النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد

المنشورات الإلكترونيـة

حسن يوسفـي

حسن يوسفـي، المسرح في المرايا. شعرية الميتامسرح واشتغالها في النص المسرحي الغربي والعربي

الباب الثاني: الفصل الأول:

صراع المسـارح

 

1. " الضفادع " أو " صراع التراجيديات " في المسرح :

تعد مسرحية " الضفادع " لأرسطوفان عملا ميتامسرحيا رائدا بوّأ صاحبه مكانة متميزة في تاريخ الكتابة الدرامية الغربية. وقد تظافرت عوامل مختلفة لإبراز هذه الريادة على رأسها الخصائص المميزة لشخصية الكاتب نفسه التي نراها هنا مفتاحا أساسيا لفهم بنية الميتامسرح ووظيفته في هذه المسرحية. في هذا السياق يؤكد ميشال كورفان Michel Corvin أن " مكانة أرسطوفان (450/388 ق.م) في تاريخ الكوميديا فريدة من نوعها : إنه، في آن واحد، المؤلف الكوميدي الكبير الأول في العالم الغربي، بالإضافة إلى كونه يجمع في شخصه خصائص وتوجهات لا يمكن أن نجدها مجتمعة أبدا في رجل واحد : فهو يتفاعل مع الراهن الاجتماعي والأدبي والسياسي الذي له موقف حاسم منه يجسده عبر الهجاء والمحاكاة الساخرة، كما أنه بمثابة الممثل للجنس الأكثر شعبية بهزلية إبداعاته وفحش لغته وألعابه المسرحية، بالإضافة إلى أنه شاعر أيضا بغنائية المقاطع المؤداة من لدن الجوقة وبالخيال الشفوي الذي لا ينضب، وأخيرا هو رجل فرجة انطلاقا من كتابته نفسها، بالكيفية التي يوظف بها الرمز المستعمل والإستعارة المتحققة " (3).

إن هذه الأبعاد المختلفة المكونة لشخصية أرسطوفان تجعل كتابته المسرحية نموذجا بارزا للتفاعل بين الأدبي والسياسي، ولعل هذه الخاصية نفسها هي التي جعلت بعض الدارسين يقيمون علاقة بين السياق السياسي وبين البنيات الأدبية للكوميديا لدى أرسطوفان. فشارل مورون Charles Mauron، مثلا، يميز في ما سماه بالأنساق الكوميدية لهذا الرجل بين مجموعتين من الأعمال، وذلك في ضوء التأثير الذي مارسته الأحداث السياسية على إبداعاته المسرحية. تتضمن المجموعة الأولى مسرحيات منها " السلم " تتميز بنوع من الوحدة التاريخية والثقافية تقع بين انتصار بيلوسPylos وسلم نيسياس Nicias ؛ بنيتها الأساسية هي الهجاء. أما المجموعة الثانية التي تندرج ضمنها مسرحية "الضفادع"، فتتضمن أحداثا سياسية خطيرة يقول عنها مورون : " إن أرسطوفان - بانطلاقه من الواقع - منذ " العصافير" حتى " بلوتوس"، تعجبه سلسلة من أشكال الهروب منها : أحلام سياسية (العصافير وليزيستراتا)، خيالات أدبية (أعياد ديمتر Thesmophories والضفادع)، وأخيرا يوتوبيات اجتماعية (مؤتمر النساء وبلوتوس)" (4).

يلاحظ، إذن، أن " الضفادع " تدخل ضمن المجموعة الأكثر تفاعلا مع الواقع السياسي لأثينا في عصر أرسطوفان، لأنها تجسد طريقة مميزة في التعامل مع هذا الواقع تتمثل في الهروب نحو الخيالات الأدبية. يمكن القول بعبارة أخرى: إن الضفادع تقدم لنا رؤية شعرية عن راهنها السياسي.

لقد استحضرنا هذه المعطيات القبلية لأننا نرى أنها تحكمت في الكيفية التي تبنين بها الميتا مسرح في " الضفادع " حكائيا، وموضوعاتيا، ونوعيا أيضا، كما أنها وجهت وظيفته في اتجاه ما هو جمالي وايديولوجي، في آن واحد.

تتكون مسرحية " الضفادع " من قسمين كبيرين : يتضمن الأول منهما نزول ديونيزوس إلى الجحيم، ويتميز بطابعه الكوميدي البارز. ويتضمن القسم الثاني حوارا، ومنافسة، أو بالأحرى جدالا قويا ذا طابع أدبي وسياسي بين شاعرين تراجيديين هما إسخيلوس ويوريبيديس اللذين يتنافسان على عرش التراجيديا. إن هذا القسم يشكل جزءا هاما ضمن بنية هذا العمل الكوميدي يسمى عادة بالمساجلة آgon.

إن نزول ديونيزوس إلاه المسرح إلى الجحيم هو من أجل البحث عن "شاعر حاذق" قادر على قول كلمة شجاعة، في عصر غاب عنه كتاب التراجيديا الكبار. لذا يشكل كل من إسخيلوس ويويبيديس اللذين دخلا - بحكم قانون يتعلق بالفنون التي تشغّل القدرات الكبرى للعقل - في مواجهة بينهما، محور اهتمام ديونيزوس الذي سيحضر مسابقة بينهما تتوج باختيار أحدهما لإنقاد أثينا. ويلاحظ، بالفعل، أن المنافسة بين الشاعرين سوف تستغرق القسم الثاني من المسرحية بكامله حيث سيتم الانتقال من التنابز بالألقاب إلى المنافسة حول التراجيديا وما يرتبط بها من لغة، ومناخ تراجيدي وشخوص ونماذج بشرية ومقدمات وأناشيد. وأمام حيرة ديونيزوس في الاختيار بين الشاعرين على أساس هذه المبارزة الفنية والأدبية، يأمرهما بالانتقال إلى مواجهة ذات طابع إيديولوجي وسياسي حيث يطلب رأيهما في الوسائل الكفيلة بإنقاد أثينا من وضعية التشرذم السياسي، فيكون الإنتصار لإسخيلوس في النهاية.

إن الحدث في مسرحية "الضفادع"، إذن، متمفصل إلى جزءين، أحدهما يعد تأطيرا للثاني وتمهيدا لأجوائه ومحاولة لوضع المتلقي في سياق المواجهة التي ستجري بين شاعرين تراجيديين. إن " الجزء الأول المضحك جدا، والمتميز بطابع كوميدي لا يقاوم، موجه لإضحاك المتفرجين وتهيئ أمزجتهم لتركيز اهتمامهم على الجزء الثاني، أي على الموضوع الحقيقي للمسرحية " (5) .

والملاحظ أن الشخوص التي تصنع الحدث في الجزء الثاني ذات طبيعة مسرحية، ضمنها آلهة وشعراء تراجيديون، كما أن محور صراع المواقف والخطابات بينها هو التراجيديا بكل مكوناتها وخصائصها.

لذا، فإن جردا مختصرا لمختلف القضايا التراجيدية الذي تصارع حولها إسخيلوس ويوريبيديس، من شأنه أن يؤكد الطبيعة الأدبية لموضوعات المسرحية، إلى حد أن البعض اعتبرها بمثابة " المسرحية الأكثر أدبية، ربما، في تاريخ الكوميديا كله".(6) ونعتقد أن لهذا الحكم ما يدعمه بالنظر إلى لجوء المسرحية إلى إجراء ميتامسرحي بارز يتمثل في الموضوعاتية الذاتية Autothématisme.

فالجدال ينتقل بين الشاعرين من موضوع اللغة التراجيدية إلى الشكل، ثم إلى القيم الأخلاقية والسياسية. ومن مظاهر الحدة في النقاش، ما دار بين الشاعرين حول مسألة المقدمات Prologues التراجيدية :

" يوريبيديس : (لإسخيلوس) أريد، إذن، مهاجمة مقدماتك نفسها ... ينقصها الوضوح في عرض الأحداث.

ديونيزوس : وما الذي تفضله ؟

يوريبيديس: عدد كبير جدا. استعرض لي أولا مقدمة مسرحية " أورستس " " (7).

وعندما يستعرض إسخيلوس هذه المقدمة، يؤكد يوريبيديس لديونيزوس انها تتضمن أكثر من اثنتي عشر خطأ من بينها التكرار والتناقض. ويؤكد، بالمقابل، أنه يحترم القواعد في كتابة مقدماته.

ولعل ما يثير الانتباه في المسرحية هو أن أرسطوفان استغل هذا الجدل الأدبي حول التراجيديا لتمرير مواقفه الذاتية وخطاباته الخاصة حول المسرح، وبالتالي حول سبل إنقاد أثينا. ويبدو ذلك واضحا من خلال استثمار مكون كوميدي أساسي هو ما يعرف بالخطاب المباشرParabase ، حيث يطلق على لسان الكوريفيCoryphée نداءات للوحدة والمساواة بين المواطنين. إن هذا الإجراء هو الذي جعل شارل مورون يرى في " الضفادع " إطارا تلتقي فيه الأسطورة الشخصية للمؤلف بالأسطورة الجماعية للمدينة(8)؛ وقد ساعدت البنية النوعية للمسرحية على تحقيق هذا اللقاء لاسيما وأنها مسرحية كوميدية شكلا ومضمونا.

فمن حيث الشكل، نجد فيها مكونات الكوميديا الكلاسيكية وخصوصا منها : المساجلة والخطاب المباشر. أما من حيث المضمون، فاستحضار أرسطوفان لموضوع التراجيديا كان الهدف منه تحقيق مطلب أساسي في الكوميديا يتمثل في المحاكاة الساخرة من النوع الجاد وتسخيف الأساطير الإلهية التي يقوم عليها. ويبدو أن تدخلات الجوقة أو الكوريفي في الصراع بين الشاعرين المتنافسين، تترجم بوضوح هذه السخرية، كما تعكسها أيضا تعليقات كزانتياس خادم ديونيزوس. فعندما تقرر مثلا اللجوء إلى وضع التراجيديا في الميزان، اقترح هذا الخادم استحضار مسطرات وإطارات ومقاييس مستطيلة، ثم علق بقوله :

" كزانتياس : سيصنعون آجرا، إذن." (9)

إن مثل هذه التعليقات الساخرة تنسجم وطبيعة النقد الممسرح الذي يقول عنه جاك نيشي :" إن النقد الذي يأتينا من المسرح يعلمنا، قبل كل شيء، عدم الاحترام "(10). ولا يكتسي عدم الاحترام هنا صبغة أخلاقية، وإنما هو مفهوم جمالي يتلاءم وطبيعة المحاكاة الساخرة التي تضع في المحك كل أشكال التسامي والجدية في التعبير، ولاسيما منها تلك المنحدرة من التراجيديا كنوع جاد يقوم على قيم أخلاقية وسياسية محددة.

إن الشيء المثير في " الضفادع " - باعتبارها كوميديا ساخرة - هو كونها تضع كل أشياء العالم موضع ضحك وسخرية، بما في ذلك المدينة بطقوسها ومؤسساتها ومهنها وشؤونها العامة، والطبيعة بسمائها وأرضها وبحرها ومخلوقاتها، مما يجعلها تتحول إلى حقل مفتوح " للعبثية الطفولية " (11)، أو إلى " نكتة كبيرة " (12)، يقترح فيها أرسطوفان بديلا شعريا لإنقاد المدينة، يشبه في بساطته بساطة الألعاب الطفولية.

وتبدو خاصية اللعب هاته بارزة في جانب اللغة التي كتب بها أرسطوفان مسرحيته، حيت تختلط الأصوات المحاكية Onomatopés للضفادع، بالمفارقات اللغوية (يوصف ديونيزوس بكونه صغيرا مثل مولون العملاق)، والحوارات الساخرة التي تعالج موضوعا جادا بنوع من السخافة والابتذال.

إن النقد الممسرح في " الضفادع " قد وجد في بنياتها الحكائية والموضوعاتية والنوعية واللغوية ما يساعده على تحقيق ممارسة نقدية جديدة تعبر- حسب نيشي - عن إرادة واضحة في خلق شكل جديد للممارسة المسرحية نفسها.

وعندما نتأمل، بالفعل، موقع " الضفادع " ضمن ريبرتوار أرسطوفان، نلاحظ أنها تشكل نسيجا فريدا من نوعه، ويمكن تفسير ذلك بكون هذه المسرحية تجسد لحظة تأمل أملتها شروط سياسية وثقافية معينة تطلبت من الرجل مسرحة أفكاره الشعرية حول التراجيديا في علاقتها بواقع أثينا آنذاك.

إن مسرحية " الضفادع " بتحويلها لالإه المسرح إلى مهرج، وسخريتها من النوع الجاد، تشتغل باعتبارها خرقا أو انزياحا مزدوجا لاسيما وأن النقد الممسرح فيها يستند على أبعاد جمالية وإيديولوجية في آن واحد. فالمسرحية، من هذه الزاوية، تسير في اتجاه ما أكده نيشي عندما قال بأن " نقد المسرح داخل المسرح يخلخل المؤسسة حيث يتقابل مسرح مع مسرح آخر، ووظيفة إيديولوجية مع أخرى، ولذة حية مع أخرى، مما يعني أن انزياحا قد تحقق "(13).

وإذا كانت عناصر الانزياح الجمالي قد جسدت حكائيا من خلال صراع شاعرين تراجيديين، وموضوعاتيا باستحضار ومسرحة قضايا التراجيديا، ونوعيا باستثمار كل قوة الكوميديا الساخرة، فإن الإنزياح الإيديولوجي يستوجب استحضار واقع أثينا لاستيعاب تجلياته وأبعاده.

لقد تمت الإشارة سابقا، إلى أن أرسطوفان رجل يتفاعل مع راهنه السياسي والاجتماعي. وإذا ما عدنا إلى واقع أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، نلاحظ أنها عانت من انعدام الاستقرار السياسي، بحيث تعاقبت عليها أربع حكومات في بحر خمس سنوات، وأصبحت على حافة الخراب بفعل الحرب والثورات المتتالية وصراع الجماعات والأحكام القاسية على المواطنين التي وصلت حد النفي. أمام هذا الواقع المضطرب، وجد أرسطوفان نفسه، من موقع المثقف المتفاعل مع شرطه التاريخي، مرغما على اقتراح حل أو بديل لهذا الوضع. من ثم، جاءت مسرحية " الضفادع " عبارة عن صياغة شعرية لبديل سياسي.

فمن خلال السخرية من التراجيديا، حاول أرسطوفان تدمير الطريقة التي يتم بها تمثيل الإنسان في هذا النوع الجاد. لهذا، جاء ضربه لمفهوم التراجيدي أو البطولي، لأن أثينا لم ترث منه سوى الصراع والقوة والعنف الذي أدى إلى دمارها. في هذا الإطار، يلاحظ أن بحث ديونيزوس عن شاعر حاذق وشجاع، هو في الحقيقة بحث عن مخلص من هذا الوضع المتشرذم. لذا، فلا عجب أن نجد الكوريفي - لسان حال الكاتب - يدعو إلى الوحدة ونبذ الخلاف، وأن يكون العامل الحاسم في اختيار ديونيزوس هو البديل السياسي الذي اقترحه الشاعران.

كل هذه المعطيات تؤكد أن الميتامسرح في " الضفادع "، يمكن أن يؤول، على الأقل، من ثلاث زوايا مختلفة : تاريخية، نفسية وجمالية؛ وكل وحدة منها تصب في الأخرى بحكم الضرورة.

فمن الزاوية التاريخية، المسرحية مرتبطة بزمنها، ومسرحة التراجيديا هي مسرحة لواقع أثينا في فترة عصيبة شرحنا مواصفاتها سابقا. ولعل هذا ما يضفي على النقد الممسرح صبغة سياسية. فأرسطوفان - انطلاقا من موقعه كمسرحي - حاول إنقاد مدينته باعتماد مفاجأة مسرحية Coup de théâtre تمثلت في عودة إسخيلوس التي تبين أن "أرسطوفان أراد إنقاذ السياسة بواسطة الشعري " (14).هذا البديل الشعري يترجمه اللجوء إلى الضحك والسخرية حسب شارل مورون، أو استعمال الخيال Fantaisie حسب ميشال كورفان.

إن عناصر اللعب والخيال هي التي أضفت على الميتامسرح المسيس في "الضفادع" بعدا نفسيا تمثل في الصراع الذي عاشه الكاتب بين مبدإ اللذة الجميل ومبدإ الواقع الضاغط، الذي حاول حسمه بالضحك والسخرية باعتبارهما نوعين من " الإنقاذ الطفولي ".

ومادام الهدف الأسمى بالنسبة لأرسطوفان هو المجتمع الأثيني، فإن المسرحية تعمل من خلال المحاكاة الساخرة وتسييس الخطاب الميتامسرحي على خلخلة يقينيات المتلقي، ودفعه إلى المشاركة في " محاكمة جماعية " لقيم شعرية وسياسية محددة، وبالتالي إلى محاكمة ذاته في نهاية الأمر. فالمسرحية، إذن، تنحو نحو خلق متلق جديد يخضع لتربية جديدة. لذا، فلا عجب أن نجد بلوتون يترجم هذا التوجه في نهاية المسرحية قائلا :

" بلوتون : (عائدا رفقة ديونيزوس وإسخيلوس)

هيا يا إسخيلوس، عد سعيدا وأنقد مدينتنا بآراء سديدة.

اعمل على تربية البلداء، إنهم يشكلون جحفلا " (15).

إن الوظيفة التأويلية للميتامسرح في " الضفادع تتبدى، إذن، من خلال خلق شروط جديدة للتلقي، دون أن تغيب التفكير في شروط إنتاج وتلقي نوع جاد هو التراجيديا التي كرست قيما أخلاقية وسياسية محددة في المجتمع اليوناني.

خلاصة القول إن مسرحية " الضفادع " نموذج بارز لما سميناه سابقا ب" عمل المواجهة Oeuvre de combat "، أقام أرسطوفان بنيتها الصراعية على مبدإ أساسي هو : إن صراع التراجيديات هو صراع شعري ذو أبعاد سياسية وإيديولوجية. وبناء عليه، اختار مختلف التوسلات النصية الملائمة لترجمة هذا المبدإ، باستعمال المساجلة الكوميدية والمحاكاة الساخرة من النوع الجاد وخلق التقابل بين نمطين من الإنتاج والتلقي المسرحيين. كل هذه الإجراءات تمت بلورتها بكيفية حولت الميتامسرح في " الضفادع " إلى رؤية للعالم تحلم بمجتمع أثيني قائم على أساس الوحدة والتجانس والاستقرار السياسي.

2. المرتجـلات: محاكمــات ممسرحــة :

لقد وجد " صراع المسارح " في بعض التجارب المسرحية الغربية مجالا خصبا لاستعمال إمكاناته النقدية القائمة على صراع المواقف الجمالية والإيديولوجية بشكل تبلورت معه ممارسة درامية جديدة ومتميزة تمثلت في ما عرف بالمرتجلة L’Impromptu.

والمرتجلة - حسب تعريف باتريس بافيس في معجمه المسرحي - : "مسرحية مرتجلة، أو على الأقل مسرحية تقدم نفسها باعتبارها كذلك، أي تصطنع الارتجال حول إبداعي مسرحي تماما مثلما يرتجل الموسيقي حول موضوعة معطاة. فالممثلون يوحون بأنهم مطالبون بخلق حكاية وتمثيل شخصيات، أي بأنهم يرتجلون حقيقة [...] وباعتبارها نوعا ذاتي المرجعية Autoréférentif (أي يحيل على ذاته ويبدعها في فعل تلفظه نفسه)، تضع المرتجلة المؤلف على الخشبة، تدمجه في الحدث وتقوم بتجويف إبداعه. وبهذا تشيد مسرحا داخل مسرح. تركز على شروط الإبداع واحتمالاته وصعوباته، وتعرض أيضا الشروط الجمالية والسوسيو- اقتصادية للعمل المسرحي(16).

يختصر هذا التعريف أهم مكونات المرتجلة ويشير إلى خصائصها. فهي نوع يقوم على أساس الارتجال Improvisation ، أو بعبارة أدق على الإيحاء بالارتجال. وهنا يكمن الفرق بينها وبين بعض أشكال الارتجال الأخرى والعديدة التي عرفها المسرح الغربي، ومنها - على سبيل المثال لا الحصر - الكوميديا ديلارتي التي ينطلق الارتجال فيها من خطاطة Canevasمعروفة ومحددة بدقة. وبالإضافة إلى الإيحاء بالارتجال، تقوم المرتجلة على تقنية المسرح داخل المسرح، وهي عبارة عن تمسرح مضاعف تقوم المسرحية من خلاله بخلق بنية حكائية مستقلة أو مدمجة داخل بنية النص الكبرى، وقد تكون هذه البنية الثانية أو المضاعفة عبارة عن مسرحية صغرى أو حلم مدمج.

ولهذين المكونين الأساسيين - أي الارتجال والمسرح داخل المسرح - دور كبير في إبراز خاصيتين ميتامسرحيتين في المرتجلة تتمثلان في: المرجعية الذاتية Autoréferentialité والموضوعاتية الذاتية Autothématisme. تتبدى الخاصية الأولى في مسرحة المرتجلة لمؤلفها من خلال وضعه في قلب الحدث المسرحي وإخراجه إلى الواجهة كي يقول كلمته ويعبر عن رأيه مباشرة وبدون وسيط. لذا، فكاتب المرتجلة، من هذه الزاوية، ينطبق عليه مفهوم المؤلف - الملحمي كما حدده سارازاك في كتابه " مستقبل الدراما L'avenir du Drame ". أما الخاصية الثانية فتجعل من المرتجلة إطارا لمعالجة موضوعات مسرحية محض، مستحضرة أبعادها الجمالية والسوسيو- ثقافية في آن واحد.

يعود ظهور المرتجلة كصيغة مسرحية متميزة إلى موليير الذي كتب "مرتجلة فرساي " سنة 1663 نزولا عند رغبة الملك لويس الرابع عشر الذي أمره بالرد على الهجومات التي تلقتها مسرحيته " مدرسة النساء" . وقد عرف المسرح الغربي تجارب من هذا النوع خلال القرن العشرين، ونذكر منها " الليلة نرتجل " لبيرانديلو (1930) ، "مرتجلة باريس" لجيرودو(1937)، " مرتجلة ألما " ليونسكو (1956) و " مرتجلة القصر الملكي " لكوكتو(1962).

وقد تميزت كل محاولة من هذه التجارب بطابع خاص ارتبط، في الغالب، بالشروط التي أملت كتابتها، ومنها الرد على خصوم سياسيين أو نقاد أو مؤسساتيين، أو الدفاع على منظور جمالي أو صيغة مسرحية أو اتجاه في الكتابة والتمثيل. علاوة على هذا، تأثرت هذه التجارب بنوعية الكتابة لدى كل مؤلف. فموليير الهازل الكبيرLe grand Farceur ليس هو يونسكو العبثي ولا جيرودو المهووس بشعرنة الكتابة المسرحية والمدافع عن طابعها الأدبي.

إن هذا التنوع يفتح أمامنا أفقا لتأمل صيغ مختلفة لصراع المسارح في مرتجلات يجمع بينها قاسم مشترك يتمثل في كونها " محاكمات ممسرحة Procés théâtralisés "، لكن تفرق بينها خلفيات هذه المحاكمات وحيثياتها في آن واحد. وقد اخترنا - للوقوف على مظاهرالتجانس والاختلاف في المرتجلات - تحليل " مرتجلة فرساي " و" مرتجلة باريس " ثم " مرتجلة ألما ".

2. 1 - " مرتجلة فرساي " أو صراع "التمثيل" في المسرح":

عندمـا كتـب مـولييـر مسـرحيتـه " مـدرسة النساء " ووجهت بنقـد لاذع بسبب خشونتها وخطابها الواقعي الحاد. وقد كان هذا النقد فاتحة لمعركة قوية بين موليير وخصومه، استهلها هو بكتابة رد أول تمثل في مسرحيته " نقد مدرسة النساء " التي استغلها لتضمين مواقفه من الدراماتورجيا ومن بعض المقولات التي كانت سائدة بخصوص مفهوم المسرح، ومنها على الخصوص مقولة اللياقة Bienséance.

في سياق هذا الجدل الذي اتخذ طابعا جماليا رغم كونه يضمر بعدا سياسيا عميقا، تندرج " مرتجلة فرساي L'Impromptu de Versailles " التي تعد بمثابة الرد النهائي والحاسم على خصوم موليير. ولعل ما جعلها أكثر حسما وفعالية هو كونها كتبت بأمر من الملك. فقد حاول موليير تصريف هذه السلطة السياسية لإسكات مشنعيه، بدءا من العنوان نفسه، حيث وسمها بمرتجلة " فرساي " نسبة إلى قصر فرساي الملكي.

إن هذا المعطى السياسي لم يدمغ المسرحية، مع ذلك، بطابع الخطابات السياسية المباشرة، ذلك أن موليير كتب المرتجلة من منطلق رجل المهنة الذي يمارس الكتابة والإخراج والتمثيل. لذا، فإذا كان اهتمامه قد انصب على المفهوم العام للفن الدرامي سابقا، فإنه جعل من المرتجلة وسيلة لنقد تصورات خصومه من ممثلي فندق بورجوني Borgogne الكبار، حول فن الممثل وطرق التشخيص والأداء، بل إن موليير تجاوز الرد على الانتقادات و" صاغ نظرية للكوميديا " (17).

تجري أحداث المسرحية في قاعة الكوميديا في قصر فرساي، حيث تبدأ بدعوة موليير للممثلين الذين يعملون في فرقته إلى البدء في التداريب. ونظرا لتقاعسهم وتذرعهم بعدم معرفة أدوارهم وصعوبة تذكر حواراتهم، نعتهم موليير ب" الحيوانات الغريبة "، وعبر عن تخوفه من الفشل، لاسيما وأن المسرحية سوف تعرض أمام الملك الذي أمر بكتابتها :

" الآنسة بيجار : مادام ذلك يخيفك، فقد كان عليك أن تأخذ احتياطاتك بشكل جيد، وألا تلتزم بثمانية أيام فقط كي تقوم بما قمت به.

مـوليير : إنها وسيلة للدفاع عن نفسي لاسيما وأن ملكا أمرني بذلك " (18).

إن الأهم بالنسبة لموليير ليس هو الإجادة، وإنما الامتثال لأوامر الملك. لذا، فهو يراهن على قدرة الممثلين على الارتجال اعتمادا على ذكائهم. من ثم، نلاحظ أنه عندما سئل عن الأدوار، أجاب بأن الأمر يتعلق بالنثر Prose. وعليه، فالارتجال ممكن، كما أن الموضوع معروف ويتعلق بالنقد الذي وجه لموليير وفرقته.

وانطلاقا من تداخل مستويات اللعب في المسرحية، يبدأ موليير نفسه بتقديم الطريقة التي ينبغي أن تؤدى بها بعض الحوارات والمقاطع مشيرا إلى أداء ممثلي فندق بورجوني، ومستغلا ذلك لإبداء رأيه في بعض الأدوار الكوميدية كدور المركيزLe Marquis. ويتخلل المشاهد والحوارات كشف عن معاناة موليير مع خصومه وإبراز لوظيفة الكوميديا ولمختلف الموضوعات الاجتماعية التي يمكنها أن تتحول إلى موضوعات كوميدية. ويتم استحضار المسرحية التي كتبت ضد موليير بعنوان " صورة الرسام Le Portrait du Peintre ". لكن موليير يعبر عن عدم رغبته في اختيار العنف والتجريح وصنع الخطابات ضد أعدائه، ويصر على استكمال التدريب على عمله الذي لم يتمكن من تقديمه في الوقت المناسب ليؤجله، بعد إذن الملك، إلى وقت لاحق.

عندما نتأمل هذه الأحداث، نلاحظ أن اللعب في المسرحية يدور ضمن مستويين متمايزين ومتداخلين في آن واحد. يتعلق المستوى الأول بموليير المخرج الذي يرغب في ارتجال مسرحية كوميدية مع فرقته. ويتعلق الثاني بالانخراط الفعلي في الارتجال دون إعلان مسبق، وإنجاز كوميديا ساخرة موضوعها أعداء موليير وانتقاداتهم لتجربته المسرحية. إن هذا الوضع يجعلنا أمام مسرحية يمكن وسمها ب" كوميديا الممثلين Comédie des comédiens" أو " كوميديا داخل كوميديا " (19).

انسجاما مع هذا الإجراء القائم على المضاعفة المسرحية، تطرح المرتجلة موضوعات ذات صلة بالكوميديا نفسها وبطرق أدائها. ويمكن التمييز، في هذا الإطار، بين القضايا التالية :

- الكوميديا كنوع درامي.

- أسس العمل المسرحي.

- التشخيص أو فن التمثيل.

لقد سبقت الإشارة إلى أن موليير حاول صياغة نظرية للكوميديا في مرتجلته. ولعل من ملامح ذلك وقوفه عند بعض الأدوار الكوميدية، كدور المركيز:

" موليير : المركيز، اليوم، هو الممتع في الكوميديا. وما دمنا نرى دائما في الكوميديات القديمة تابعا هازلا يضحك السامعين، فإنه يلزم أيضا في كل مسرحياتنا الحالية وجود مركيزمثير للسخرية يسلي الفرقة " (20).

كما وقف أيضا عند بعض الأنماط البشرية التي يتعين اتخاذها موضوعا للسخرية والنقد في الكوميديا. وموازاة مع ذلك، حاول موليير إبراز وظيفة الكوميديا من خلال تبديد سوء الفهم الذي يحيط بأعماله الكوميدية، والذي رسخه خصومه الذين يبحثون دائما عن تطابق بين أنماطه البشرية المتخيلة وبعض النماذج الحية الموجودة في الواقع، متناسين أنه :

" بريكور : مادامت وظيفة الكوميديا هي تمثيل عيوب الناس كلها بصفة عامة، وخصوصا منهم ناس قرننا، فإنه يستحيل على موليير أن يتحدث عن خاصية لا تمس أحدا ما في العالم(21).

ومادامت اتهامات الخصوم قد انصبت أيضا على طريقة عمل موليير باعتباره رجل مسرح يجمع بين الكتابة والاخراج والتمثيل، فإن المرتجلة تنتقد بدورها عمل كورناي باعتباره أحد الخصوم، أو بعبارة نيشي الأكثر دقة فإنها " تفككdéboulonne كورناي " (22)انطلاقا من موقع يضفي أكبر نسبة من الموضوعية على هذا التفكيك، وهو موقع رجل المهنة العارف بأسرارها.

في مقابل هذا، ترسم المرتجلة أسس العمل المسرحي عند موليير وهي : الحرص على انسجام الفرقة وحرية الممثلين وحقهم في إبداء الرأي والاعتراض والرغبة في خلق مناخ ديمقراطي تتراجع فيه سلطة المخرج لصالح العمل الجماعي البناء. وحرص موليير على هذه القيم، لم يكن الهدف منه سوى الإشارة غير المباشرة إلى القيم السياسية التي يقوم عليها الحكم. لذا، يمكن القول " إن مرتجلة فرساي فن للحكـم بشكـل مصغـر، لا تقـدم نفسهـا باعتبـارها درسـا يعطـى للملك بأسلـوب كورناي التقي، وإنما باعتبارها مرآة للسلوك الملكي " (23).

وانسجاما مع السمة المميزة للمرتجلة، باعتبارها " كوميديا ممثلين "، شكل موضوع التشخيص وأداء الممثل محورا أساسيا في المسرحية، حيث يلاحظ أن موليير الذي يقوم بدور المخرج يوجه أعضاء الفرقة للكيفية التي ينبغي اعتمادها في أداء مقاطع معينة، مع مراعاة التوزيع الصحيح للأدوار والتنصيص على إمكانية الارتجال انطلاقا من النص المكتوب.

كل هذه الموضوعات الممسرحة تبين اعتماد " مرتجلة فرساي "على إجراء ميتامسرحي أساسي هو الموضوعاتية الذاتية. علاوة على هذا، فموليير المؤلف يصبح شخصية أساسية في المرتجلة ينخرط في نسيج الأحداث ويبدي آراءه من موقع المؤلف - الملحمي. وقد اختار لهذا العرض الذاتي قالبا نوعيا وجه مرتجلته في اتجاه النقد اللاذع والساخر هو القالب الكوميدي الذي استعمل هنا بكيفية تقوم على المضاعفة المسرحية.

والملاحظ أن المرتجلة - من هذه الزاوية - منسجمة مع التوجه الكوميدي العام لدى موليير، هذا التوجه الذي أبرز كورفان مكوناته قائلا " المسرح موجود في كل شيء لدى موليير باعتباره تجويفا للعب ومسرحا داخل مسرح؛ موجود في إدماج مظاهر خداعة تتجه من مسخ مكشوف للشخصيات (من ماسكاريل إلى سكابان ومن إلفير إلى كوفييل) إلى طعن معمم في الكذب : المجتمع باعتباره مسرحا (كاره البشر)، والعالم باعتباره مسرحا (طارتوف، المريض بالوهم). الكل قناع والكل مقنع. ويظهر الطابع الشخصي لموليير أمام هذا التصور المألوف لدى شكسبير وكورناي، في الرغبة في إزالة الأقنعة وجعلها جميعها مصدر اللذة الكوميدية. يتعلق الأمر، حقيقة، بمسرح ضد مسرح، لكنه يتم بواسطة المسرح. هذه هي المقولة المفارقة التي تجعل من موليير الحكيم والمهرج في آن واحد " (24).

فإذا نظرنا إلى المرتجلة في ضوء هذه التحديدات، نلاحظ أنها تعكسها في بعديها اللعبي المتمثل في التجويف المسرحي، والنقدي المتمثل في الكشف عن أقنعة ممارسات مسرحية وسياسية أخرى. ولعل هذا ما يجعل من " مرتجلة فرساي " مسرحا داخل مسرح، ومسرحا ضد مسرح، في آن واحد.

إن هذا البعد المزدوج يملي علينا ربط الميتامسرح في المرتجلة بما هو ذاتي وموضوعي في آن واحد. فالمرتجلة، من الناحية الذاتية، ترسم مسارا سيرذاتيا متصلا بجزء من الحياة الأدبية لموليير نفسه، كما تلقي، من الناحية الموضوعية، الضوء على امتدادات الخطاب المسرحي داخل فضاءات سياسية.

فليس من قبيل الصدفة أن يمسرح موليير ذاته ويجعل منها شخصية أساسية في مرتجلة يؤديها بنفسه. إنه يؤرخ بذلك لتجربته المسرحية في فترة حاسمة من مساره المسرحي عرفت صراعا حادا بينه وبين خصومه. فمرتجلة موليير تمسرح التاريخ الكوميدي لهذا الرجل من خلال سانكرونية محددة، تبدأ ب" مدرسة النساء" وتنتهي ب"مرتجلة فرساي"، كما تبرز ما تخلل هذه الفترة من تناقض في المنظورات الجمالية وصراع في الأفكار السياسية مع تسليط الضوء، بطبيعة الحال، على الموقف الشخصي لموليير من كل ذلك.

إن هذا الجانب السيرذاتي الذي جعل من المرتجلة سيرة مسرحية جزئية يصب منطقيا في الجانب السياسي، لاسيما وأن المسرحية تستحضر علاقة موليير بلويس الرابع عشر. وتقريب المسرح من قصر فرساي هو، في الواقع، محاولة لمد جسور التواصل بين الشعب والملك. بالإضافة إلى هذا، فإن إقامة العمل المسرحي على أساس قيم الارتجال والحرية والانسجام والديمقراطية، لم يكن سوى صياغة رمزية للقيم التي يقوم عليها الملك، والتي جعل موليير نفسه خادما ومروجا لها. إن المرتجلة صياغة مسرحية للتشابه القائم بين عالم المسرح وعالم السياسة.

2. 2 - " مرتجلة باريس " أو صراع " الأدبية " في المسرح :

كتب جان جيرودوJean Giraudoux " مرتجلة باريسl’Impromptu de Paris " سنة 1937. ولعل أول ما يستأثر بالاهتمام في هذه المسرحية هو كون تاريخ كتابتها يتطابق مع زمن أحداثها، لاسيما وأن الأمر يتعلق بتداريب تقوم بها فرقة مسرحية يديرها جوفي Jouvet ، زوال أحد أيام عام 1937. ويدل هذا التطابق بين زمن الكتابة وزمن الحدث على رغبة الكاتب في تحيين خطابه، وجعله ملائما لطبيعة المرحلة التي عاش خلالها صراعا مع شريحة من النقاد أساؤوا - في نظره - للمسرح. وقد اتخذ جيرودو من عمله هذا وسيلة لبلورة منظوره الخاص إزاء بعض القضايا المتصلة بالظاهرة المسرحية جماليا وسياسيا.

تحكي " مرتجلة باريس " قصة فرقة مسرحية تجري تداريبها العادية بحضور مخرجها، ويستغل أفرادها هذا اللقاء من أجل تداول الآراء حول قضايا تهم المسرح : مفهومه، اتجاهاته، علاقته بالجمهور، دور الممثل فيه ... إلخ. يقتحم متطفل عالم الفرقة فيضطر - نظرا لرد الفعل الذي لقيه من أعضائها - إلى أن يوضح لهم أن المهمة التي يتقلدها تسمح له بالدخول دون سابق إعلان ودون موعد محدد سلفا، خصوصا وأنه عين مندوبا على ميزانية المسارح. ينخرط مع الفرقة ومخرجها في نقاش حول معاناة المسرح مع النقاد ومسؤوليتهم في ما أصاب المسرح الفرنسي من ضعف لغوي وتراجع في القيمة الأدبية. وسرعان ما سيتخذ النقاش بعدا وطنيا وسياسيا، خصوصا وأن روبينو Robinneau لم يعد ينظر إليه باعتباره متطفلا، وإنما باعتباره ممثلا للسلطة قادر على رفع طلبات الفرقة إلى الحاكمين. ولعل هذا ما سيؤكده لهم هو نفسه في نهاية المسرحية :

" روبينو : لا تقلقوا أيها السادة. كيفما كان المنفذ الذي سأخرج منه من هذه الخشبة، فإن الدولة سوف تتعرف على رغباتكم " (25).

إن التأمل الأولي في أحداث " مرتجلة باريس " يبين أنها خرجت من معطف موليير ومرتجلته. ففي كلتا المسرحيتين نجد أمامنا فرقتين مسرحيتين : فرقة موليير وفرقة جوفي، تجريان تداريب مسرحية. ويتعلق الأمر، في الحالتين معا، ب" مسرحية ممثلين "، والفرق بينهما يكمن في طبيعة النوع الدرامي. إن روبينو عند جيرودو هو الوجه الآخر للاتوريليير عند موليير. فكلاهما دخل على الفرقة دون سابق إعلان. إن المرتجلتين معا تقومان على إجراء متشابه هو العرض الذاتي Autoreprésentation المتمثل في تشخيص الممثلين لواقعهم في المسرح.

إننا، إذن، أمام نوع من التناص على مستوى الحدث المسرحي بين جيرودو وموليير، له مظاهر أخرى تدعمه على مستوى الخطاب والموضوعات الممسرحة.

فـ" مرتجلة باريس " تبدأ بنفس البداية التي نجدها في " مرتجلة فرساي"، ولهذا ما يبرره بالنسبة لبوفوريو Boverio الذي سئل عن المسرحية التي سوف ينطلق منها الممثلون فأجاب :

" بوفوريو : شيء بديهي، بداية مرتجلة فرساي. إنها المقال الذي يلائم المقام(26).

هذه الإحالة على موليير سرعان ما تتردد أصداؤها في حوارات الشخصيات إلى حد أن " مرتجلة باريس " تأخذ حرفيا بعض المقاطع المولييرية من ذلك، مثلا، ما قاله مولييير في حق الممثلين:" آه، الممثلون هذه الحيوانات الغريبة التي علينا قيادتها ".

في هذا السياق، يلاحظ أن قضية الممثل حظيت لدى جيرودو بنفس الأهمية التي حظيت بها لدى موليير، وذلك ما يتأكد من خلال ما عبر عنه آدم :

" آدم : لا أراكم توقفون العرض وتأتون إلى مقدمة المسرح لتقولوا له : جمهوري المسكين، المؤلفون يتجاهلونك والنقاد يضللونك والمديرون يحتقرونك، وليس لك سوى صديق واحد هو الممثل(27).

إن جيرود يجعل من قضية الممثل هذه مجال مواجهته لأولئك الذين يستغلون المسرح من الخارج. لذا، نجد في المرتجلة سخرية من روبينو ممثل السلطة والمال، مع صياغة خطابات تسير في هذا الاتجاه مثل :

" جوفي : ليكن المسرح للممثلين وليس للمستغلين " (28).

وفي نفس السياق أيضا، يعبر جيرودو عن مواقفه من الإخراج المسرحي ومن بعض اتجاهاته كالواقعية والشعبية محاولا الكشف عن الالتباسات التي ولدتها بخصوص علاقة المسرح بجمهوره.

ومادام يرى أن الوسيلة المثلى للكشف عن الحقيقة للناس فهي المسرح نفسه، فقد اختار المرتجلة باعتبارها صيغة كفيلة بتبديد أشكال سوء التفاهم مع الجمهور، وتوضيح موقفه من قضية أساسية شغلته - كما شغلت موليير قبله - تتعلق بعلاقة النقد والنقاد بالمسرح. في هذا الإطار، يلاحظ أن جوفي يصفهم، بنوع من السخرية، بالملائكة الذين "يقبله بعضهم إلى حد الخنق". علاوة على هذا، فالمرتجلة تلجأ إلى الاستيهام والحلم في رسم صورة النقاد. فجوفي يرى أن بإمكانهم كشف حسابه في البنك وتدارك عجزه المالي وأداء تعويضات الممثلين نيابة عنه.

إن للسخرية من النقاد في المرتجلة وجهها الجاد أيضا، ويتجلى في المواقف المباشرة والصريحة التي عبر عنها جوفي معتبرا أنهم السبب في تراجع مستوى المسرح الفرنسي :

" جوفـي: إذا كانت الخشبة الفرنسية قد أصبحت خلال عقود من الزمن ملجأ للدمى والتفاهات، وإذا كانت اللغة الدرامية لا تتجاوز اللهجة المحلية، وإذا كان المسرح الفرنسي قد مس بشكل خطير في نبله الذي هو الكلمة وفي شرفه الذي هوالحقيقة، فإنهم، بطبيعة الحال ، المسؤولون الأولون عن ذلك" (29).

إن جيرودو يلامس - على لسان جوفي - القضية الجوهرية في المرتجلة والمتمثلة في " اللغة الدارمية "، حيث يلاحظ دفاعه عن الطابع الأدبي لهذه اللغة. ففي نظره، هنالك علاقة وطيدة بين المسرح واللغة والمتخيل والوطن. لذا، فإن الإساءة إلى اللغة المسرحية باستعمال " المقول Le dit "عوض " المكتوب L'écrit "، هي إساءة للمتخيل المسرحي الذي يصنع قوة الوطن. من ثم، يمكن القول إن المرتجلة تحدد " جمالية Esthétique اللغة الدرامية وأخلاقها Ethique في آن واحد(30).

يتمثل الجانب الجمالي في العناية بأسلوب الكتابة، واستعمال اللغة الوطنية عوض اللهجات ، مع الارتقاء بها نحو الشاعرية. أو بعبارة واحدة، إن هذه الجمالية تتحدد فيما يمكن تسميته ب" أدبية Littérarité " اللغة الدرامية. في ضوء هذه الأدبية، تستهجن المرتجلة استعمال اللهجة العامية بدعوى النزول إلى مستوى الجمهور، لأن ذلك يسقط في السهولة والابتذال. لذا، فإننا نعتقد أن لارطوما Larthomas قد أصاب عندما قال عن المرتجلة أنها " بيان حازم لصالح المسرح الأدبي" (31). وإن كانت لا تقبل الدلالة التي أعطاها النقاد لكلمة " أدبي "، حيث استعملوها بنوع من الاستهجان، في حين أنها تدل - في نظر جيرودو- على نبل اللغة ورقيها وشرفها وقربها - وهذا هو الأهم - من " الحقيقة الوطنية ".

في ضوء هذه الحقيقة، ينبغي وضع أخلاقيات اللغة الدرامية. لذا، يلاحـظ أن خطاب المرتجلة منفتح، بشكل بارز، على بعدين أساسيين : سياسي ووطني.

يظهر البعد الوطني من خلال تركيز جيرودو على " المسرح الفرنسي" بالأساس، حيث يصبح الحرص على اللغة الفرنسية الراقية والأدبية في المسرح حرصا على فرنسا نفسها، لاسيما وأن ثمة علاقة مباشرة - كما سبق الذكر - بين اللغة والمتخيل والوطن. لهذا، فإن " صراع الأدبية " في المسرح يكتسي خطورة كبيرة مادام مفتوحا على البعد الوطني. ولعل هذا ما يؤكده جوفي في المسرحية عندما يدين النقاد ويبين تحقيرهم للمسرح، وبالتالي للوطن:

" جوفي : تحقير المسرح يعني تحقير المتخيل واللغة والوطن" (32).

إن النموذج الذي ينبغي أن يحتذى، في هذا السياق، هو النموذج الكلاسيكي. فالممثل الذي لا يتنفس ولا يتكلم بإيقاعات راسين ليس جديرا بالاحترام. لهذا، يمكن القول إن " مرتجلة باريس " تجسد " عودة المكبوت " في الثقافة المسرحية الغربية ممثلا في النموذج الكلاسيكي لغة وقيما وطنية، لاسيما وأن هذا النموذج سبق وأن تعرض لهجوم قوي من لدن الرومانسيين فتح الباب على إثره للمسرح الغربي لكي يعيد النظر في إرثه المنحدر من أرسطو.

ولعل ما يقوي هذا التأويل النفسي هو كون المسرحية تستحضر بنوع من القياس والمقارنة بعض رموز العصر الكلاسيكي كموليير وديكارت ولويس الرابع عشر. إن فرنسا في عصر جيرودو في حاجة إلى نموذج شبيه بموليير وإلى آخر شبيه بلويس الرابع عشر :

" روبينو : اتني بموليير، وسأتكفل بأن أكون لويس الرابع عشر" (33).

إن هذه الإشارة تجعلنا نقف على البعد الثاني في خطاب المرتجلة، ألا وهو البعد السياسي، ويتجسد في علاقة المسرح بالدولة في نظر جيرودو، حيث نستشف ذلك من قول لجوفي المخرج :

" جوفي : إذن، ألا تعتقد، أولا، أنه إذا كان دور المسرح هو خلق شعب يستيقظ كل صباح فرحا بفكرة لعب دوره في الدولة، فإن أقل ما يمكن أن تقوم بـه الدولة هو صنع شعب يكون مستعدا، كل مساء وبنضج، من أجـل

المســـرح " (34).

إن العلاقة متبادلة، إذن، بين المسرح والدولة. وإذا كان موليير قد لعب دورا هاما بالنسبة لفرنسا، فإنه ما كان ليحقق ذلك لولا أن الحكم كان وراءه. ومادام " المسرح المنخور يعني وطنا منخورا "، كما تؤكد المرتجلة، فإن جيرودو كان يطمح - من خلال هذه الإشارات إلى ضمان مساندة الدولة قصد إرساء دعائم " مسرح أدبي" يكون في صالح فرنسا.

يستخلص مما سبق، أن الميتامسرح في " مرتجلة باريس " اعتمد على استراتيجية التناص مع " مرتجلة فرساي "، وذلك من أجل بلورة صراع ذي أبعاد جمالية وسياسية، يدور بين جيرودو ونقاد المسرح بصفة عامة في فرنسا، ويتمحور بالأساس حول " أدبية المسرح ". ولعل الخاصية المميزة لخطاب جيرودو الميتامسرحي التي تطبع مرتجلته وتميزها عن غيرها هي الطابع الوطني المتمثل في ربط القضايا الممسرحة بقضية وطنه فرنسا.

2. 3 - " مرتجلة ألما " أو صراع " التمسرح " في المسرح :

كتب أوجين يونسكو Eugène Ionesco " مرتجلة ألما l’Impromptu de l’Alma " سنة 1955، أي بعد أن حقق تراكما مهما في مجال الكتابة المسرحية، وفي وقت كان ما يسمى بمسرح العبث أو اللامعقول قد وصل إلى أوجه.

وإذا كانت تجربة يونسكو تتقاطع في كثير من خصائصها مع تجارب أخرى تنتمي إلى نفس التيار العبثي، فإنها تميزت، مع ذلك، بخصوصيات مرتبطة بالمسار الإبداعي الشخصي ليونسكو، ومنها على وجه التحديد، ذلك التفاعل والتداخل الموجود بين هاجسي الإبداع والتنظيم. فقد عرف عنه انشغاله العميق - سواء في إبداعه أو في تنظيراته - بما كانت تعج به الثقافة الغربية من إشكالات، وبالكيفية التي ينتج ويتلقى بها مسرحه، وبردود الفعل التي كان يثيرها في أوساط النقاد والمهتمين بالمجال المسرحي.

في هذا السياق، تندرج " مرتجلة ألما ". لقد جاءت، في الواقع، كرد فعل على ما تعرض له ريبرتوار يونسكو السابق من نقد لاذع كانت وراءه أسماء مرموقة فـي مـجال النقـد المسرحي آنذاك، كرولان بارث Roland Barthes وبرنـار دورت

Bernard Dort.

لقد أثرت آراء هؤلاء بشكل عميق في يونسكو، لاسيما وأنها نابعة من رموز يمثلون تيارات فكرية محددة، ويدافعون عن مبادئ أساسية متصلة بجماليات مسرحية مناقضة، جذريا، لما كان يؤمن به يونسكو من الناحية الفكرية، وما كان يعبر عنه في إبداعه.

إن هذا الصراع القائم حول الموقف الفكري والجمالي هو الذي حاولت "مرتجلة ألما" مسرحته، وذلك من خلال تحويل مشاهد المسرحية إلى جولات ساخنة من اللكم الرمزي يدور محور الصراع فيها حول خصوصيات الخطاب المسرحي وآلياته. ولعل هذا ما يجعلنا نعتبر المرتجلة عبارة عن صياغة مسرحية لما يمكن تسميته ب" صراع التمسرح La querelle de la théâtralité " بين الناقد والمبدع. وما يزكي هذا الرأي هو كون مقولة التمسرح نفسها - باعتبارها مقولة نقدية - شكلت في المرتجلة إحدى عناصر الجدل والاختلاف بين يونسكو ونقاده.

ومادام الأمر يتعلق بمواجهة حاسمة حول قضايا تتصل بالظاهرة المسرحية وبأبعادها المختلفة، فقد سخر يونسكو لها كل ما أوتي من قدرة تخييلية ولغوية، وذلك من أجل توضيح منظوره الخاص من جهة، وتسخيف خصومه والسخرية من خطاباتهم وزعزعة خلفياتهم الفكرية والجمالية من جهة أخرى.

وإذا كانت القاعدة التي أقام عليها يونسكو متخيل مسرحيته بسيطة جدا، تتمثل في حكاية كاتب منشغل بعمله في بيته يقتحم خلوته أشخاص من أجل مساءلته حول قضايا تتصل بمهنته، مما يبين أن المرتجلة غير معنية بمفهوم الحدث الكلاسيكي بقدر ما هي معنية بوضع شخوص في الواجهة وإثارة الانتباه إلى سلوكاتهم ومواقفهم؛ فإن ما يثير فيها منذ البداية، هو هذا العنوان المزدوج الذي وضعه يونسكو لمسرحيته : " مرتجلة ألما أو حرباء الراعيl'Impromptu de l'Alma ou le Caméléon du berger ".

إن عنوانا بهذا الشكل لا يمكن أن يكون اعتباطيا، ويونسكو نفسه لا يتعامل - شأنه شأن كتاب اللامعقول - مع العنوان بكيفية اعتباطية، بل يلاحظ أن صيغة هذا العنوان حاضرة في حوار الشخصيات ضمن المرتجلة نفسها. فعندما سأل برطلميوس I يونسكو لماذا اختار عنوان " حرباء الراعي " أجاب :

" يونسكو : إنه المشهد الرئيسي في مسرحيتي ومحركها. لقد لاحظت، مرة، في مدينة إقليمية كبيرة، وسط الشارع، صيفا، راعيا صغيرا، حوالي الثالثة زوالا، يقبل حرباء لقد أثارني ذلك وقررت أن أخلق منه مهزلة تراجيدية"(35).

وعندما علق عليه برطلميوس I قائلا بأن ذلك مقبول علميا، استدرك يونسكو :

" يونسكو : لن يكون هذا سوى نقطة الانطلاق. لا أدري إن كنا سنرى الراعي على الخشبة وهو يقبل الحرباء، أو سأكتفي فقط باستحضار المشهد أو أنه لن يشكل سوى خلفية غير مرئية مسرح في الدرجة الثانية في الواقع، أعتقد أن ذلك لن يصلح سوى كذريعة " (36).

إن هذا الحوار يقدم لنا معطيات مهمة لفهم أبعاد العنوان في علاقتها بالمسرحية، ويمكن إجمالها في عنصرين :

- استقاء العنوان من مشهد في الواقع.

- إمكانية تحويل المشهد إلى مهزلة تراجيدية.

يمكن التمييز، إذن، بين إطارين للمشهد : إطاره الواقعي المتحقق في زمن ومكان معلومين، ثم إطاره المتخيل المتأرجح بين إمكانية واستحالة إعادة إنتاجه فوق الخشبة. إن استحضار هذا المشهد لا يشكل، في الحقيقة، سوى ذريعة رمزية لاستدعاء أشياء أخرى. فتقبيل الراعي لحرباء بعد إنقادها من موت محقق يشير إلى سلوك إنساني نبيل، كما يشير إلى إمكانية خلق مصالحة بين الإنسان والطبيعة، خصوصا إذا كان الإنسان من النوع الذي لم تلوثه الحضارة (أي الراعي)، وبغض النظر عن نوعية العنصر المجسد للطبيعة (الحرباء المعروفة بتغيير لونها حسب الحالات).

إن ما يهم يونسكو في كل هذا، هو الوقوف على مسألة المصالحة بين الذات والآخر، كيفما كان نوع هذا الآخر. هذه المصالحة المتحققة واقعيا بين الراعي والحرباء، قد تبدو مستحيلة عندما يتعلق الأمر بالمتخيل، وهو يقصد - في ما يبدو - استحالة إعادة إنتاج نفس المشهد بينه وبين خصومه من النقاد. وقد اختار هذه الصيغة الرمزية للتعبير عن ذلك. ولعل ما يزكي لدينا هذا الاعتقاد، هو أن المرتجلة سوف تنقلنا مباشرة، وبدون سابق إعلان، من هذا المستوى التخييلي (حكاية الراعي والحرباء) إلى مستوى ميتامسرحي يعلن من خلاله يونسكو عن الهدف من كتابة مرتجلته :

" يونسكو: لقد قلت لكم إن هذا ليس سوى ذريعة، نقطة انطلاق في الواقع، سأضع نفسي على الخشبة بنفسي من أجل الشروع في مناقشة حول المسرح، ومن أجل عرض أفكاري حوله (37).

وما دام الأمر يتعلق بقضايا مسرحية، فإنه يعلن أن الصيغة الملائمة لذلك هي المترجلة :

" يونسكو : سوف تكون عبارة عن مرتجلة " (38) .

يستخلص من كل هذا، أن العنوان المزدوج يشير إلى شكل المسرحية ومحتواها، إلى مستواها التخييلي والميتامسرحي في آن واحد. من ثم، ف" مرتجلة ألما " تعرض لصراع مبدع هو يونسكو نفسه ضد نقاده. والملاحظ أنه ينخرط في هذا الصراع بشكل صريح وعلني، متخذا نفس الاختيار المولييري المتمثل في موقع المؤلف - الملحمي المشارك في أحداث المسرحية، العارض لذاته والممسرح لمواقفه الخاصة.

فمنذ المشهد الأول يضعنا يونسكو في قلب معاناته ككاتب مسرحي، حيث يصفه الإرشاد المسرحي الأول بكونه يغط في نومه واضعا رأسه على المكتب بعدما تعب من الكتابة التي يشير إليها القلم الذي ما يزال بيده رغم نومه. إن هذه الصورة تعطينا انطباعا أوليا عن الكاتب الذي يشتغل في ظروف جد صعبة ويضحي براحته من أجل الإبداع.

هذا الوجه الأول من الصورة يبرز لنا معاناة الكاتب في عزلته ليهيئنا لاستقبال الوجه الثاني المتمثل في معاناة الكاتب مع نقاده الذين لا يقدرون عمله، ويتحاملون عليه. وتلوح ملامح هذا الوجه الثاني بدخول برطلميوس I الذي أزعج يونسكو النائم بدقات قوية على الباب. إن هذه الدقات هي، في الواقع، دقات النقد في باب الإبداع، خصوصا وأن برطلميوس I جاء يسأل يونسكو عن عمله ويعلن انتظاره لمسرحيته الجديدة.

وفي الوقت الذي يبدأ فيه يونسكو بقراءة بداية مسرحيته التي لم تكن سوى بداية "مرتجلة ألما " نفسها، يلتحق برطلميوس II ثم برطلميوس III بعد ذلك، ليبدأ الجميع في مناقشة صاخبة تجمع بين الجاد والهازل، وتمتزج فيها السخرية السوداء بالموقف الفكري والجمالي الصريح. ولا يحد من هذا الصخب إلا النداءات المفاجئة للخادمة ماري التي جاءت كي تنظف بيت يونسكو وتنظمه. لعلها تجسد، ربما، نداءات الجمهور المسرحي الغائب عن هذه المناظرة بين المبدع ونقاده.

لقد اختار يونسكو لنقاده في المرتجلة إسما واحدا هو " برطلميوس "، وميز بينهم بالأرقام فقط. وسواء تأملنا أسماءهم أو مظهرهم الخارجي، سنلاحظ أن يونسكو حملهم دلالات توحي بالتسلط والدغمائية والادعاء.

فاسم برطلميوس يذكرنا بالقديس برطيليمي Saint Barthélemy أحد التلاميذ أو الحواريين apotres الاثني عشر للمسيح الذين اختارهم كي يبشروا بالإنجيل. لذا، فاختيار يونسكو تسمية نقاده بهذا الاسم يمكن أن يفهم منه القول بأن خطاباتهم تبشيرية ودعائية. ولعل تدخلاتهم في المسرحية تؤكد ذلك، لاسيما وأنها تتضمن صفات معينة تتكرر باستمرار مثل : علمي، ديالكتيكي وظاهراتي.

إن هذه الصفات التي تتكرر في خطابات برطلميوس I وII تكشف أن الخلفية المتحكمة فيها خلفية فكرية وجمالية بريشتية. و هذا ما يقوي الاعتقاد لدينا بأن الأمر يتعلق، في الواقع، بموقف كل من رولان بارث وبرنار دورت، لاسيما وأن هذين الناقدين عرفا بدفاعهما، خلال هذه الفترة، عن النظرية الملحمية في المسرح عبر منبر ثقافي مشهور هو مجلة " مسرح شعبي Théâtre Populaire ". ويلاحظ أن المرتجلة نفسها تشير في الهامش الوحيد الموجود فيها إلى ضرورة " العودة إلى مجلة مسرح شعبي (بالنسبة لبرطلميوس I وII ) ومقالات الفيكارو عن النقد الدرامي (بالنسبة لبرطلميوسIII )" (39).

وإذا كانت أسماء الشخصيات في المرتجلة تحمل هذه الدلالات المعيارية، فإن مظهرها الخارجي المقولب Stéréotypé يصب في نفس الاتجاه، بطريقة أخرى. فالإرشادات المسرحية تؤكد أنهم يلبسون لباس الأطباء وشعورهم منسقة بنفس الطريقة؛ بل إن حواراتهم الأولى، أثناء دخولهم، متطابقة تماما مما يجعلهم أصداء لصوت واحد. إن هذا المظهر الموحد يبين أن تعدد نقاد يونسكو وتنوع خطاباتهم يضمر، في واقع الأمر، نزعة واحدة تطبعها الوثوقية وادعاء العلمية والتعامل مع النقد باعتباره دواء لأدواء الإبداع المسرحي، ومع الناقد باعتباره طبيبا قادرا على توجيه المبدع إلى "الوصفة النقدية " التي تشفي مسرحه من الأعطاب.

ولتسفيه صورة النقاد هاته، يستعمل يونسكوالسخرية العبثية إلى جانب نوع من الجدل الجاد الذي يرد من خلاله على آرائهم ويشرح منظوره المسرحي. لذا، نلاحظ أن القضايا والموضوعات الممسرحة تنقسم إلى قسمين: أحدهما يتعلق بمفهوم المسرح ووظيفته وتقنياته، والثاني يخص النقد المسرحي ووظيفة الناقد.

في القسم الأول، أبرز يونسكو مفهومه حول النص المسرحي. فعندما سئل عن موضوع مسرحيته أجاب :

" يونسكو : هه ، أتعلمون، إنني لا أعرف أبدا سرد مسرحياتي .. كل شيء موجود في الحوارات، في اللعب، في الصور الركحية. المسألة بصرية إلى حد كبير كما هي العادة دائما إن صورة أولى أو حوارا أولا هو الذي يثير لدي دائما ميكانيزم الإبداع، ثم بعد ذلك أدع نفسي تسير مع شخصياتي الخاصة ولا أعرف أبدا إلى أين أذهب بالضبط كل مسرحية هي، بالنسبة إلي، مغامرة، مطاردة،اكتشاف لعالم ينكشف لي شخصيا وأكون أول من يفاجأ بحضوره"(40).

إن هذا الجواب يضع مفهوم النص، بالنسبة ليونسكو، في إطاره الحقيقي المتمثل في ما يمكن أن نطلق عليه " التمسرح العبثي " الذي " يتميز باللجوء إلى اللغة الفيزيقية للخشبة وتدمير سيكولوجيا الحبكة بمعناها الحقيقي، في آن واحد" (41).

لهذا، يقر يونسكو بعدم إمكانية سرد قصة مسرحيته مادام النص العبثي لا يتضمن حكاية بالمفهوم التقليدي. إن مسرح العبث يعتمد الإيحاء والإشارة لمخاطبة العين، أولا وقبل كل شيء. وقد لخص يونسكو هذه الخاصية عندما ذكر في حواره صفة " بصري Visuel ". إن هذه الإشارة تسير في اتجاه البلاغة الجديدة التي أقامها كتاب اللامعقول، والتي أطلق عليها إيمانويل جاكار Emmanuel Jacquart بلاغة الحواس أو التحسيس Sensorialisation (42).

تقوم هذه البلاغة على استيحاء مفهوم يعود إلى أنطونان أرطو في كتابه " المسرح وقرينه" هو " التجسيدات Matérialisations " التي تنبني على أساس إظهار صور محسوسة سماها يونسكو - في حواره السابق - ب " الصور الركحية ". فالنص المسرحي، إذن، هو تجسيد لبلاغة العلامة وليس لبلاغة الكلمة.

وفي سياق كشفه عن " ميكانيزم الإبداع " لديه، تحدث يونسكو عن سيرورتين هما : الإثارة والتداعيات، لأنهما يسمحان بخلق اللامنتظر والصدفوي، ويساعدان على تحرير الطاقات الإبداعية للخيال، كما هو الشأن في الحلم. وبإبرازه لميكانيزم الإبداع، يبين يونسكو طابع التفرد الذي يدمغ نصوص مسرح اللامعقول، حيث تتحول كل مسرحية إلى مغامرة قائمة بذاتها أو إلى كشف جديد غير مسبوق. ولعل هذا ما نبه إليه جاكار أيضا عندما قال بأن كل مسرحية عبثية تطرح تصورا خاصا يستحيل معه " استعمال تقاليد عامة Passe- partout. فكل عمل يجب أن يخلق قواعده الخاصة "(43). من ثم، فإن الصورة الملائمة لوصف العمل العبثي هي " استعارة المتاهة".

وموازة مع هذا، فإن سجال يونسكو مع نقاده انتقل، بالضرورة، إلى المفهوم الأصلي والشامل ألا وهو مفهوم " التمسرح ". ونظرا للاختلاف البين حول هذه المسألة بين يونسكو الذي يؤكد أن التمسرح هو " ما هو مسرحي" وبين برطلميوس I الذي يقول إن التمسرح هو " ما هو ضد - مسرح "، اضطر يونسكو إلى الانتقال، كعادته، إلى العبث واللعب بالكلمات، وبالخصوص بكلمة واحدة هي: " العكس بالعكس Vice - Versa ".

وما دام الأمر يتعلق بنقاد يؤمنون بتصورات فكرية وجمالية محددة المعالم، فقد أخذت قضية وظيفة المسرح حيزا هاما في المرتجلة. فقد حاول النقاد الثلاثة إقناع يونسكو بأن المسرح " درس تعليمي " انسجاما مع تصورهم الملحمي البريشتي. إلا أنه يؤكد، في مقابل ذلك، أن المسرح مسرحة للعوالم الداخلية للمؤلف بما فيها : أحلامه، تخوفاته، رغباته وتناقضاته النفسية. ولا تتخذ هذه المسرحة بعدا ذاتيا، كما قد يعتقد، وإنما تكتسي بعدا إنسانيا بالضرورة.

إن "مرتجلة ألما" لا تقف عند حدود إبراز عناصر التمسرح العبثي وحسب، بل تتجاوز ذلك نحو تحديد المنطق الفكري الذي يسند هذا التمسرح. في هذا الصدد، يلاحظ أن الاكتشافات الفرويدية فتحت أفقا جديدا لأنها سمحت بتعليل فعل واحد بسببين متناقضين. لذا، نجد في مرتجلة يونسكو صدى لمنطق جديد يقوم - حسب استيفان لوباسكو Stéphane Lupasco - على " سببية التعارضات Causalité d’antagonismes "، أو بعبارة أخرى على منطق المفارقة، كما هوالشأن في الحوار التالي :

" يونسكو: (مغمغما) لا أذهب إلا لكي أبقى بشكل أحسن، أهرب بشكل معقول أي بشكل لامعقول، أهرب لكي لا أرحل .. (بكثير من الثقة في النفس) نعم أذهب لكي أبقى .. (44).

ومادام يونسكو يقدم منظوره الفكري والجمالي حول المسرح في سياق مواجهة مع نقاده، فقد تحولت المرتجلة إلى محاكمة مباشرة للنقد والنقاد. لقد سبقت الإشارة إلى أن برطلميوس I وII وIII يمثلون شريحة من النقاد تردد مقولات بريشتية منها : التغريب، ديالكتيك المسرح، التعليمية، العدة الركحية، التاريخانية، اللوحات المكتوبة، الواقعية المؤسلبة ...إلخ. بل إن برطلميوس II لم يتردد في القول :

" برطلميوس II : بريشت هو إلاهي الوحيد، وأنا رسوله " (45).

إن يونسكو يكشف في مرتجلته عن الخلفية الفكرية والجمالية لنقاده بشكل يساعد على اكتشاف هوياتهم، لاسيما وأنه أفصح في سياق المسرحية عن المنابر التي يكتبون فيها وهي : مجلة " مسرح شعبي " وجريدة " الفيكارو".

إن مجلة " مسرح شعبي " التي ارتبطت بالسياق الثقافي للخمسينات - وهي الفترة نفسها التي بلغ خلالها مسرح العبث أوجه - كانت تضم أسماء بارزة كرولان بارث الذي أدارها لفترة محددة، وجان دوفينيو وبرنار دورت وغيرهم. لذا، فوقوف " مرتجلة ألما " عند مصطلح " التمسرح " لم يكن، في واقع الأمر، سوى استجابة لمرحلة كان النقاش منصبا خلالها حول هذا المصطلح بين أعضاء المجلة المذكورة. ولعل هذا ما يؤكده جان دوفينيو نفسه بقوله : " هذا التمسرح نغوص به في الاجتماعي وفي الجمهور " (46).

إن التركيز على البعد الاجتماعي للتمسرح يجد صداه في خطابات برطلميوس I وII وIII ذات المرجعية البريشتية. وليس هذا غريبا مادام النقاد الذين يشير إليهم يربطون علاقة حميمية مع البريشتية. فبرنار دورت خص بريشت بكتاب تحت عنوان "قراءة بريشت Lecture de Brecht " قرأ فيه جل أعماله، أما رولان بارث الذي كتب عنهم كثيرا، فقد كان " يرى فيه الجواب على السؤال الذي كان يطرحه على نفسه وهو : وجود فن مسرحي في خدمة النقد الاجتماعي " (47).

ولعل ما يثير الانتباه في هذا السياق، هو أن " مرتجلة ألما " كتبت في وقت كانت تعيش خلاله مجلة " مسرح شعبي " لحظات الاحتضار، حيث ستتفرق هيئة تحريرها ما بين سنتي 1956 و1957، مما يجعلنا نذهب إلى القول إن هذه المسرحية لم تأت فقط كرد فعل إبداعي على خطابات نقدية ذات مرجعية بريشتية مرتبطة بمنبر ثقافي، وإنما أتت قصد إعلان نهاية هذا المنبر، وبالتالي نهاية " أسطورة البريشتية " في النقد، في عصر لا تعرف فيه القيم الثقافية استقرارا.

والملاحظ أن هذه النهاية صيغت بطريقتين متداخلتين إلى حد الانصهار: عنف الخطاب من جهة، وذلك للكشف عن الطابع المعياري، الوثوقي، التلقيني، الإقصائي والاستبدادي لهذا النقد، ثم السخرية والعبث من جهة أخرى. ولعل هذه الصيغة المزدوجة هي التي جعلت يونسكو يصف مرتجلته - من الناحية النوعية - بكونها "مهزلة تراجيدية Farce tragique ".

إن المرتجلة ترسم، في نهاية الأمر، صورة كاريكاتورية للنقاد، حيث تكشف عن جهلهم (هم يعتبرون شكسبير روسيا أو بولونيا)، وتبين تهافت خطاباتهم وتناقضها (اختلافهم حول كلمة " Vice - Versa " وحول مقولة "الصدق ")، وتسخر من ترديدهم لأشياء محصلة سلفا Tautologies، واضطراب مصادر معرفتهم (العودة إلى معجم " لاروس الصغير" للتعرف على شكسبير)، وتكشف النقاب بالتالي عن نزعتهم العدائية إزاء المبدع الذي لا يساير أفكارهم.

وبموازاة هذا التقويض والهدم، يعمل يونسكو، في نهاية المطاف، على إبراز موقف بناء إزاء النقد في علاقته بالإبداع، وذلك من خلال مخاطبة مباشرة للجمهور يقول فيها :

" يونسكو: أؤاخذ على هؤلاء الدكاترة اكتشافهم حقائق أولية وإلباسها لغة مبالغة جعلتها تتحول، في ما يبدو، إلى حقائق مجنونة. إن هذه الحقائق - شأنها فقط شأن كل الحقائق حتى ولو كانت أولية - قابلة للرفض. إنها تصبح خطيرة عندما تخذ مظهر العقائد التي لا تناقش، وعندما يدعي الدكاترة، باسمها، إقصاء حقائق أخرى وتوجيه الإبداع الفني، أو بالأحرى الاستبداد به. ينبغي للنقد أن يكون وصفيا وليس معياريا إذا كان للنقد بدوره الحق في إصدار الأحكام، فعليه ألا يفعل ذلك إلا وفق قوانين التعبير الفني نفسها، وفق أسطورة العمل الفني الخاصة، وذلك بالانخراط داخل عالمه "(48).

إن يونسكو يدافع عن نسبية القيم النقدية، ويدعو إلى تجنب المعيارية واعتبار العالم الداخلي للعمل الفني منطلقا أساسيا للحكم النقدي. وإذا تأملنا الصيغ التي تتردد في حواره كالوصفية وقوانين التعبير الفني وأسطورة العمل الفني، فإننا نكتشف فيها صدى بعض المناهج النقدية التي بدأت تترسخ أقدامها في الساحة الثقافية الغربية آنذاك، ومنها على الخصوص: البنيوية والتحليل النفسي.

لهذا، يمكن القول إن يونسكو ناقد يتخذ في المرتجلة لباس مبدع، وإن مسرحيته ليست مسرحة لصراع بين تيارين مسرحيين هما : البريشتية والعبثية وحسب، وإنما هي، في واقع الأمر، مسرحة لواقع ثقافي وحضاري شامل عاشته الثقافة الفرنسية بالخصوص بعد الحرب العالمية الثانية وتميز بتناقض المواقف السياسية والاجتماعية إزاء الواقع والإنسان، وبالتالي إزاء الفن الذي يعبر عنهما.

وخلاصة القول، إن " صراع التمسرح " الذي اتخذه يونسكـو ذريعـة فـي

مرتجلته جعل خطابه الميتامسرحي منفتحا على أبعاد متعددة : نقدية (المسرحية عبارة عن ممارسة إبداعية لنقد النقد المسرحي)، تنظيرية (المرتجلة تحدد مكونات التمسرح العبثي)، تاريخية (التأريخ لمرحلة حاسمة في تاريخ المسرح الغربي عرفت صراعا بين البريشتية واللامعقول)، ثم إيديولوجية (نسبية القيم ووحدة الشرط الإنساني بغض النظر عن التناقضات الاجتماعية).

3. تـركيــب :

يستخلص من كل ما قمنا بتحليله في هذا الفصل أن " صراع المسارح " يعكس دينامية المسرح الغربي بشكل واضح، والمقصود بالدينامية هنا، هو ذلك التفاعل القائم بين قضايا النقد والنظرية والإبداع المسرحي داخل المتخيل المسرحي نفسه، وبين قضايا الواقع والإنسان الغربي بشكل عام.

فإذا كانت صيغة " الصراع " تعكس المظهر الجدالي للخطاب الميتامسرحي في الغرب، فإنها تعبر، من جهة أخرى، عن نزوع المسرح الغربي منذ بداياته الأولى نحو دمقرطة Démocratisation قيمه الفكرية والجمالية، وذلك من خلال جعلها موضوعا للفرجة والتداول والجدل والصراع والمحاكمة على مرأى ومسمع من الجمهور، وبالتالي من الشعب.

لقد اتخذ " صراع المسارح" مظاهر مختلفة أملتها طبيعة السياقات التاريخية والثقافية من جهة، وقناعات المبدعين المسرحيين واتجاهاتهم الفنية والفكرية من جهة ثانية. ففي " الضفادع " نجد صراعا بين نموذجين من التراجيديا اليونانية، وفي " مرتجلة فرساي " نجد صراعا بين اتجاهين في التمثيل الكوميدي أحدهما أكثر ميلا نحو المهزلة، وفي " مرتجلة باريس " نصادف صراعا بين مسرح أدبي يقوم على أخلاقيات لغوية مضبوطة، وبين مسرح مفتوح على الشفوية أكثر من اللازم، ثم في " مرتجلة ألما " نلاحظ مواجهة بين خطابين إبداعيين ونقديين أحدهما ملحمي والآخر عبثي.

ويقوم " صراع المسارح " بمختلف صيغه على مبدإ التقويض والبناء، أي تقويض مسرح الآخر بقيمه ومبادئه وآلياته، وذلك قصد بناء مسرح الذات. وقد تأسس هذا المبدأ على استراتيجيات نصية مختلفة اتخذت طابع المحاكاة الساخرة أو اعتمدت تقنية المضاعفة المسرحية أو استثمرت آفاق التناص.

وقد صيغ " صراع المسارح " - نوعيا - في قوالب دارمية مختلفة كالكوميديا في صيغتها الكلاسيكية بالنسبة لأرسطوفان، وفي توجهها نحو المهزلة بالنسبة لموليير. وإذا كان جيرودو قد اعتمد الدراما الساخرة لتحقيق هدفه المزدوج المتمثل في صياغة نص يحتفي ب " أدبية اللغة " دون أن يخطئ هدفه النقدي إزاء " شفوية المسرح "، فإن يونسكو اختار صيغة المهزلة التراجيدية، وهي صيغة أفرزها الوضع المسرحي الجديد القائم على تفجير المنظور الكلاسيكي للأنواع الدرامية، وعلى المزج بين التراجيدي والكوميدي تماشيا مع ما يسمى بالضحك الأسود في مسرح العبث.

وإذا كان " صراع المسارح " قد صيغ عبر بنى نصية ونوعية مختلفة، فإن الخطاب الميتامسرحي الموازي لها لم يكن خطابا لازما، أي مقتصرا على البنى المسرحية، وإنما تحول إلى صياغة لرؤى مختلفة إزاء العصر والواقع والإنسان. لذا، نلاحظ أن أغلب الخطابات اتخذت إما بعدا سياسيا محليا (أرسطوفان)، أو وطنيا (موليير وجيرودو) أو إنسانيا (يونسكو). ولعل في هذا تجسيدا واضحا لانفتاح الميتامسرح في المسرح الغربي على التاريخ.

هوامـش:

(3) Michel Corvin - Lire La Comédie - p.33.

(4) Charles Mauron - Psychocritique du genre Comique - Librairie José Corti 1964 - p.117/118.

(5) Notice sur les grenouilles (in) Aristophane - Théâtre complet 2 - Traduction , Notices et Notes par M.J.Alfonsi - Marc Jean - Flammarion 1966 - p.228.

(6) Michel Corvin - Lire la Comédie - p.36.

(7) Les grenouilles (in) Aristophane - Théâtre complet 2 - p.280.

(8) Charles Mauron - Psychocritique du genre comique - p.112.

(9) Les grenouilles (in) Aristophane - Théâtre complet 2 - p.267.

(10) Jacques Nichet - La critique du Théâtre au Théâtre - p.34.

(11) Charles Mauron - Psychocritique du genre comique -.124.

(12) Ibid - p.123.

(13) Jacques Nichet - La critique du Théâtre au Théâtre - p.46.

(14) Ibid - p.43.

(15) Les grenouilles (in) Aristophane - Théâtre complet 2 - p.296.

(16) Patrice Pavis - Dictionnaire du Théâtre - p.201/202.

(17) Esthétique théâtrale : Textes de Platon à Brecht - p.74.

(18) L’Impromptu de Versailles (in) Molière - Oeuvres completes 2 - Chronologie; Introduction et Notices par Georges Mongrédien - Flammarion 1965 - p.148/149.

(19) - Georges Mongredien - Notice sur l’Impromptu de Versailles (in) Molière - Oeuvres complètes 2 - p.142.

(20) L’Impromptu de Versailles (in) Molière - Oeuvres complètes 2 - p.152/153.

(21) Ibid - p.158.

(22) Jacques Nichet - La Critique du théâtre au théâtre - p.35.

(23) Marc Fumaroli (Cité par) Jacques Nichet - op.cit - p.44.

(24) Michel Corvin -Lire la Comédie - p.97/98.

(25) Jean Giraudoux - L’Impromptu de Paris - Edit Bernard Grasset 1937 - p.158.

(26) Ibid - p.80.

(27) Ibid - p.85.

(28) Ibid - p.106.

(29) Ibid - p.11.

(30) Pierre Larthomas - Le langage dramatique: Sa nature et ses procédés - P.U.F. 1980 - p.23.

(31) Ibid - p.181.

(32) Jean Giraudoux - L’Impomptu de Paris - p.115.

(33) Ibid - p.157.

(34) Ibid - p.153.

(35) L’Impromptu de l’Alma (in) - Eugène Ionesco - Les chaises suivi de l’Impromptu de l’Alma - Edit Gallimard 1958 - p.99.

(36) Ibid - p.99/100.

(37) Ibid - p.100.

(38) Ibid - p.102.

(39) Ibid - p.175.

(40) . 98 Ibid - p.

(41) Pierre Chabert - Le corps comme matériau dans la représentation théâtrale (in) Recherches poétiques -Tome II - Klincksiek 1976 - p.310.

(42) انظر :

- Emmanuel Jacquart - Le théâtre de dérision

(43) Ibid - p.67.

(44) L’Impromptu de l’Alma - p.139.

(45) Ibid - p.152.

(46) Jean Duvignaud - «Théâtre populaire» : Histoire d’une revue - Magazine littéraire - N° 314 - Octobre 1993 - p.64.

(47) Ibid - p.64.

(48) L’Impromptu de l’Alma - p.175/176.

 

 

Contactez-nous

  Copyright © 2001 unecma.net