرومانسيين أيضا في ما يسميه فريديريك شليغل ب " شعر الشعر" أو" الشعر المتعالي" (45).

وقد استعمل التجويف في الأدب الواقعي والطبيعي من أجل ضمان وضوح التواصل، والتعويض عن المنع الذي يعيشه المؤلف في التعبير عن آرائه ومواقفه في إبداعه باسمه الشخصي، لا سيما وأن منظري ذلك العصر" يتفقون جميعا على الاعتقاد بأن التخييل، لكي يكون ذا مصداقية، ينبغي ألا يخضع لأي شخص؛ ويتجاوز المؤلف هذه الصعوبة بالتدخل من خلال الشخوص مما يسمح له بإسماع صوته مع احترام مطلب "الموضوعية" و" اللا ذاتية " المقدس" (46).

أما في الأدب الرمزي، فإن التجويف يعد وسيلة لجعل العلاقات الموجودة او الغائبة بين الفن والحياة موضوعة اساسية.

إلا أن الحضور النسقي للتجويف في الإبداع، الخاضع لمنظور جمالي وفكري واع بذاته، هو ذلك الذي تسجله الرواية الجديدة ثم الرواية الجديدة الجديدة بعد ذلك، حيث يصبح إجراء لتقويض المنظور الكلاسيكي للحكي. وهذا الحضور الإبداعي للتجويف يجد ما يدعمه - نظريا - في كتابات منظري الرواية الجديدة وعلى رأسهم جان ريكاردو Jean Ricardou.

هذا عن المسار الإبداعي للتجويف، اما بخصوص مساره النقدي، فإن الاعتقاد السائد هو ان أندري جيد هو الذي قدم وصفا لهذا الإجراء أول مرة. لكن جان ريكاردو يؤكد أن هذا الاعتقاد غير صحيح لأن هنالك دراسة لفكتور هيجو عن " ويليام شكسبير" يؤكد فيها أن كل مسرحيات هذا الرجل - باستثناء " ماكبث " و" روميو وجولييت " - تتميز بخاصية ملفتة للنظر، وهي كونها تتضمن " حدثا مضاعفا يعبر الدراما ويعكسها بشكل مصغر" (47).إن هذه الخاصية تترجم - في نظره - طبيعة التفكير السائد خلال القرن السادس عشر، وهو التفكير الخاضع "للمرآوية".

وفي بداية العقد الأخير من القرن الماضي، أشار أندري جيد إلى إعجابه بالعمل الأدبي والفني الذي يتخذ ذاته موضوعا له، كما يستعرض بعض النماذج من التشكيل والمسرح التي تجسد ذلك ومنها المشهد الكوميدي في مسرحية " هاملت " لشكسبير. ويلاحظ أن تصور أندري جيد للتجويف تتحكم فيه الصورة الشعارية Image Héraldique، حيث يتحقق البناء التجويفي عندما نجد داخل شعار ما شعارا ثانيا يعيد إنتاج الأول بشكل مصغر.

وتعد المساهمة النظرية لجان ريكاردو، والمتمثلة في صياغة بلاغة وشعرية متميزتين للتجويف، من أهم ما كتب في هذا الموضوع. تضاف إليه الدراسة الجادة للوسيان دلينباخ التي صاغت نمذجة بنيوية للتجويف في علاقته بالحكي، وذلك وفق منظور تحكمه استعارة المرآة Métaphore spéculaire، كما عملت على اختيار تمظهراته في أعمال روائية تندرج في إطار ما سمي بالرواية الجديدة (1957 - 1958) والرواية الجديدة الجديدة (1969 - 1973).

إن هذا الاهتمام بالتجويف الروائي لم يحجب عن الدارسين الاهتمام بعلاقته بفنون أخرى كالمسرح والسينما بالخصوص، حيث يؤكد ريكاردو أن " شكسبير أدخله في هاملت، باعتباره مشهدا كوميديا في حكاية مسرحية، وأدمجه روب كريي في" السنة الماضية في مارينباد " باعتباره مشهدا كوميديا في حكاية سينمائية " (48)، كما أن كريستيان ميتز - أحد المهتمين بسيميائيات السينما - يتحدث عن التجويف في فيلم المخرج الإيطالي فليني " 8 و1/2 "، حيث يقول إن: " " 8 و1/2 " ينتمي بـ "فيلمه داخل الفيلم" إلى نوع الأعمال الفنية المضاعفة، المتأملة لذاتها. ولتحديد البنية الخاصة بهذا النوع من الأعمال اقترحت أحيانا عبارة " بناء تجويفي " المستعارة من علم الشعارات، التي تساعد، في الواقع، على تعيين هذا الهيكل الذي يسمح بكل الآثار المرآوية، بشكل جيد"(49).

إن هذه الإشارات تؤكد، إذن، أن التجويف يشير، استعاريا، إلى المرآة، ويتجسد عبر حكي مصغر أو بنية داخل أخرى، ويتضمن خصائص فلسفية أبرزها خاصية التأملية.

2. 1- التجويف أو " المرآوية المعممة " :

للتجويف أهمية بالغة في إضاءة العمل الأدبي من الداخل لا يشبهها إلا تقابل مرايا متعددة داخل فضاء واحد. ولا غرابة أن يكون، ثمة، تقارب بين التجويف والمرآة (50). هذه الأخيرة - حسب جان بودريار - " تنهي الفضاء، تفترض الجدار، تحيل على المركز. لذا، كلما تعددت المرايا كلما كانت حميمية الغرفة أكثر روعة، وكلما كانت، بالمقابل، أكثر انزواء على نفسها " (51). فهذه الحميمية، إذن، وهذا الانكشاف الداخلي هو ما يتيحه التجويف للعمل الأدبي، حيث ندرك من خلاله كيف ينخرط المبدع في السيرورة الإنتاجية لعمله. إنه يحقق نوعا من المرآوية المعممة داخل الإبداع. هذه المرآوية التي تتميز - في بعض السياقات الأدبية - ببلاغة خاصة حيث تقوم - حسب ريكاردو- على المقابلة Antithése المتمثلة في كون " كل تجويف يعارض الاشتغال الشامل للنص الذي يتضمنه" (52) . فإذا كان النص موحدا يقترح التعدد، وإذا كان مشتتا يقترح الوحدة. ولعل أهمية هذا الدور البلاغي للتجويف تكمن في كونه " يضمن للحكي نوعا من الضبط الذاتي " (53).

وللتجويف دور آخر يتمثل في الكشف والإظهار. لذا، يتحدث ريكاردو عن التجويف الكاشف الذي يشتغل في الحكي بثلاث طرق أساسية شبيهة بطرق اشتغال الحلم هي: التكرار، التكثيف والاستشراف. ومعلوم أن الحلم يشكل السند أو القاعدة التقليدية للتجويف، كما يشكل مكونا رئيسيا في بعض مظاهر المضاعفة المسرحية.

وإذا كانت المرآوية في النص تشتغل بشكل تعارضي أو استكشافي، فإنها تستدعي - بالاعتماد على ما يسميه ريكاردو بالجدول الوظيفي Catalogue Fonctionnel للنص - الموضوعات الملائمة لها،وخصوصا منها تلك التي يحضر فيها " التشخيص ". ويبدو أن هذه الخاصية الموضوعاتية للتجويف تجد في المسرح، باعتباره فنا تشخيصيا، مجالا خصبا للاشتغال.

في إطار هذا المنظور الاستعاري المرآوي، يندرج تعريف دلينباخ للتجويف، حيث يقول : " التجويف هو كل مرآة داخلية تتأمل الحكي كله عن طريق المضاعفة العادية، المكررة أو المموّهة " (54). لذا، يسمي الحكي الذي يشتغل بهذا الإجراء التجويفي بالحكي المرآوي Le récit spéculaire.

ومادامت للحكي مستويات، فإن المرآوية - وبالتالي التأملية - تتميز وفق هذه المستويات، حيث يميز دلينباخ - مستوحيا لسانيات جاكبسون - بين: تأمل الملفوظ، تأمل التلفظ وتأمل السنن. وكل نوع يشتغل بكيفية خاصة. إلا أن هذا التمييز لا ينفي التداخل الموجود بين هذه الأنواع من التأمل.

وبناء على هذه المستويات الثلاثة، يقوم دلينباخ بتصنيف لأنواع التجويف في الحكي هي (55):

- التجويف التلفظي Enonciative ويأخذ في اعتباره علاقة الحكي بمنتجه ومتلقيه، وضمنه يتم الحديث عن التجويف المتعالي Transcendantale الذي ينصب على قصدية القول لدى الكاتب.

- التجويف الميتانصي Métatextuelle وينصب على الطريقة التي يشتغل بها الحكي، أي على السنن الذي يخلقه العمل الإبداعي نفسه.

- التجويف التخييلي Fictionnelle والنصي Textuelle، وكلاهما مرتبط بالملفوظ، إلا أن الأول يضاعف الحكي في بعده المرجعي باعتباره حكاية مروية، في حين ينصب الثاني على التنظيم الحرفي للحكي باعتباره تنظيما دالا.

إن هذه النمذجة التي قدمها دلينباخ تترجم، بشكل جلي أن استعارة " المرآوية المعممة " تفي بالغرض عند الحديث عن التجويف، لأنها تبين أن الكشف الذاتي للحكي لا ينصب على جانب دون آخر. وبالتالي، فلا نستغرب أن تكون الأعمال الأدبية القائمة على هذا الإجراء التجويفي، أعمالا تضمر روحا فلسفية تقوم على " التأملية " وعلى " الشفافية الذاتية ".

2. 2 - التجويف و" التأملية الذاتية " :

عندما أكد سارتر في التقديم الذي كتبه لرواية ناتالي ساروت " صورة مجهول Portrait d’un inconnu "(1948)، لأن هذا العمل وأمثاله يؤشرون على أننا نعيش " عصر التأمل"، لم يكن قصده أن المراحل السابقة في حياة الفكر والأدب كانت خالية من التفكير، وإنما أراد أن يقول إن " التأملية " كنزعة فلسفية أصبحت طابعا مميزا لكل أشكال التعبير بما في ذلك الأدب عموما، والرواية بالخصوص، في العصر الحالي.

والملاحظ أن علاقة التجويف بالتأملية علاقة لا تقبل الجدل. فالتأملية - كما تؤكد ذلك المعاجم الفلسفية - هي " عودة الفكر إلى حالاته وأفعاله" (56). وهي عودة تتخذ، سيكولوجيا، مظهر الاستبطان أو الملاحظة الداخلية التي تفترض نوعا من " " الانفصال " بين الوعي وذاته" (57) . لذا، يمكن القول إن التجويف هو الصياغة الأدبية للتأملية، بحيث تصبح في النص عبارة عن ملفوظ يتخذ الملفوظ أو التلفظ أو السنن، موضوعا للتأمل.

ويمكن أن تشتغل التأملية، دلاليا، في علاقتها بالنص من خلال مستويين : الأول دلالي، حيث يدل الملفوظ التأملي شأنه شأن ملفوظات النص، والثاني ميتادلالي لا سيما وأن النص يصبح بمثابة موضوعة له. لذا، فإن العلاقة القائمة بين الملفوظ التأملي ومظاهر النص هي علاقة مضاعفةDédoublement .

والتأملية ليست مظهرا متجانسا في كل الأعمال الأدبية، ذلك أن الاختلاف وارد على مستوى درجة التأمل، لاسيما وأننا نجد مبدعا يكشف عن عملية الخلق الأدبي ويجعلها منفتحة بشكل كبير على متلقيها ويعمل بذلك على خلق قارئ جديد. في حين أن مبدعا آخر قد يتحفظ قليلا وتصبح نزعته التأملية مشوبة بنوع من التمويه.

. 3 - التجـويـف المسرحـي:

سبقت الإشارة إلى بعض النماذج المسرحية التي أجمع كل من فيكتور هيجو وأندري جيد وجان ريكاردو، على كونها تجسيدا للتجويف، ولاسيما منها المشهد الكوميدي في مسرحية " هاملت " لشكسبير. وهي إشارة تؤكد على إمكانية الحديث عن نوع من التجويف نسميه هنا التجويف المسرحي.

وبالنظر إلى خاصية الحكي في النص المسرحي، يمكن القول إن مظاهر التجويف التي تحدث عنها دلينباخ بالنسبة للنص الروائي، قابلة للاستثمار في مجال المسرح، لكنها تتطلب تعاملا مرنا. فالنص المسرحي لا يحكي عن طريق السارد، وإنما يحكي مباشرة عن طريق تتابع الأفعال الدرامية. هذا بالإضافة إلى كون التلفظ في المسرح يكتسي خصوصية تجعل منه إجراء مركبا، أو بالأحرى تجعله تلفظا مضاعفا.

ولعل أبرز مظهر للتجويف المسرحي هو المسرح داخل المسرح، حيث تؤكد إحدى الدراسات أنه " من بين كل التجويفات الأدبية، فإن المسرح داخل المسرح هو الذي أثار، بدون شك، جاذبية أكثر سواء لدى محترفي المسرح أو لدى المتخصصين في التفكير حول المسرح " (58). وإذا عدنا، بالفعل، إلى تاريخ المسرح، سنلاحظ أن جذوره تعود إلى المرحلة الباروكية وإلى بعض النماذج المسرحية لكل من كالدرون وشكسبير، كما سنلاحظ أنه بلغ أوجه مع المسرحي الإيطالي بيرانديلو الذي جعل منه إجراء جماليا يترجم رؤية فلسفية تقوم على مفهوم النسبية.

وإذا عدنا إلى التفكير النظري حول المسرح، سنكتشف أن المسرح داخل المسرح استأثر باهتمام الدارسين من زاويتين : الأولى شعرية اعتبرته إجراء مرتبطا بالتمسرح مؤكدة على كونه يشكل تمسرحا مضاعفا Théâtralité Double. وفي هذا الإطار، يندرج تصور آن أوبرسفيلد التي تقول إن وظيفته تكمن في كونه يقول: " أ - نحن في المسرح، والفضاء - المسرح داخل الفضاء الأكبر هو مكان عرض التمسرح. ب - ما يقدم لنا بواسطة القناة المنعكسة هو الحقيقة " (59). أما الزاوية الثانية، فتضيف إلى هذا البعد الشعري بعدا فلسفيا خصوصا وأنها تعتبره مظهرا ميتامسرحيا يجسد الشكل المثالي لما يسمى بالمسرح المفكر فيه أو التأملي Le Théâtre réfléchi، كما هو الشأن لدى مانفريد شميلنغ Manfred Schmeling الذي يعرفه بقوله : " إن المسرح داخل المسرح - في شكله المثالي - عنصر مدمج داخل درامامعينة، يتوفر على فضائه الركحي الخاص وعلى كرونولوجيته المتميزة، بشكل يتأسس معه تزامن فضائي وزمني للإطارين الركحي والدراماتورجي. ويقدم المسرح داخل المسرح عناصر تكوينية متعددة تعيد إنتاج عناصر المجموع " (60).

وعليه، فإن المسرح داخل المسرح هو بنية حكائية ومشهدية مضاعفة مدمجة داخل بنية أكبر هي بنية المسرحية. بعبارة أخرى، إن هذا الإجراء التجويفي يقوم على ثنائية أساسية تتمثل في وجود مسرحية دامجة وأخرى مدمجة. ويمكن أن يكون هناك تطابق بين ممثلي المسرحيتين أو لا يكون، كما أنه قد يكون تطابقا كليا أو جزئيا. ولكن الأهم هو أنه كيفما كان النمط أو الشكل الذي يتحقق عبره المسرح داخل المسرح، فإن سيرورته التجويفية تقوم على مبدأين أساسيين في التجويف الأدبي هما : المضاعفة والتأملية.

علاوة على المسرح داخل المسرح، يمكن إيجاد " تنويعات من التجويفات المسرحية لا تعرض في المستوى الثاني شكلا فنيا، وإنما تعرض حلما - كما هو الشأن في مسرحية " الحياة حلم " لكالدرون - أي مضاعفة للواقع المسرحي بواسطة متوالية محلوم بها أو متخيلة " (61).وهذا الإجراء، بقدر ما يجسد مظهرا تمسرحيا، بقدر ما يعكس منظورا ميتافيزيقيا - كما هو الشأن لدى كالدرون - حيث يتم النظر إلى الحياة باعتبارها حلما.

وسواء اتخذ التجويف المسرحي شكل مسرحية مضاعفة أو متوالية متخيلة تجسد في شكل حلم، فإن ما ينبغي تسجيله هو أن هذه المظاهر الميتامسرحية هي التي تضفي على التجويف في النص المسرحي نوعا من الخصوصية، لاسيما وأنها تأخذ بعين الاعتبار إلى جانب البعد الحكائي، البعد الأكثر تعبيرا عن هذه الخصوصية وهو بعد التمسرح الذي يقوم على مضاعفة اللعب كوسيلة لخلق إطار خاص للتأمل الذاتي في المسرح.

3 - تركيــــــــــب :

يستخلص مما سبق أن ثمة علاقة وطيدة بين شعرية النص الأدبي وشعرية النص المسرحي تستحضر البعد الأدبي للظاهرة المسرحية بالدرجة الأولى. ولعل هذه العلاقة هي التي سوغت لنا الربط بين الميتامسرح من جهة، وبين الميتانصية والتجويف الأدبي من جهة أخرى. لقد تأكد لنا - نظريا على الأقل - أن الإجراءات الميتانصية والتجويفية التي ترتبط بالنص الأدبي، شعرا كان أو رواية، توجد أيضا في النص المسرحي.

إلا أن خصوصية المسرح تفرض نفسها في صياغة هذا المنظور الشعري. فقيام النص المسرحي على ثنائية الحوار والإرشادات المسرحية، ومضاعفته للخاصية الحكائية بخاصية التمسرح، جعلانا نقف على بعض الخصائص المميزة للميتامسرح باعتباره ممارسة ميتانصية وتجويفا مسرحيا.

ولعل هذه الخصوصية هي التي تدفعنا إلى القول إن شعرية الميتامسرح تشتغل أحيانا كخرق أو انزياح عن المعيار الذي افترضناه هنا، والمتمثل في شعرية النص الأدبي. لذا، فإن النظر إلى الميتامسرح في مرآة الميتانصية والتجويف الأدبي، لا ينبغي أن يجعلنا نغض الطرف عن الاهتمام به لذاته ومساءلته من الداخل لفهم آليات اشتغاله وطرق تبنينه داخل النص المسرحي، بالإضافة إلى علاقته بخصوصية النوع الدرامي وكذا الوظائف التي يقوم بها في هذا السياق المسرحي. كل هذه القضايا سنحاول الإجابة عليها من خلال الفصل الموالي.


هوامــش

 

(13) Gérard Genette - Palimpsestes: La littérature au second degré - seuil 1982 - p.10.

(14) Gabriel Bauret - La peinture et son commentaire: le Métalangage du tableau - littérature N° 27 - p.26.

(15) إننا نعي الالتباسات والإشكاليات التي أفرزها مفهوم الحداثة Modernité كمظهر حضاري عام، وكمظهر أدبي ونقدي خاص. إلا أن الاستعمال الذي نقصده هنا بالكتابة الحداثية هو الكتابة المتمردة على التصور الكلاسيكي منظورا وأسلوبا وقواعد.

(16) Claude Abastado- La glace sans Tain - Littérature N° 27 - p.55.

(17) A.J. Greimas - Du Sens - seuil 1970 - p.188.

(18) رشيد بنحدو ـ حين تفكر الرواية في الروائي ـ الفكر العربي المعاصر ـ عدد 66/ 67 ـ يوليوز/ غشت 1989 ـ ص.31.

(19) رولان بارث ـ النقد والحقيقة ـ ترجمة إبراهيم الخطيب ـ مراجعة محمد برادة ـ الشركة المغربية للناشرين المتحدين 1985 ـ ص.50/51.

(20) Patricia - Waugh - Metafiction: The theory and practice of self - conscious fiction - Methuen - London and Newyork 1984 - p.5.

(21)Linda Hutcheon - Modes et Formes du narcissisme littéraire - traduit par Jean Pierre Richard - Poetique 29 - Fevrier 1977 - p.91.

(22) Patricia Waugh - Metafiction - p.6.

(23) Linda Hutcheon - Narcissistic Narrative: The metafictional paradox - Wilfrid Laurier university press 1980 - p.12.

(24) Patricia Waugh - Metafiction - p.40.

(25) Ibid - p.2.

(26) Linda Hutcheon - Narcissistic Narrative - p.1.

27)( حنا مينه ـ النجوم تحاكم القمر ( رواية) ـ دار الآداب بيروت 1993 ـ ص.5.

(28) نفســــــه ـ ص.5

(29) نفســـه ـ ص.35 ـ 36.

(30) نفســــــه ـ ص.55.

(31) لم نقم بتحليل مفصل للإجراءات الميتاروائية في عمل حنا مينه وعيا منا بأن هذا يشكل موضوعا قائما بذاته يحتاج إلى وقفة خاصة ليس هذا سياقها.

(32) عن رينيه ويليك ـ مفاهيم نقدية ـ ترجمة د.محمد عصفور ـ سلسلة عالم المعرفة ـ عدد 110 ـ فبراير 1987 ـ ص.412.

(33) كارلوني وفيللو ـ النقد الأدبي ـ ترجمة كيني سالم ـ سلسلة زدني علما ـ منشورات عويدات ـ بيروت/ باريس 1984 ص.35.

(34) أبو الحسن الآمدي ـ الموازنة بين الطائيين ـ تحقيق محي الدين عبد الحميد ـ المكتبة العلمية بيروت ـ ص.380.

(35) رينيه ويليك ـ مفاهيم نقدية ـ ص.414 ـ 415.

(36) Nicole Boulestreau - Comme une langue commune : Eluard à l’école de Paulhan - littérature N°27 - p.44.

(37) للوقوف على البعد النقدي في شخصية الشاعر عفيفي مطر، يمكن العودة إلى : فريال جبوري غزول ـ الشاعر ناقدا ـ الكرمل ـ العدد 17 ـ 1985.

(38) محمد عفيفي مطر ـ من مجمرة البدايات (ديوان شعري) ـ سلسلة كتاب شرقيات للجميع ـ دار شرقيات للنشر والتوزيع 1994 ـ ص.39 ـ 40.

(39) Anne Ubersfeld - Lire le théâtre - Edit sociales 1982 - p39 - 40.

(40) Claude Abastado - Métalangage (S)/ Avant - propos - Littérature N°27 - p.5.

(41) Patrice Pavis - Dictionnaire du Théâtre - p.238.

(42) Bernard Dort - Théâtres (Essais) - Edit du seuil 1986 - p.19/20.

(43) Patrice Pavis - Dictionnaire du Théâtre - p.244.

(44) Ibid - p.243.

(45) Lucien Dallenbach - le Récit spéculaire : Essai sur la mise en Abyme - Edit du seuil 1977 - p.222/223.

(46) Ibid - p.72.

(47) Victor Hugo (Cité par) Jean Ricardou - Le Nouveau Roman suivi de les raisons de l’ensemble - Edit du seuil 1990 - p.61.

(48) Ibid - p.71.

(49) Christian Metz - Essais sur la signification Au cinéma - Tome I - Klincksieck - Paris - 1983 - p.223.

(50) Bernard Dupriez - Gradus : Les procédés littéraires ( Dictionnaire) -10/18 - Union générale d’Editions 1984 - p.295.

(51) Jean Baudrillard - Le système des objets - Edit Gallimard - 1968 - p.32.

(52) Jean Ricardou - Le Nouveau Roman - p.83.

(53) Lucien Dallenbach - Le récit spéculaire - p.94.

(54) Ibid - p.52.

(55) يصعب تمثل هذه النمذجة التي يقترحها دلينباخ خارج إطار الحكي الحداثي الذي يشتغل عليه، ممثلا في الرواية الجديدة والرواية الجديدة الجديدة. لذا، ينبغي التعامل معها بمرونة عندما يتعلق الأمر بالحكي المسرحي تقليديا كان أو حداثيا.

(56) Paul Foulquié - Dictionnaire de la langue philosophique - P.U.F - 1986 - p.620.

(57)Gérard Legrand - Dictionnaire de philosophie - Bordas 1983 - p.226

(58) Marie Claude Porcher - Un exemple Indien de Théâtre dans le Théâtre : Priyadavsika de Harsa - Poétique 67 - Septembre 1986.

(59) Anne Ubersfeld - l’Ecole du Spectateur - Edit sociales 1981 - p.112.

(60) Manfred Schmeling - Métathéâtre et Intertexte - p.7/8.

(61) Ibid - p.10/11.

 

 

Contactez-nous

  Copyright © 2001 unecma.net