النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد

المنشورات الإلكترونيـة

حسن يوسفـي

حسن يوسفـي، المسرح في المرايا. شعرية الميتامسرح واشتغالها في النص المسرحي الغربي والعربي

الباب الثالث: الفصل الثاني

الميتامسرح التجريبي

 

في سياق حديثه عن التجريب بين المسرح الغربي والمسرح العربي، يقول الدكتور محمد الكغاط : " إذا كان التجريب في الغرب قد انطلق من تيارات مسرحية معروفة ومن تقاليد مسرحية راسخة، واستفاد أحيانا من بعض القوالب الشرقية والإفريقية، فإن التجريب في المسرح العربي ارتبط بالبحث عن قالب مسرحي متميز. وهكذا أصبحنا منذ الخمسينات من هذا القرن نسمع دعوات من هنا وهناك، تنادي بوجوب " التحرر" من القالب المسرحي الغربي، والانخراط في البحث عن صيغة مسرحية تعبر عن شخصياتنا وتلتصق بهويتنا كعرب. ولعل مما يثير الانتباه أن التجريب في الغرب بدأ على يد المخرجين، في حين أن بوادره الأولى ظهرت على يد بعض المؤلفين عندنا قبل أن يتلقفها المخرجون، ولعل ذلك يعود (إلى جانب عوامل أخرى دون ريب) إلى القداسة التي ما يزال النص الدرامي يتمتع بها في العالم العربـي " (31).

يستفاد من هذا القول عنصران هامان، يتعلق أحدهما بالتجريب في المسرح الغربي، والثاني بالتجريب في المسرح العربي، فالأول ارتبط بتيارات مسرحية محددة استفادت من تقاليد شرقية وإفريقية وتحقق على يد المخريجين، والثاني ارتبط بالبحث عن صيغة مسرحية عربية وظهر على يد المؤلفين.

صحيح أن مجال الكتابة أو النص الدرامي شكل قاعدة أساسية للتجريب المسرحي العربي. لكن ارتباطه بقضية البحث عن قالب مسرحي عربي لم يكن، في الواقع، سوى مظهر من مظاهره، ذلك أن انفتاح الكتابة الدرامية العربية على التجربة الغربية فتح المجال لظهور نقلات جديدة في هذه الكتابة، إلى حد أن العديد من نماذجها تحولت إلى إطار لاختبار وتجريب مجموعة من الصيغ المسرحية الغربية.

وبالنظر إلى ما أفرزه هذا الهاجس التجريبي المزدوج، أي البحث عن صيغة عربية مع تمثل التجربة الغربية، من جدالات وآراء مختلفة بين المسرحيين العرب، فإن النص المسرحي العربي تحول إلى حقل للتجريب والتفكير في هذا التجريب في آن واحد. لقد انخرط الكاتب العربي في محاورة تجربته وتأمل أدواتها وعلاقتها بالمتلقي العربي من جهة، وبالآخر من جهة أخرى. ومادام الميتامسرح يشكل أداة فعالة في ترجمة هذه النزعة التأملية، ويسمح بإدراج بنى مفكر فيها داخل النص المسرحي، ويتيح للكاتب فرصة التعامل المرن مع قيم مسرحية مختلفة المشارب، والمشاركة في صنع الأحداث وبناء الخطابات بشكل صريح من داخل متخيله المسرحي؛ فإن الممارسة التجريبية اتخذت من الميتامسرح مطية للتعبير عن كل هذه الهواجس.

لا ننوي هنا المضي في تحليل خلفيات التجريب وأبعاده الفكرية والفنية في المسرح العربي، ذلك أن عملية من هذا القبيل سوف تكون عبارة عن تحصيل الحاصل، مادامت الكتابات في هذا الجانب كثيرة (32)؛ ومادام همنا الأساسي هنا هو محاولة تلمس شعرية الميتامسرح من خلال النص المسرحي العربي، وذلك من خلال الوقوف على ما اصطلحنا عليه : الميتامسرح التجريبي.

فإذا كان الميتامسرح التأصيلي قد ترجم - من خلال استراتيجية تاريخية اتخذ بعضها مظهرا سيرذاتيا، واتجه البعض الآخر نحو صيغ وثائقية أو جمالية - طبيعة المأزق الذي وقع فيه المسرح العربي وهو يحاول ترسيخ ذاته داخل مجتمع خاضع لإكراهات متعددة؛ فإن الميتامسرح التجريبي نظرا لما رسخه التجريب من قيم الانفتاح والمثاقفة والحرية الفنية والمساءلة الدائمة للقيم المسرحية، قد عكس طموحا كبيرا لدى المسرحيين العرب تمثل في الرغبة في بلورة شعريات مسرحية قائمة الذات موازية لما أنتجه المسرح الغربي في هذا الإطار، أو على الأقل الدخول في الحوار مع الشعريات الغربية، سواء كانت كلاسيكية أو حديثة.

ولم يكن ممكنا للنص المسرحي العربي أن يمضي في هذا الاتجاه لولا أن مسرحيينا رسموا لأنفسهم استراتيجيات فنية محددة وحاولوا تحقيقها نصيا. وقد تم استيحاء هذه الاستراتيجيات من خلال التعامل مع مصدرين أساسيين هما : المسرح الغربي والتراث العربي.

في هذا الإطار، يمكننا أن نميز بين ثلاث استراتيجيات أساسية شكلت إطارا للميتامسرح التجريبي العربي هي :

- استراتيجية التناص.

- استراتيجية الارتجال.

- استراتيجية الحكي.

لقد أفاد النص المسرحي العربي من هذه التوجهات أشياء كثيرة، لعل أبرزها ظهور نسخ عربية للبيرانديلية والبريشتية، وظهور صيغ جديدة في الكتابة كالمرتجلة والتأليف الجماعي للنص، وتحيين التراث العربي ليس باعتباره مضامين أو محتويات وحسب، وإنما باعتباره أشكالا في الكتابة وتقنيات في الحكاية.

وقد حفرت هذه التوجهات وعيا جديدا لدى المسرحيين العرب تمثل في الاعتقاد بإمكانية خلق تلاؤم بين التراث والحداثة، وتجاوز المأزق الذي وضع فيه المسرح العربي من جراء الفهم الخاطئ لقضية التأصيل. وفوق كل ذلك، فالكاتب العربي استطاع أن يتحرر من عقدة التفوق الغربي، وأصبح بإمكانه أن يغني تاريخ الشعريات المسرحية عن طريق مساءلتها أو تعديلها أو إنتاج صيغ جديدة لها، كما سنرى ذلك مع بعض رموز المسرح العربي المعاصر.

1. الميتامسرح في إطـار استراتيجية التنـاص :

لقد اقترن الميتامسرح في الغرب بالتناص Intertextualité، وذلك من خلال تجارب في الكتابة الدرامية حاولت استعادة بعض النصوص السابقة عليها في الزمان، وفي إطار منظورات جمالية محددة تستهدف تقويض تصورات كلاسيكية وتعويضها بأخرى حداثية، كما هو الشأن في نماذج من المحاكاة الساخرة (لنتذكر، مثلا، ما فعله يونسكو ب" ماكبث" شكسبير)، أو تضمين رؤية جديدة عبر استحضار نص آخر، وذلك في إطار صورة " تمنح النص وضع الإنتاجية وليس إعادة الإنتاج " (33).

وقد استطاعت استراتيجية التناص في الغرب أن تخلق للميتامسرح بعضا من ملامحه النقدية والإيديولوجية في آن واحد، مساهمة بذلك في إنتاج تفاعلات بين البنيات الأدبية والفكرية للمسرح الغربي، ترتب عليها ظهور " حوار النصوص" الذي ساهم في إخصاب التجربة المسرحية الغربية إلى جانب " صراع المسارح " الذي وقفنا عليه آنفا.

إذا كان هذا حال المسرح الغربي، فإن المسرح العربي قد أفرز إطارا واضحا لهذا الاقتران بين الميتامسرح والتناص، هو الإطار التجريبي. وبما أن مجال الكتابة الدرامية شكل الأرضية الأساسية للتجريب، فإن استراتيجية التناص انصبت، بالأساس، على محاولة تمثل تقنيات الكتابة الغربية.

لقد انخرط النص العربي مع النص الغربي في ما سماه أحد النقاد العرب بجدلية الإحلال والإزاحة التي تترك " بصماتها على النص .. وهي بصمات هامة توشك معها فاعلية النص " المزاح " ألا تقل في أهميتها وقوة تأثيرها عن فاعلية النص " الحالّ " الذي احتل مكانه أو شغل جزءا من هذا المكان .. لأن النص " الحالّ " قد ينجح في إبعاد النص " المزاح " أو نفيه من الساحة، ولكن لا يتمكن أبدا من الإجهاز عليه كلية أو من إزالة بصماته عليه " (34).

وبالنظر إلى علاقة هذه الجدلية بالنص الدرامي العربي، نلاحظ أنها اتخذت مظهرين أساسيين ينحدران من نظام لعبي واحد، لكن العلاقة المتحكمة فيهما تختلف من مظهر إلى آخر. ويتعلق الأمر باستراتيجيتين تناصيتين هما :

- المعارضة Pastiche التي تقوم على أساس محاكاة Imitation أسلوب في الكتابة، وذلك باتخاذ عمل دارمي ما باعتباره نموذجا ومحاولة تقليده.

- المحاكاة الساخرة Parodie التي تقوم على أساس التحويل Transformation وقلب عمل درامي ما من إطار الجاد إلى إطار الساخر.

وللوقوف عن كثب على هذين المظهرين، سنحاول الاقتراب من نصين يعكسانهما بشكل واضح؛ الأول لعبد الكريم برشيد، وهو نص " عطيل والخيل والبارود " الذي يقوم على محاكاة نص لبيرانديلو هو " ست شخصيات تبحث عن مؤلف "، والثاني لمحمد الماغوط، وهو نص " المهرج " الذي أقامه صاحبه على أساس السخرية من شكسبير Parodier Schakespeare ، وبالخصوص من مسرحيته " عطيل ".

1. 1 - معارضة بيرانديلو : " عطيل والخيل والبارود " لعبد الكريم برشيـد :

إذا كان بيرانديلو قد ساهم في إرساء الأسس المعرفية والجمالية التي قام عليها الميتامسرح في الغرب، فإن المسرحيين العرب، قد اتخذوا من تجربته مطية لترسيخ نوع من الممارسة الميتامسرحية في النص الدرامي العربي بشكل جعلها تخصب هذا النص، وتكسبه تقنيات جديدة في الكتابة والرؤية.

وإذا كان النقد المسرحي العربي لم ينتبه، بشكل بارز، إلى هذا الجانب، إلا أننا لا نعدم، مع ذلك، وجود بعض الدراسات التي وقفت على هذه العلاقة بين بيرانديلو والمسرح العربي، ومنها، على وجه الخصوص، ما أنجزه الدكتور حسن المنيعي حول " أثر بيرانديلو في مسرح توفيق الحكيم "، موضحا هذا الأثر على مستوى تقنيات الكتابة ولاسيما منها تقنية المسرح داخل المسرح، وعلى مستوى الرؤية، حيث بين محاولة الحكيم مسرحة الصراع بين الكينونة والصيرورة وأثره على مسألة التواصل، " على أن هذا الموقف ليس هو العنصر الوحيد الذي يجسد أثر بيرانديلو في مسرح الحكيم، بل هناك عناصر أخرى مثل " المسرح داخل المسرح "و"الإشارات المسرحية" (لنقارن، مثلا، بين التصوير الذي تبدأ به مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف "والتصوير التمهيدي لمسرحية "يا طالـع الشجـرة")"(35).

وإذا كانت هذه المظاهر التي أشار إليها المنيعي تحضر بمستويات مختلفة في كتابة الحكيم، فإنها تتجسد عبر مسرحية " عطيل والخيل والبارود " (1973) لعبد الكريم برشيد في إطار استراتيجية تناصية شاملة واضحة المعالم والأبعاد، لا تقف عند مستوى دون آخر، بل تتخذ من البنيات الحكائية والموضوعاتية والتمسرحية في شموليتها، إطارا لهذا التناص (36).

وواضح أن الفرق بين الإطار التأثري والإطار التناصي قائم بحكم طبيعة الرؤية المستحكمة في كل منهما. لذا، فإن الاقتراب منهما منهجيا يقتضي الوعي بالحدود الفاصلة بين المقارنة والتفاعل النصي، " ذلك أن " التناص" لا " يقارن" بين نصوص عالجت موضوعات متشابهة، أو قامت فيما بينها علاقات تأثر وتأثير مثبتة. فنحن نعرف أن عمل " الأدب المقارن " ينتظم على أساس مقارنة بين نصين : بين نص سابق التحقق تاريخيا، بوصفه النص الأول والأصل وفاعل التأثير في غيره، من جهة، وبين نص لاحق تاريخيا على الأول، بوصفه النص الثاني والنسخة والخاضع للتأثير بالتالي، من جهة ثانية [...] أما " التناص " فإنه يتجنب، بل يقلب تماما هذا الأساس التفاضلي، اللازم في أية عملية " مقارنة "، مطلوبة أو مستترة، إذ إنه يسقط مبدأ المقارنة نفسه، ويجعل من النص المطلوب دراسته بنية بذاتها، وإن تتضمن في عناصرها وعلاقتها ما يشدها إلى نصوص واقعة قبلها وخارجها، والمواد هذه تتحقق في النص - أو يشير إليها تلميحا أو تصريحا - في تراكيب نحوية ودلالية، هي " الوقائع التناصية " (37).

إن الوقائع التناصية تتخذ مظاهر أخرى مرتبطة بطبيعة النص المسرحي، ويتحكم فيها هنا سياق المعارضة Pastiche التي يقيمها نص " عطيل والخيل والبارود " في علاقته بنص " ست شخصيات تبحث عن مؤلف ".

تحكي مسرحية برشيد عن ست شخصيات هي : عطيل، السيد غموض، شهريار، البوهو، رابعة وربيع؛ وهم مجموعة ممثلين قرأوا إعلانا في الجرائد وعلى جدران المدينة يعلن أن إدراة مسرح الضباب ترغب في التعاقد مع ممثلين تعودوا على الأدوار الشريرة، فوقعوا العقد وأتوا إلى المسرح لانتظار المخرج فوق الخشبة. وللتخفيف من وقع الانتظار، دخل الممثلون الستة في لعبة التمثيل داخل التمثيل نشأت على إثرها مشاهد مسرحية اندمج فيها هؤلاء الممثلون بشكل جعلهم يتنكرون للمخرج عند وصوله. فكل واحد منهم رأى فيه شخصية متصلة بمساره الخاص، فعطيل رأى فيه ياجو، والبوهو رأى فيه يهوذا وشهريار رأى فيه المخرج الذي صنع شهريار الجديد. لذا، اعتقلوه ووضعوه في قفص من أجل محاكمته.

إن عملية التمثيل المضاعف جعلت المخرج يفاجأ، ويختلط عليه الوهم والحقيقة، ويكشف عن نفسه، ويحاول دفعهم إلى نسيان أدوارهم القديمة معبرا عن اقتناعه بكفاءتهم في التمثيل. لذا، فعندما سئل عن النص، أعلن أنه لا يملك نصا جاهزا بل مشروعا فقط، وأنخه يريد تمثيلا يقوم على الارتجال، مما سيتيح المجال، مرة أخرى، للعبة التمثيل داخل التمثيل كي توقع الممثلين في أسرها ويبلغ اختلاط الحقيقة بالتمثيل أقصى درجاته. وقد تجسد ذلك في ما قام به عطيل الذي رأى في المخرج عدوه ياجو (مسرحية برشيد تحيلنا على " عطيل " شكسبير) فخنقه بشكل أدى إلى موته ليصبح التمثيل حقيقة :

" رابعــة : انظر يا ربيع .. إنه يخنقه ..

ربيــع : اطمئني يا امرأة .. الممثلون يموتون أكثر من مرة ..

رابعــة : لقد اختلط كل شيء وما عدنا نميز بين التمثيل والواقع"(38).

إن حكاية المسرحية تقدم لنا واقعة تناصية أولى يجسدها نص برشيد في علاقته بنص بيرانديلو. فإذا كان هذا الأخير يروي قصة عائلة مكونة من ست شخصيات تبحث لنفسها عن مؤلف يكتب دراما حياتها، فإن برشيد يقدم لنا ست شخصيات تبحث عن مخرج لكي تعمل معه. وإذا كانت شخصيات بيرانديلو قد خرجت إلى الوجود من " الواقع المتخيل " لهذا المبدع، كما شرحنا ذلك آنفا، فإن شخصيات برشيد انحدر بعضها من متخيل مسرحي (عطيل الشكسبيري) أو فرجوي (البوهو من فرجة البساط)، كما انحدر بعضها الآخر من الواقع (واقع الممثلين الذين يعيشون البطالة).

علاوة على هذا، فمسرحية " عطيل والخيل والبارود " - شأنها شأن مسرحية بيرانديلو - تقيم متخيلها على أساس لعبة التمثيل داخل التمثيل التي ينشأ عنها اختلاط الوهم بالحقيقة والتباس اللعب بالواقع. إن هذه اللعبة تضعنا إزاء مستويين في التمثيل وفي الحكاية يتداخلان ويندمج أحدهما في الآخر :

- مستوى الحكاية من الدرجة الأولى، أو الحكاية - القاعدة، وهي حكاية الممثلين الذين أتوا إلى مسرح الضباب من أجل العمل في التمثيل، بعد قراءة الإعلان في الجرائد.

- مستوى الحكايات من الدرجة الثانية، أو الحكايات المضاعفة المتصلة بشخصيات المسرحية والتي تم تشخيصها عبرلعبة التمثيل داخل التمثيل.

والملاحظ أن الحكي في المسرحية يقوم على أساس المزج بين المستويين بشكل متتابع ومتداخل ومتناوب دون أن يجسد ذلك ظاهريا عبر تقطيع نصي صريح، مما يجعلنا نفهم أن هذا التداخل الحكائي اتخذ مطية لبلورة نوع من التمسرح المضاعف، كما هو الشأن عند بيرانديلو.

وبما أن لهذا التمسرح المضاعف وظائف جمالية ومعرفية محددة لدى الكاتب الإيطالي، فإن برشيد حاول أن يستوحيها وذلك باستحضار مختلف الإجراءات الميتامسرحية التي يقوم عليها نص " ست شخصيات تبحث عن مؤلف " موضوعاتيا وشكليا، لكن بتضمينها رؤية متميزة، هي ما يمكن أن نطلق عليه هنا : الرؤية الاحتفالية.

تستعيد مسرحية برشيد، موضوعاتيا، قضية مركزية في المتخيل البيرانديلي هي ثنائية الحياة / التمثيل أو الحقيقة / الوهم. فعلى أساس الالتباس بينهما، تقوم الأفعال الدرامية في المسرحية، بحيث نلاحظ أن الشخصيات لا تتوقف عن لعبة التحول بشكل يذوب معه مفهوم الشخصية نفسه، وأن مستويات اللعب تتداخل بكيفية يتعذر معها التمييز بين الواقعي والمتخيل، مما يجعلنا ننظر إلى النص ككل باعتباره تجسيدا للمقولة الشكسبيرية الشهيرة التي ترى أن " العالم مسرح "، خصوصا، وأن خطاب الممثلين أنفسهم يحاول إبلاغ هذا التصور للمخرج :

" البوهـــو : أنت مخرج ولكنك تجهلنا ..

ربيــــع : ... تجهل كفاءاتنا ...

س غموض : ... ومواهبنا ..

شهريــار : فكان لابد أن نستعرض عليك مشاهد مسرحية ..

المخــرج : شيء معقول ... (لعطيل) إذا أنت لست عطيل ؟ ..

عطيـــــــل : أنا عطيل

المخـــــرج : في التمثيل فقط ...

عطيــــــل : وهل الحياة إلا التمثيل ؟ " (39).

إن الهدف من تأكيد هذه المقولة هو إضفاء النسبية على مفهوم الواقع، وذلك من خلال أحداث متحولة باستمرار، وشخصيات تتخذ لبوسا جديدا كل مرة، وتحيى، بالتالي، حياة متغيرة شأنها شأن الممثلين في المسرح، مما يقرب المسافة ويجسر الهوة الفاصلة بين الحقيقة والخيال. هذا المنظور النسبي الذي شكل القاعدة الفلسفية للميتامسرح البيرانديلي، اتخذه برشيد أيضا، ليس من أجل إعادة إنتاجه كما هو، وإنما من أجل اعتماده في رؤية احتفالية سنكشف عن ملامحها من خلال التحليل.

وإذا كانت موضوعة الحقيقة والوهم قد أضفت بعدا فلسفيا على النص، فإن برشيد لم يتوان عن ملامسة موضوعات ذات بعد أدبي وفني متصلة بالمسرح نفسه. لقد وقفت المسرحية على قضايا حاسمة منها : وضعية الممثل، وظيفة المخرج، مفهوم الصراع ومفهوم الارتجال في المسرح.

إن قضية الممثل التي طرحت بحدة منذ فجر المسرح العربي، كما رأينا ذلك مع يعقوب صنوع، تطرح في مسرحية برشيد بشكل آخر. فعلاوة على المعاناة المادية التي سببها البطالة، هناك معاناة أخرى أشد قسوة هي المعاناة النفسية :

" ربيـــع : رابعة. لقد مللت الرحيل عبر المسارح، مللت الأضواء والأصباغ .. ما أتعس أن تكون ممثلا تطرق الأبواب في رفق وحياء وتسأل المديرين والمخرجين عمرا فنيا ..

رابعـــة : .. نرحل دوما وفي القلب أماني بكر. نرحل وفي العين أزهر شوق أخضر.

ربيـــع : أنا شاعر وكاتب وممثل ...

رابعـــة : .. ولكنك عاطل ...

ربيــــع : .. لسوء حظي، وأنت ؟

رابعـــة : رفيقة في الفقر والشؤم والبطالة " (40).

يسلط هذا الحوار الضوء على الوضعية الصعبة للممثل الذي لا يمتلك وضعية مهنية قارة، ويعيش الفقر والبطالة. وإذا كانت هذه المعاناة تجسد المظهر الاجتماعي لواقع الممثل، فإن هناك واقعا يتصل بطبيعة مهنته، أكثر قسوة وأشد وقعا على كيانه النفسي يتمثل في نظرة المخرجين إليه باعتباره إنسانا فارغا من الداخل، مجردا من كل الإنتماءات، عاريا من كل شيء؛ وذلك حتى يتمكنوا من إعادة خلقه من جديد.

لهذا، فالمسرحية تقوم بالربط بين قضية الممثل وقضية المخرج، وتجعلنا، بالتالي، أمام " صورة مخرج شيطاني يريد توريط الممثلين في لعبة جهنمية " (41). ويبدو واضحا أن هذا المخرج الشيطاني يفرض إكراهاته الفنية والنفسية على الممثلين عندما يدعو إلى التجرد من كل الانتماءات :

" المخــــرج : ... لابد أن تنسلخوا من ذواتكم.

س غموض : ننسلخ

المخــــرج : وأن تتخلوا عن ماضيكم

البوهــــو : نتخلى

المخــــرج : ... وعن قوميتكم وكل الانتماءات كيفما كانت. أريدكم أن تتعــروا"(42).

إن المسرحية تتخذ من ملامسة وظيفة المخرج مطية لإبراز صورته اللاإنسانية، لأنه يريد تحويل الممثل إلى كائن ليس له أي انتماء ذاتيا كان أو جماعيا، زمانيا كان أو مكانيا، أي يريد تجريده من صفة " إنسان ". من ثم، يمكن القول إن مفهوم الإخراج في مسرحية برشيد ليس مطروقا باعتباره قضية فنية صرفة، وإنما باعتباره قضية إيديولوجية تعكس مفهوما خاصا عن الإنسان.

ولعل ما يزكي هذا الاستنتاج هو كيفية تعامل المسرحية مع موضوعة الصراع في المسرح. فملامح الصراع كما حددها المخرج تعكس البعد الشيطاني في شخصيته، لاسيما وأنه يجعل طرفيه الأساسيين هما : الإنسان والمخلوق الغريب الذي يهوى اصطياد البشر:

" المخرج : ألا فاعلموا إذا أنني أنا من سيعود بالمسرح إلى أمجاده الوردية، أنا مـن سيرفع من قدر الصراع. رحم الله أيام زمان. لقد كان الإنسان عملاقا ماردا يحارب الأقدار، يحارب الغيب، يحارب المجهول. كان الممثلون أنصاف آلهة لم يكونوا من الناس الذين يصيبهم الزكام. لم يكونوا ممن تتغذى الأوساخ من أجسادهم الهزيلة. سأعـيد إليكـم قاماتـكم العملاقـة وأقنعـتكم التي تضخم الأصوات سأدخلكم الحلبة وأجعلكم تحاربون مخلوقا غريبا .. " (43).

إن هذا المخلوق الغريب يجسد الحقيقة الخفية للمخرج باعتباره رمزا لكل ماهو ضد - إنساني. لذا، فهو يشبه في النص بالغراب والبوم والجراد والأسد، أي بكل الحيوانات التي تقوم حياتها على الاصطياد والافتراس.

وإذا كانت موضوعة الحياة والتمثيل قد جعلت النص ينخرط في حوار فلسفي، وإذا كانت قضية العلاقة بين المخرج والممثل قد أفصحت عن بعده الإيديولوجي؛ فإن موضوعة الارتجال سوف تعيد النص إلى ذاته، أي إلى قضيته الأدبية الخالصة، وبالتالي إلى لعبة المرايا الداخلية، لنكتشف، من خلالها، بعض ملامح ما يسمى بالكتابة الاحتفالية التي تتمرد على النص الجاهز وتتعامل مع الارتجال بصيغة مميزة:

" المخرج: أنا لا أملك نصا جاهزا. كل ما بين يدي مشروع فقط. خطوط تحتاج إلى تلوين وهيكل ينتظر أن يكسى لحما ودما .. سألقي بكم داخل الحلبة (يدفعهم داخل الحلبة) هيا ادخلوها. ادخلوا ثم انتظروا الدقات الثلاث (تسمع مـن الخارج دقات ثلاث) " (44).

إن صيغة المشروع أو الخطوط التي يلح عليها المخرج تجعلنا نفهم أن النص يبنى عن طريق الارتجال فوق الخشبة، لاسيما وأنه يدفع الممثلين إليها ويعلن توا عن البداية. وتذكرنا هذه الطريقة بالارتجال القائم على ما يسمى بالخطاطة Canevas، كما هو الشأن في الكوميديا المرتجلة. ولعل هذه العلاقة بين مفهوم الارتجال الاحتفالي والكوميديا المرتجلة هي التي يؤكدها المنيعي قائلا : " وبما أن الاحتفالية ترى " أن الحفل المسرحي هو مناسبة من أجل الإخراج عما بالداخل وترجمته إلى فعل وحركات وأصوات "، فإن مسرحية عطيل - كاحتفال مسرحي - توازي في هذا الموقف الكوميديا المرتجلة التي كانت تلجأ إلى الضحك واللعب المقنع لتفجير باطنية الإنسان المسحوق والتأكيد على مشاكله "(45).

هناك، إذن، مزج بين ثلاثة أنماط من الموضوعات في المسرحية : فلسفية، إيديولوجية وأدبية، يتقاطع بعضها مع الموضوعات البيرانديلية، في حين يتشكل البعض الآخر من إفرازات متخيل نص برشيد ورؤيته الاحتفالية للإنسان والعالم.

ولا يوازي هذه التعددية الموضوعاتية، من الناحية الشكلية، إلا تعدد المصادر التناصية. فمن المعلوم " أن التناص يستمد مواده من مصادر متباينة، منها ما يتشكل عفوا أو عمدا في " الذاكرة " بفعل الدراسة والقراءة، أي في المخزون الشخصي، الواعي واللاواعي؛ ومنها ما يتشكل بفعل معايشة " ظروف حوارية " معينة؛ ومنها ما يتشكل عند التنصيص نفسه، ويمكن تسميته : " التقميش " أيضا"(46).

ونظرا لاستحكام رؤية احتفالية في نص برشيد، فإن مصادره التناصية التي يقيم عليها متخيل مسرحيته هي، في الغالب، مصادر طوعية أو اختيارية (47) تنهل من التراث الحكائي العربي (ألف ليلة وليلة) وأشكال الفرجة الشعبية (البساط)، مثلما تستحضر الذاكرة المسرحية العالمية (شكسبير).

لكن الملاحظ أن هذه المصادر التناصية لم تشكل، في الواقع، سوى مواد خام لاستراتيجية تناصية شمولية تقوم على معارضة نص برشيد لنص بيرانديلو، ولرؤية احتفالية تحقق ما يسمى ب" الزمن الاحتفالي" القائم على تعايش وانصهار أزمنة مختلفة داخل زمن واحد (تعايش شهريار، عطيل والبوهو في المسرحية).

إن تفجير الزمن في مسرحية " عطيل والخيل والبارود" يوازيه تفجير على مستوى بنية النوع. فمن الصعب وضع نص كهذا داخل إحدى خانات شعرية الأنواع الدرامية التي أقامها أرسطو، لاسيما وأنه مزيج من السخرية السوداء واللعب المقنع والمشاعر المأساوية، أي تركيب كيميائي لمجموعة من الحالات المختلفة.

إن برشيد وفي في كتابة النص لحس تجريبي يمزج بين الكوميدي والتراجيدي، لكن ليس بطريقة التراجيكوميديا، وإنما بالطريقة المميزة لبيرانديلو نفسه الذي يقيم متخيله المسرحي على الانقلاب الدائم للمصائر التراجيدية إلى مصائر كوميدية، أو العكس. فمن جوف اللعب المسرحي (عطيل يحاول خنق المخرج) تتفجر المأساة (يموت المخرج حقيقة). لهذا، فإذا كان الميتامسرح عند بيرانديلو يقوم على المفارقات، فإن هذا الطابع المفارق Aspect pardoxal هو الذي يدمغ مسرحية برشيد، ويجعل بنيتها النوعية بنية مفتوحة على كل الاحتمالات.

وعليه، فإن مسرحية "عطيل والخيل والبارود " بهذه المواصفات، تعد بمثابة لبنة أولية لتأسيس ما يمكن أن نطلق عليه " الشعرية الاحتفالية "، لاسيما وأن السياق الزمني الذي كتبت فيه - وهو منتصف السبعينات - هو الذي أعلن فيه عن ميلاد "جماعة المسرح الاحتفالي " وخروج بيانها الأول إلى الوجود، والذي حددت فيه المنطلقات النظرية والفكرية والجمالية للمسرح الاحتفالي.

صحيح أن الشعرية الاحتفالية توسلت في نص " عطيل والخيل والبارود " بمقتضيات جمالية مصدرها إحدى الشعريات المسرحية الغربية، لكن هذا أمر مفهوم بالنظر إلى الخلفية التناصية المستحكمة في التجريب المسرحي العربي. وفوق كل ذلك، فبرشيد حسم فيها، على الأقل، ما يتعلق بالأساس الإيديولوجي الذي تقوم عليه هذه الشعرية من خلال ترجمتها للنظرة الاحتفالية إلى الإنسان.

وقد تم تبئير هذه النظرة، نصيا، على شخصية المخرج الذي اعتبر رمزا لكل الآلام والمعاناة الإنسانية. يخاطبه السيد غموض قائلا :

" س غموض : .. أنت روح الشر في كل مكان " (48).

لهذا، فإن مصير القتل الذي لقيه على يد عطيل، كان تعبيرا عن موقف إنساني من كائن شيطاني تؤكد كل مواقفه بأنه ضد حيوية الحياة، وضد إنسانية الإنسان، وضد مدنية المدينة. ونحن نعلم أن هذا الثالوث هو أس الإيديولوجية الاحتفالية، كما يؤكد ذلك برشيد نفسه قائلا : " وقد حددت البيانات أهداف الاحتفالية كالتالي :

- إنسانية الإنسان.

- حيوية الحياة.

- ومدنية المدينة.

أي غياب الوحش في الإنسان، وغياب الآلي في الحيوي، وغياب الغاب في المدينة. وهذا ما لا يمكن أن يتوفر إلا بإيجاد مجتمع احتفالي يقوم على إقصاء كل قوى الموت والتراجع إلى الخلف " (49).

يستخلص مما سبق، أن الميتامسرح في نص " عطيل والخيل والبارود " يقوم على أساس معارضة مسرحية " ست شخصيات تبحث عن مؤلف ". ولقد وجهت هذه المعارضة برشيد نحو استيحاء موضوعات وبنيات درامية تتصل بما أسميناه سلفا "ميتامسرح المفارقات". إلا أن هذا الاستيحاء الذي يعكس تجاوبا واضحا بين النص الدرامي العربي والشعرية الغربية، تحكمه رؤية مميزة تقوم على تأسيس ما يسمى بالمجتمع الاحتفالي.

1. 2 - السخرية من شكسبير : " المهرج " لمحمد الماغوط :

كتب محمد الماغوط مسرحية " المهرج " في بداية السبعينات، أي عقب الحدث التاريخي الذي هز كيان الأمة العربية، وخلخل بنياتها الفكرية والسياسية والاجتماعية، ألا وهو هزيمة يونيو 1967.

لقد طبع هذا الحدث الكتابة المسرحية العربية بميزات خاصة، لعل أبرزها خلخلة مفهوم الكتابة في حد ذاته. فأغلب المسرحيين اقتنعوا بأن العرب دخلوا زمنا جديدا : هو زمن التساؤل والتشكيك في السائد وإعادة النظر في ما تكرس من أفكار ومواضعات في مجالات الفكر والسياسة والثقافة. وعليه، تحول النص المسرحي أيضا إلى مختبر لتجريب صيغ فنية جديدة تلائم طبيعة التحول الذي طبع المرحلة.

لقد اقتنع محمد الماغوط أن الأسلوب الملائم لمرحلة الاهتزاز السياسي والثقافي هو السخرية. لهذا، كتب مسرحية " المهرج " بهذه الخلفية. ومادام الأمر يتعلق بإحباط سياسي، أساسا، فإن هذه السخرية اكتست لديه طابعا سياسيا.

ولتصريف هذه السخرية السياسية مسرحيا، لجأ الماغوط إلى كتابة نص محاكاتي ساخرTexte parodique، هو نص " المهرج " الذي أقامه على استراتيجية تناصية واعية بمنطلقاتها الجمالية وأبعادها الإيديولوجية في آن واحد.

لقد وجد الماغوط ضالته في استحضار نص شكسبيري شهير هو " عطيل "، حيث اشتغل عليه بفكر وقح Esprit Tendancieux - بعبارة فرويد - وحاول أن يعيد النظر في البناء والوظيفة معا. ولتجسيد هذا الفكر، تم اللجوء إلى السخرية التي تعد " أساسية في اشتغال المحاكاة الساخرة والهجاء " (50). والملاحظ أن الماغوط ركز على المظهر اللغوي في تحقيق هذه السخرية، أي على ما يسميه برغسون Bergson ب " كوميك الكلمات "، ويسميه البعض بالتحريف الأسلوبي Distorsion Stylistique (51).

إن هذا المنزع المحاكاتي الساخر في مسرحية الماغوط يتخذ، في الواقع، وسيلة لهدم طرق محددة في التشخيص وصيغ معينة في المسرحة من أجل بناء أخرى. ذلك أن ثنائية الهدم والبناء تدخل في صلب المواجهة التي تخلقها المحاكاة الساخرة بين نص سابق وآخر لاحق.

في هذا الإطار، يمكن القول إن مسرحية الماغوط تحاول، في العمق، رسم ملامح شعرية الدراما التاريخية، وذلك وفق مبادئ محددة تستعيد - ضمنيا - النقاش الذي أرسى دعائمه أرسطو بخصوص العلاقة بين الحقيقة التاريخية والمسرح، وبالتالي العلاقة بين مبدأين محاكاتيين أساسيين هما : الحقيقي Véridique والمحتمل Vraisemblable. لهذا، فإن استحضار شكسبير من خلال إحدى تراجيدياته الشهيرة، هو بمثابة مطية لإعادة التفكير في كيفية مسرحة التاريخ، وبالتالي في المبادئ الأساسية للشعرية الكلاسيكية التي تحكمت في نوع درامي أساسي هو " الدراما التاريخية ".

تضعنا، إذن، مسرحية " المهرج " أمام مستويين ميتامسرحيين يتعين تحليل الكيفية التي تم بها تشخيصهما حكائيا، موضوعاتيا ورؤيويا في النص، وهما :

- مستوى تناصي، محاكاتي ساخر، يقوم على الهدم والبناء.

- مستوى شعري (نسبة إلى الشعرية) يقوم على تضمين مبادئ أساسية للدراما التاريخية.

يتحكم المستوى الأول في الفصل الأول من المسرحية، في حين يتم تجسيد المستوى الثاني من خلال الفصلين المواليين، الثاني والثالث.

تروي مسرحية " المهرج " قصة فرقة مسرحية جوالة تتخذ من إحدى المقاهي مكانا للعرض، محاولة تقديم مشاهد مسرحية للزبائن الذين يرتادون المقهى. وقد سطرت من أجل ذلك برنامجا مسرحيا يتضمن ثلاثة فصول؛ أولها " فصل الغيرة " وهو مستوحى من " عطيل " شكسبير، ثم " فصل العدالة " ويتعلق بهارون الرشيد، علاوة على " فصل الشجاعة " الذي يستحضر صقر قريش.

ولعل ما يستأثر بالاهتمام هنا، هو كون بنية الحكاية في المسرحية تقوم على تركيب فصول هي عبارة عن حكايات صغرى يتم الربط بينها بواسطة تقنية الراوي، حيث يقوم قارع الطبل في المسرحية بتقديم المشاهد وسرد ما يتصل بها من أحداث.

فالمسرحية تقوم، منذ البدء، بكشف اللعبة المسرحية وبنائها على مرأى ومسمع من جمهورها، وذلك بارتجال مشاهدها في فضاء المقهى، حيث يتداخل الواقعي بالمتخيل، ونجد بالتالي، قارع الطبل يرحب بالزبائن ويطلب لهم كراسي للجلوس بموازاة تقديمه للفرجة المسرحية.

إن انكشاف اللعبة المسرحية يساعد الجمهور على أخذ موقعه بشكل يسمح له بالتفاعل واتخاذ المواقف الملائمة. وهكذا، نلاحظ أن الجمهور المكون من زبائن المقهى يبدي ردود فعل مختلفة تتراوح بين التصفيق، الاحتجاج، الاستنكار والتعليق على الأحداث. كل هذا يجعلنا أما مسرحية قائمة على أساس تغريبي في الإنتاج (التركيب الحكائي) والتلقي (خلق المسافة بين الفرجة والمتفرج) في آن واحد.

بموازاة ذلك، تقوم مسرحية " المهرج " على مسرحة التاريخ، وذلك من خلال منظور " يخلق توازنا بين التاريخ و" فانتازية " الكتابة الساخرة مع تغليب الجانب الثاني حتى يصبح التاريخ مجرد قناع أو ذريعة لطرح فكرة مأساوية " (52). ويتضح هذا البعد، جليا، في المستوى التناصي من المسرحية.

فهي تستحضر فصلا من مسرحية " عطيل" لشكسبير، وهو الفصل الذي اعتقد فيه عطيل أنه اكتشف خيانة دزدمونة له من خلال حكاية المنديل. لكن هذا الاستحضار يتم - عند الماغوط - بطريقة أخرى كشف عنها قارع الطبل، نفهم منها أن الأمر لا يتعلق بعملية محاكاة لشكسبير، وإنما بعملية تحويل له :

" قارع الطبل : ... ويسرنا بهذه المناسبة أن نبدأ برنامجنا لهذا اليوم بواحد من أعظم كتاب المسرح في العالم ألا وهو شكسبير وبمسرحية من أعظم المسرحيات في العالم ألا وهي مسرحية عطيل (تصفيق) وسوف تشاهدون هذه المسرحية بحلة جديدة مشعة وأسلوب لم يطرق من قبل أبدا. كل ذلك بفضل نخبة من الشباب المتمرد الطليعي الثائر (الممثلون ينحنون للجمهور) " (53).

يتعلق الأمر، إذن، بمسرحية "عطيل" ليس كما صاغها شكسبير، وإنما بصيغة أخرى، أي " حلة جديدة مشعة وأسلوب لم يطرق أبدا " كما قال قارع الطبل. إن هذه الحلة وهذا الأسلوب هما، في الواقع، إشارة صريحة إلى إجراءين تحويليين أساسيين يتصلان بالمحاكاة الساخرة، وهما : التحويل اللعبي Transformation Ludique الذي يقوم على أساس إزالة طابع النبل المميز للموضوع في نصه الأصلي الأول وإضفاء طابع الابتذال عليه، ثم التحويل الهجائي Transformation Satirique الذي يعمل على تكسير الأسلوب الجاد للمسرحية الأصلية وتعويضه بأسلوب مثير للسخرية والضحك.

من المعلوم أن الصراع التراجيدي الذي تقوم عليه مسرحية " عطيل " لشكسبير يتجسد من خلال انشطار عطيل بين الشرف من جهة، والحب من جهة أخرى. وفصل الغيرة في مسرحية شكسبير هو تشخيص للذروة التي بلغها هذا الصراع، لأنه وضع عطيل أمام محك حقيقي لكي يختار موقفا صارما، إما يجعله ينصاع لنداء أعماقه ويقبل الإهانة التي لحقت به، أو يقوم بالدفاع عن شرفه والانتقام من دزدمونة التي يفترض أنها خانته. وباختصار، فموضوع المسرحية هو صراع قيم نبيلة ( الشرف والحب)، دار في أجواء تراجيدية صاغها شكسبير، كعادته، بأسلوب شاعري ورؤية إنسانية منقطعة النظير.

إلا أن حضور عطيل في مسرحية " المهرج " سوف يتخذ مظهرا آخر ينسجم والطابع الساخر المميز لها. فالماغوط ركز على شخصية عطيل باعتبارها شخصية تاريخية بطولية تنتمي إلى الذاكرة المغربية والعربية. لذا، فقضية الغيرة لم تعد قضية ذاتية تتصل بعطيل وحده، مما يعني إفراغ الصراع التراجيدي من محتواه النفسي الداخلي، وإنما هي قضية جماعية سياسية تتعلق بمصير أمة بكاملها :

" قارع الطبل : ... ولأن وقتنا من ذهب فلن نقدم المسرحية بكاملها، بل سنكتفي بفصل واحد منها، وهو الفصل المتعلق بالغيرة (الممثلون يصفقون) لأن الغيرة أيها الإخوة من أهم الأخطار التي تواجه أمتنا في الظروف المصيرية الراهنة .. " (54).

إن المسرحية حولت اتجاه قضية الغيرة لتعتبرها سببا في تخاذل عطيل وعدم قيامه بواجبه كبطل عربي، في مواجهة أعداء الأمة. من هنا، نفهم ذلك الانتقال المفاجئ في مسرحية الماغوط من أجواء الغيرة إلى أجواء الإدانة السياسية، وبالتالي، من المناخ التراجيدي إلى المناخ الساخر الذي يحول الإدانة من الشخصية (عطيل) إلى الكاتب نفسه (شكسبير). فهذا الأخير سوف يصبح كاتبا استعماريا له علاقة ببريطانيا وأمريكا والحلف الأطلسي، أي بكل رموز الاستعمار والتسلط في العالم المعاصر :

" قارع الطبل : ولكن من المسؤول عن المصير المؤلم الذي لقيه هذا البطل المغربي الشجاع ؟ من دمر حياته وحرمه من بيته وزوجته وطمأنينته ؟

زبـــون : شكسبير .. شكسبير

زبـــون : يسقط الكاتب الاستعماري شكسبير

أصـــوات : يسقط. يسقط. يسقط "(55).

إن مناخ السخرية السياسية الذي أصبح يؤطر الفعل التراجيدي الشكسبيري فرض بالضرورة أسلوبا يلائمه. فالحوار الدائر بين المهرج في دور عطيل، والممثل الأول في دور كاسيو، يعكس، بشكل واضح، أن اللغة الشعرية الشكسبيرية لم تعد تفي بالغرض. لذا، تم تعويضها بلغة ساخرة تعكسها فلتة اللسان Lapsus (ذكر نابولي عوض البندقية في حوار المهرج)، والتشبيهات التي تضفي الابتذال على الموقف (تشير إحدى الإرشادات المسرحية إلى أن عطيل " يخطف المنديل ويشمه ككلاب الأثر ")، وردود الفعل التي تمزج بين سخرية الكلمة والحركة (موقف العطس).

وإذا كانت مسرحية " المهرج " تقوم بتحويل مزدوج : لعبي وهجائي لمسرحية "عطيل"، فإن استعمالها لهذه الاستراتيجية التناصية ليس مجرد حذلقة شكلية، وإنما هو ترجمة لرؤية فنية وإيديولوجية تقوم على تقويض شعرية تاريخية وبناء أخرى مكانها.

إن مسرحة التاريخ عند الماغوط تتميز ببعدين أساسيين : بعد شعري يتصل بصياغة منظور خاص حول كيفية حضور التاريخ داخل المتخيل المسرحي وفق مبادئ محددة، وبعد إيديولوجي يتجلى في ارتباط المسرحية بزمنها، أي بعيد هزيمة يونيو1967.

فبخصوص البعد الشعري، يلاحظ أن المسرحية - بعد الانتهاء من مرحلة التقويض والنقد والسخرية من طريقة تشخيص شكسبير لبطل عربي، تقوم على ضرب مبدأ الحقيقة (تشير المسرحية إلى أن أرض المغرب التي أعطت الشهيد المهدي بن بركة لا يمكن أن تعطي عطيل بهذه المواصفات أي بمواصفات بطل يشغله عشقه عن قضيته القومية) - تبدأ مرحلة البناء النظري الضمني المتعلق بكيفية حضور التاريخ في النص المسرحي العربي. فبعد انتهاء فصل الغيرة، يعلن قارع الطبل :

" قارع الطبل : [...] لن نستسلم ولن نيأس مادام تاريخنا غنيا بالبطولات والمكارم زاخرا بالقيم والمعاني. ويسر فرقة المسرح الجوال المناضلة من أجل أهدافه وأمانيه أن تقدم لجمهورها الواعي المثقف صفحة حية من تاريخنا المجيد .. فعطيل ليس البطل الوحيد في تاريخنا .. فحيثما قلبنا صفحات ذلك التاريخ.. نجد البطولات تزحم البطولات،والقائد يزحم القائد..."(56).

في هذا السياق تستحضر المسرحية صفحتين متناقضتين من التاريخ العربي تتصلان بشخصيتين مختلفتين هما : هارون الرشيد وصقر قريش. وقد اختلفت ردود فعل الجمهور إزاء طريقة مسرحتهما. فتشخيص هارون الرشيد أثار التصفيق والتهليل، في حين أن تشخيص قريش أثار احتجاجات جسدها الصفير والاستنكار:

" زبائن : (وسط التصفير وصيحات الاستنكار) هذا تزوير للتاريخ " (57).

إن احتجاج الجمهور على الكيفية التي مسرح بها صقر قريش (رجل يلبس كوفية وعقالا فوق البنطلون، يبالغ في التقطيب والتشنج، حذاؤه مثقوب، لا يعرف أن شهر أيلول هو سبتمبر، عاشق نساء؛ هكذا تصفه الإرشادات المسرحية) يعكس في العمق انتقادا لإخلال المسرحية بمبدأين أساسيين في محاكاة التاريخ هما : الحقيقي والمحتمل.

فليس من قبيل الصدفة أن تقيم المسرحية استراتيجيتها التقويضية على أساس دراما تاريخية شكسبيرية هي " عطيل "، لاسيما وأن شكسبير يجسد نموذجا لطريقة مميزة في تمثيل التاريخ مسرحيا لأجل إرساء قيم سياسية لها علاقة بالهوية القومية والحس الوطني(58). وليس غريبا أن تنهض استراتيجية البناء على أساس تقديم التاريخ العربي بطريقتين مختلفتين : الأولى جسدت مبدأ الحقيقة (هارون الرشيد المتسلط والفصامي) واستحسنها الجمهور لأنها جاءت مطابقة لأفق انتظاره، وعكست بالتالي مبدأ الاحتمال أيضا. والثانية ابتعدت عن الحقيقة ولم تستطع تحقيق قوة الإقناع (المقنع Persuatif له علاقة بالحقيقي والمحتمل في نظر أرسطو)، لأنها قدمت صقر قريش في صورة مبتذلة أثارت الاستنكار والرفض من لدن الجمهور.

إن مواقف الجمهور في مسرحية " المهرج " هي القاعدة التي تقوم عليها شعرية الدراما التاريخية كما أرادها الماغوط. وهي تعكس، بشكل بارز، تمثل هذا الأخير للشعرية الكلاسيكية ومحاولة استعادة مبادئها الأساسية، في النص، وترسيخها كمبادئ أساسية لمسرحة التاريخ العربي.

من ثم، يمكن اعتبار مسرحية " المهرج" إسهاما عربيا في التراكم النظري المرتبط بعلاقة المسرح بالتاريخ، والذي وضع لبنته الأولى أرسطو واستعادته النظريات الكلاسيكية والرومانسية فيما بعد. فقد طرح سؤال أساسي في هذا السياق، هو: " ما الذي يميز المسرح عن عملية التأريخ L'Historiographie ؟ أين يكمن جانب الإبداع والخلق والشعر الذي يسمح للعبقرية أن تثبت نفسها ؟ الجواب هو أن المؤرخ ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار الأحداث كما هي مثبتة في الوثائق. أما المسرحي فيحاول أن يجد خلف هذه الأحداث، الأحاسيس والمحفزات والعواطف والسلوكات التي جعلتها ممكنة الوقوع. صحيح أن هنالك هامشا للشك وللمجهول أيضا، هو مجال الإلهام والحرية الإبداعيين"(59).

ومما لاشك فيه، أن أرسطو تعامل مع العلاقة بين المسرح والتاريخ بهذا المنظور، محددا مبادئ أساسية لها هي : الحقيقي، المحتمل والمقنع. فما هو حقيقي هو ما يمكن وقوعه فعلا، وحتى تصبح له قوة الإقناع عليه أن يحقق مطلب الاحتمال، ويصبح بالتالي مطابقا لأفق انتظار المتفرج، أي لما تعتبره جماعة ما ممكنا في زمن ما.

لهذا، فتقديم صقر قريش باعتباره بطلا مبتذلا في مظهره وسلوكه ولغته، لا يقنع الجمهور المكون من الزبائن، لأنه يجافي الحقيقة ولا يعكس الصورة التي يحملها عن هذا البطل. وعليه، عمدت مسرحية " المهرج " إلى إعادة بناء الصورة التاريخية لصقر قريش بشكل يراعي المبادئ الأساسية للدراما التاريخية من جهة، ويعكس رؤية محينة للكاتب إزاء ماضي أمته وحاضرها في آن واحد.

إن الفصلين الثاني والثالث من المسرحية يمضيان في هذا الاتجاه التصحيحي: تصحيح المشهد المسرحي السابق الذي يرسم صورة مبتذلة لصقر قريش، وتصحيح التاريخ في آن واحد. وقد تحقق المطلب الأول عن طريق استحضار الإنجازات البطولية لصقر قريش، كما تحقق المطلب الثاني بخلق تداخل بديع بين الماضي والحاضر بشكل حول صقر قريش إلى شخصية عربية معاصرة تعايش الزمن العربي الرديء، أي زمن التخلف والهزيمة الذي فقدت فيه أرض فلسطين العربية، وتحاول شحذ الهمم والقيام بدورها التاريخي من أجل استعادة ما ضاع، إلا أنها سوف تصطدم بالمؤامرات والخيانات العربية التي ستؤدي إلى محاكمتها باعتبارها شخصية إرهابية.

وهنا تنفتح الشعرية التي يقيمها الماغوط في نص" المهرج " على سياقها التاريخي، لتجعلنا نقف، عن كثب، على الأبعاد الإيديولوجية للممارسة الميتامسرحية القائمة على استراتيجية التناص.

فلا مناص من التذكيرهنا، بأن المسرحية كتبت في بداية السبعينات، وأنها أقامت متخيلها على التاريخ. لذا، " فإن أي حديث عن التاريخ في علاقته بالمسرح العربي لا يمكن أن تكتمل جوانبه إلا إذا قمنا بعملية مسح للظروف الحضارية والسياسية والفكرية التي تحكمت في مسار المسرح العربي، خصوصا إذا علمنا أن الدراميين العرب قد لجأوا - في الغالب وعلى الخصوص بعد هزيمة 1967 - إلى التاريخ كجهاز معرفي لإبراز خصوصية الشخصية العربية ولمعالجة قضايا شائكة تندرج في ثناياها الصيرورة التاريخية للمد الثوري الذي عرفه العالم العربي من خلال راهنه وأوضاعه الجديدة " (60).

انسجاما مع هذا التصور، فإن مسرحية " المهرج " استعادت رمزا تاريخيا عربيا هو صقر قريش ليكون نموذجا للبطل العربي المعاصر الذي لا يرضى بالهزيمة، ويحاول استعادة المجد العربي. واستحضاره بهذه المواصفات، هدفه الكشف عن واقع التآمر والخيانة في الواقع العربي، لاسيما وأنه يسلم - في نهاية المسرحية - إلى جهات خارجية باعتباره إرهابيا، وذلك عبر صفقة سرية.

يستخلص مما سبق، أن مسرحية " المهرج " تقيم خطابها الميتامسرحي على أساس آلية الهدم والبناء، وذلك بهدف ترسيخ مبادئ واضحة لشعرية الدراما التاريخية في السياق العربي. ولعل هذا الارتباط بالسياق الخاص هو الذي جعل الماغوط يلون شعريته برؤيته الخاصة التي تقوم على إدانة واقع الخيانة والتآمر والانهزام.

2. الميتامسرح في إطار استراتيجية الارتجال :

شكل الارتجال إطارا آخر للممارسة الميتامسرحية في النص الدرامي العربي، وذلك من خلال رؤية تجريبية تحاول استلهام بعض مظاهره الحداثية كما تجسدت في التجربة المسرحية الغربية، ومنها على الخصوص : صيغة المرتجلة، وصيغة التأليف الجماعي المرتجل.

والارتجال - كما هو معلوم - تقنية مسرحية تقوم على أساس الإنجاز الآني لسلوكات وخطابات ومواقف غير منتظرة، ولا متوقعة، وغير خاضعة لإعداد قبلي في الغالب، أو مرتبطة بخطاطة عامة سابقة، كما هو الشأن في الكوميديا المرتجلة. بهذا المعنى، تم توظيف الارتجال في المسرح الغربي، وبصيغ محاكية له تم استثماره في المسرح العربي.

بيد أن هنالك اختلافا بينا في طبيعة الخلفية المتحكمة في كلا الاستعمالين. فالارتجال، في الغرب، ترجمة لتوجه عام مرتبط بمستلزمات الحداثة من جهة، وبانفتاح الممارسة المسرحية على العلوم الإنسانية المعاصرة وعلى رأسها الأنثروبولوجيا، من جهة ثانية. وفي ضوء هذه المعطيات، نفهم عودة المسرح الغربي مع مطلع هذا القرن إلى صيغة مسرحية عتيقة هي الكوميديا المرتجلة، وذلك في سياق ظاهرة عامة ميزت هذا المسرح هي ظاهرة " العودة إلى الأصول " (61). فالكوميديا المرتجلة تؤدي، في هذا السياق، " وظيفة مزدوجة : الأولى ك( ميثا) وفردوس مفقود بالنسبة لمسرح يبحث عن أصوله؛ والثانية كنمط تتجلى فيه خصائص أسلوب مسرحي كانت تبدو إشكالية ومتناقضة عن طريق الممارسة " (62).

أما في المسرح العربي، فإن استحكام هاجس التجريب المسرحي أفرغ تقنية الارتجال من محتواها الأنثربولوجي، وقصر مظهرها الحداثي على التقنية أو الأسلوب المسرحي. وعليه، لا يمكننا أن نسند نفس الأبعاد التي اتخذها الارتجال الغربي لمسرحنا العربي.

فالمسرح الغربي وضع الارتجال في صلب الإشكالية الوجودية المتصلة بثنائية الفردي - الجماعي، أو الذات - الآخر، كما يؤكد ذلك ميشال برنارد Michel Bernard الذي يرى أن تقنية الارتجال المسرحي " هي لعبة دقيقة لفوضى مرئية، وإلا فهي قطيعة ظاهرية لنظام يتم فضحه كنظام مصطنع وقمعي من أجل تحقيق انبثاق وتطور نظام يبدو طبيعيا ومحررا. لذلك، فإن كل دفاع عن الارتجال المسرحي بإمكانه أن يأخذ هنا - بعد أن نعكس معناه - شكل " مدح للفوضى " المسرحية ... وفي هذه الحالة، فإن الفوضى لا تعني إطلاقا تحطيم الذات أو استحالة حياة باطنية، وإنما تعني، على العكس من ذلك، تحقيق الكينونة وتدفق ثورة الذات المتوارية" (63) .

فإذا كان تحقيق الكينونة وثورة الذات قد شكلا القاعدة الفلسفية للارتجال في الغرب، فإنهما اعتبرا أيضا سندا لرؤية إيديولوجية تقوم على خرق النظام المؤسس، وتقويض سلطة الكتابة بما هي اختزال للكائن وتسييج لحريته وتعويضها بسلطة الجسد الأكثر اتصالا للحيوي واليومي، والأكثر تمردا على السلطة والنظام.

ولعل هذا الارتباط بين الأنطولوجي والإيديولوجي في الارتجال المسرحي هو الذي يوضحه ميشال برنار بشكل مفصل قائلا : " وإذا كان مفهوم التعبير - كما حاولنا أن نشير إلى ذلك - يتجلى على مستوى الخطاب كتصنع، وكزخرف لنسق يهدم العلاقة من ذات نفسها، وإذا كان، بعبارة أخرى، يتجلى كطريقة لتأكيد وجود قوة تعمل على تساميه أو انتفائه من خلال عودة نهائية إلى جانب من التطابق، أو اندماج مع الذات، أو حضور أنطولوجي أساسي؛ إذا كان مفهوم التعبير كذلك، فإنه من البديهي أن تقنية الارتجال في المسرح تطرح نفسها كفرصة ممتازة، بل وأبعد من ذلك كطريق حقيقي لعودة من هذا القبيل، وذلك بقدر ما تعلن عن نفسها كتمرد بالنسبة للنص الرئيسي وكحرية إنجاز بالنسبة لتعاليم تصور ما، وكنزوة جسد ناطق، أو غير ناطق يخرق قانون الكتابة، أو بصفة أساسية كقطيعة اندفاعية بدائية مع كل نظام مفروض للإشارات. وهكذا فإننا نفهم الدور الإيديولوجي العام الذي تلعبه تلك التقنية أو ذلك التمرين في نطاق الممارسات والخطابات المعاصرة للتعبير الجسدي التي توجه إلى رجل الشارع والدنيوي، كما هي موجهة إلى الممثل والمنشط المستقبلي " (64).

لا يمكننا، إذن، أن نتصور وجود ممارسة ارتجالية بهذه الأبعاد في سياق مسرح عربي هاجسه الأول هو التجريب الذي جعل هذه الممارسة تبقى رهينة إطار النص المسرحي أساسا.

فسواء تعلق الأمر بصيغة المرتجلة أو بصيغة التأليف الجماعي، فإن الهدف يبقى هو تجريب طرق جديدة في الكتابة يساهم فيها الممثل كما هو الشأن في الصيغة الأولى، ويدعمها المتفرج كما هو الأمر في الصيغة الثانية. وبهذا، شكل النص المسرحي العربي القائم على أساس الارتجال دعامة أخرى للممارسة الميتامسرحية التجريبية.

ويمكننا أن نمثل لهذا الاقتران بين الميتامسرح والارتجال العربي بنموذجين : تميز أحدهما ببلورة تجربة المرتجلة وهو نموذج محمد الكغاط من خلال مسرحية "المرتجلة الجديدة "، في حين حاول الثاني إقامة تجربة في التأليف الجماعي المرتجل وهو وليد إخلاصي من خلال مسرحية " عجبا إنهم يتفرجون ".

2. 1 - صيغة " المرتجلة " : " المرتجلة الجديدة " لمحمد الكغاط :

لابأس من الإشارة، أولا، إلى أن محمد الكغاط هو أحد أبرز المسرحيين التجريبيين العرب. تتميز تجربته باستنادها على خلفية معرفية وجمالية تجعله يبحث، ويفكر، ويجدد أدواته باستمرار. ولعل ما ساعده على ذلك كونه مؤلفا ومخرجا وممثلا وباحثا مسرحيا. فقد فتحت له هذه التعددية آفاقا واسعة للتعامل مع الظاهرة المسرحية بنوع من الشمولية والتنوع في آن واحد. فتجربته استقطبت أنماطا مختلفة من الكتابة والفرجة جاءت نتيجة تعامله مع منابع مسرحية مختلفة عربية وغربية. علاوة على هذا، فانشغاله في أبحاثه الأكاديمية بمكونات الظاهرة المسرحية قد ساعده على تحقيق تراكمات معرفية في الجوانب التي تخدم شخصيته كمسرحي. والمتتبع لريبرتوار محمد الكغاط، لابد أن يكشف أن اهتمامه بالدراماتورجيا يصب في هذا الاتجاه، حيث يلاحظ كيف يجعل منها أداة أساسية لخلق وتوليد مظاهر التمسرح في النص والعرض المسرحيين على حد سواء.

كل هذه المعطيات ساهمت في تعميق البحث، وترسيخ النزوع التجريبي لديه ودفعته إلى اكتشاف بعض الآفاق الكفيلة بتجديد الظاهرة المسرحية العربية، ومنها أفق الارتجال L'Improvisation، حيث تكاد تكون تجربته في كتابة " المرتجلة" الأولى من نوعها في مسار المسرح العربي. إذا استثنينا يعقوب صنوع الذي كتب مرتجلة ولم يجرؤ على تسميتها كذلك، كما شرحنا ذلك عند وقوفنا على مسرحية " موليير مصر وما يقاسيه ". ولعل ما يزكي ريادة الكغاط في هذا الجانب، هو كونه كتب ثلاثية Trilogie - على غرار ثلاثية بيرانديلو - تضمنت ثلاث مرتجلات هي : " المرتجلة الجديدة "، " مرتلجة فاس " ثم "مرتجلة شميسة للاّ "، عبر من خلالها على موقفه من بعض القضايا الشائكة التي يتخبط فيها مسرحنا العربي، وصاغ عبرها منظوره الخاص إزاء المسرح باعتباره فنا مكرسا لخدمة قضايا الإنسان.

لقد حاول محمد الكغاط أن يضع في مقدمة مرتجلتيه الأولى والثاني التي عنونها ب "المسرح المغربي بين الارتجال والمرتجلة "، مفهومه الخاص للمرتجلة والأسباب التي دفعته إلى خوض تجربة كتابية من هذا النوع. يقول : " ولأن مسرحنا يعاني من كل أنواع المصاعب والعراقيل ، فقد لجأت إلى كتابة المرتجلة من أجل طرحها أمام الجمهور، وذلك بعد أن تبين لي أن الحديث عن المشاكل ليس كمعايشتها أو رؤيتها مجسدة .. ولجأت في "المرتجلة الجديدة " إلى السخرية والضحك، وتضخيم المواقف سعيا مني لخلق ما يعرف بالكوميديا السوداء، وقد بالغت في سوداوية هذه الكوميديا، لأصل لا إلى أن من الهم ما يضحك، ولكن إلى أن الهم إذا زاد عن حده صار مضحكا، وأن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وأن البياض إذا اشتد صار برصا "(65)

يقدم لنا الكغاط ، من خلال هذا القول، مفتاحين أساسيين لفهم مرتجلته؛ يتعلق أحدهما بمحتواها المتمثل في المصاعب التي يعاني منها المسرح المغربي، ويتعلق الثاني بشكلها، أو بالأحرى بإطارها النوعي وهو الكوميديا السوداء.

ولإبراز الكيفية التي استثمر بها الارتجال في المسرحية، يقول : " قامت تجربة المرتجلة على عنصر هام من العناصر التي ما فتئت التيارات المسرحية المعاصرة تدعو إليه، وهو إشراك الممثلين في التأليف ... إننا لسنا هنا أمام تأليف جماعي تقليدي، أو معمل تأليف ساكن يوجهه شخص واحد، إذ تقوم التجربة على أن يكتب كل ممثل مشهده أولا، ثم ينقح أثناء التداريب ويستمر هذا التنقيح بعد كل عرض، كما أن تغيير أحد الممثلين يستدعي تغيير المشهد الذي يتعلق به، وكل مشهد يفرض حركته الخاصة، كما أن قسطا كبيرا من الحرية يترك للممثلين أثناء إعداد العرض ليسهموا بإبداعاتهم في الإخراج، هذا إضافة إلى مشاهد مرتجلة لم تكتب من قبل إلا أنها خضعت للتدريب، وهي مع ذلك قابلة للاتساع، ولارتجال جديد حسب تجاوب الجمهور، واستجابة الممثلين لحرارة اللحظة المسرحية التي يخلقها العرض " (66).

يتبين من هذا القول، أننا أمام تجربة جديدة في الكتابة مخالفة للسائد في المسرح العربي. ذلك أن تعامل هذا الأخير مع الظاهرة المسرحية تم، غالبا، في إطار ما سماه تادوز كوزان Tadeusz Kowzan بالمقاربة الأدبية (67) التي ترى أن الانتقال من النص المكتوب إلى النص الشفوي هو الطريقة المثلى لتحويل ظاهرة أدبية إلى ظاهرة فرجوية .

إلا أن ما يوضحه الكغاط هنا، مخالف لهذا التوجه، لأن العرض هوالذي يصبح منبعا للنص وليس العكس. إن موقفه هذا يجعله ينخرط في سياق بعض التيارات المسرحية الغربية المعاصرة، ولا سيما منها تلك التي بوأت المخرج مكانة مرموقة، وأكدت على أن " التمسرح موجود في كل شيء "، وأن المنطلق النصي ليس سوى واحد من منطلقاته الكثيرة. ويذكر كوزان، في هذا الإطار، نماذج مختلفة لكل من إرفين بيسكاتور Erwin Piscator والمسرح الحي Living theatre والمسرح المفتوح Open theatre وجرزي كروتفسكي Jerzy Grotowski، حيث يتعلق الأمر لدى كل هؤلاء " بنص مبتكر ومكتوب خلال التدرايب؛ وهو نص شفوي لا يجد شكله المكتوب (الذي لا يكون نهائيا أحيانا) إلا عندما تقدم الفرجة للجمهور " (68).

إن " المرتجلة الجديدة " تنخرط في سياق هذا التوجه الذي اعتبر بمثابة أفق تجريبي آخر في المسرح العربي. فتشكل نصها وانبثاقه من عرض أعده الممثلون ودونوا بعض مشاهده من جهة، والتأكيد على انفتاحه وقابليته لإعادة الكتابة بعد كل عرض جديد من جهة أخرى؛ كل ذلك يؤشر على المنزع التجريبي لهذه الصيغة الارتجالية، ورغبة صاحبها في استقطاب بعض ملامح الحداثة المسرحية في الغرب.

فإذا كان " كل موضوع يمتلك تمسرحا خاصا به "، كما يرى أرمان كاتي Armand Gatti (69)، أحد أبرز المسرحيين التجريبيين المعاصرين، فإن الكغاط يؤكد على العلاقة بين الموضوع الممسرح وشكل مسرحته.

وعليه، فإن بلورة موقف من مصاعب المسرح المغربي قد فرض عليه، بالضرورة، اختيار قالب مسرحي أكثر ملاءمة لذلك هو " المرتجلة "، وصيغة نوعية أكثر كفاية هي " الكوميديا السوداء ".إن إقامة تجربة كهاته على أساس الوعي بالتمسرح، هو الذي يجعل من " المرتجلة الجديدة " نصا مفتوحا قابلا لإعادة الإنتاج موازاة مع تغير شروط التلقي. ولعل هذا ما يزكي المظهر الحداثي لهذه التجربة.

وحتى يكتمل التصور الذي يقدمه الكغاط عن مرتجلته، فإنه يفصح عن الدعامة الإيديولوجية التي تسند هذا التصورالجمالي، حيث يقول : " ولعل من أهم مميزات المرتجلة الجديدة أنها استلهمت " قالب " المرتجلة من أجل البحث عن قالب جديد يمكن بواسطته طرح قضايا إنسانية، وعرض إنسانية الإنسان " (70).

فإذا نظرنا إلى هذه النوايا في ضوء بعض التصورات السائدة عن الإنسان، فإن بإمكاننا أن نعتبر ما يعكسه الكغاط هنا محاولة لجعل المسرح العربي ينخرط في سياق ثقافة الحداثة، خصوصا وأن هذه الثقافة عرفت " بإيلاء الإنسان قيمة مركزية نظرية وعملية"(71).

وإذا علمنا أن " المرتجلة الجديدة " تسلط الضوء على بعض المكونات السلبي-ة العامة - والسيكولوجية بالخصوص - في الإنسان، فإننا يمكن أن نقول إن تجربة الكغاط تنحو نحو ملامسة بعض المفارقات الكبرى للحداثة، لاسيما وأن " المفارقة الكبرى في تصور فكر الحداثة للإنسان هي أنه عندما يجعل الإنسان مركزا مرجعيا للنظر والعمل وينسب إليه العقل الشفاف، والإرادة الحرة، والفاعلية في المعرفة والتاريخ، فهو بنفس الوقت يكشف بجلاء عن مكوناته التحتية ومحدداته العضوية والسيكولوجية ودوافعه الأولية (الجنس، العدوان، البحث عن الربح، التغذية ..)"(72).

في هذا السياق، نعتقد أن الكغاط حاول أن يسلط الضوء، من خلال مرتجلته، على الطابع المزدوج والمفارق للإنسان، وذلك من خلال سلوكات ومواقف وخطابات شخصياته، ولاسيما منها النماذج المتسلطة.

إن المعطيات الجمالية والإيديولوجية التي أفصح عنها الكغاط في مقدمته تقدم لنا إضاءات مهمة لفهم خطابها الميتامسرحي والاقتراب من طرق تشخيصه موضوعاتيا، شكليا ونوعيا.

تقدم " المرتجلة الجديدة " نفسها للقارئ باعتبارها " مشروع عرض مسرحي "؛ وكونها كذلك يعني أن استراتيجية الارتجال هي التي تتحكم في الوضع النهائي للنص، وذلك بجعله رهينا بالعروض وبدرجة استجابة الجمهور لها. لذا، فالنص الذي بين أيدينا ليس سوى إمكانية واحدة أو تحقق Concrétisation أولي - بلغة جمالية التلقي - داخل سلسلة من التحققات الممكنة والمتغيرة بتغير ظروف العرض. والملاحظ أن نص " المرتجلة الجديدة " مكون من مشاهد ثابتة وأخرى متغيرة تجعله قابلا للتحيين.

ففي مقدمة Prologue المسرحية، يقول المؤلف : " كتبت هذه المرتجلة بعد سلسلة من المقالات تصدت للتسلط والادعاء على المسرح .. وكان الإخراج فيها موازيا للتأليف تماما كما يكتب الموقف الذي يراعي أذن المشاهد وعينه في نفس الآن، وقد اشترك في تأليفها كل الممثلين : فهناك مشاهد للمؤلف المخرج، وهناك مشاهد ألفها الممثلون، وهناك مشاهد ستقدم أمامكم ارتجالا " (73). وللتأكيد على ذلك تتخلل النص إرشادات مسرحية تشير إلى هذه الأنواع من المشاهد في سياقها. من ذلك، مثلا، " هذا المشهد ارتجله الممثلون عند بداية التداريب ثم كتب كل ممثل حواره بتوجيه من المخرج .. أما المشهد الارتجالي الذي يأتي بعد هذا وهو غير مثبت هنا فهو يعتمد على التداريب دون أن يكتب .. وما هو مثبت هنا يعتبر صورة من الارتجال الذي تم في عرض 29 - 06 -87 بمتحف البطحاء بفاس"(74).

إن هذه الإشارات تجعلنا أمام نص مليء بالفجوات Troué، غير مكتمل، علاقته بالعرض ليس اشتراطية وحسب وإنما هي ارتهانية، أيضا، مما يجعل اللعبة المسرحية مفتوحة على المتلقي لأداء دوره في ملء فجواتها. وانكشاف اللعبة من جهة، وقيامها على أساس الارتجال من جهة أخرى، يهيئان أرضية ملائمة لتخصيب الممارسة الميتامسرحية سواء في مستواها اللعبي أو النقدي.

تتمحور" المرتجلة الجديدة " حول موضوعة أساسية هي : التسلط في مجال المسرح. ويتم تجسيدها من خلال بنية شخوصية تستقطب هذه الخاصية في علاقتها بمختلف الأطراف المعنية بعملية الإنتاج والتلقي المسرحيين وهي : المؤلف والمخرج والممثل والناقد. يلاحظ أن أسماء هؤلاء، في المرتجلة، مسبوقة بصفة " المتسلط ". هذا المعطى المباشر والصريح يفهم منه أن التسلط بلغ درجة قصوى أصبح معها هو الأصل في الشخصية وهويتها المسرحية هي الفرع. أو بعبارة أخرى أن صفة مؤلف أو مخرج أو ناقد هي مجرد قناة لتصريف معطى سابق هو التسلط.

ولتسليط الضوء على تمظهرات التسلط في المسرحية، يركز الكاتب على سلوكات ومواقف وخطابات تصدر عن النماذج المتسلطة المذكورة. فمنذ الوهلة الأولى تكشف المرتجلة على جهل بعض التقنيين للمسرح، وذلك من خلال الإشارة إلى الحركة التي يقومون بها فوق الخشبة، والتي يقصد بها " إظهار الفوضى العارمة التي تصاحب عمل التقنيين، وخاصة عندما يكون حافزهم هو إخفاء جهلهم بتقنية المسرح تحت ستار الصياح والصراخ وترديد بعض مصطلحات الخشبة " (75). إن البدء بهذه الإشارة يؤشر على أن الكغاط كتب المرتجلة بوعي المخرج الذي يدرك جيدا مظاهر التسلط في المسرح حتى في المواقف التقنية الأكثر دقة. وهو يبدأ بهذه المظاهر باعتبارها جسرا للعبور نحو كشف التسلط الصريح الذي تجسده ثلاث شخصيات أساسية هي : المتسلط المؤلف، المتسلط المخرج والمتسلط الناقد. فمواقف هؤلاء من النص المسرحي من حيث طبيعته وموضوعاته ولغته، ومن علاقات المؤلف بالمخرج، ومن مفهوم النقد، تكشف عن جهل واضح بقواعد اللعبة المسرحية وتسلط على عوالمها. ففي إطار الاتفاق حول طبيعة النص، مثلا، يقول المتسلط المؤلف للمتسلط المخرج:

" المتسلط المؤلف : خصك تفهمني ... احنا ماغاديش نديرومسرحية من ذاك النوع اللي ما كيدخللوش الناس، مكاين نعاما سيدي غير التكعكيع ..والتكرديس، والتشقليب .. والركيع .. والتكوميك .. حتى يبقى الجمهور يبكي بالتكوميك ... خليني من اللغة العربية الفصحى.. والشعر والهدور.. والتاريخ .. والتراث .. وبنادم غير حال فمو مافاهم والو. اشرط علي ما كاين غير التكعكيع .. والتكوميك " (76).

إن ما يكشف عنه خطاب المؤلف هنا من اختصار لوظيفة المسرح في الإضحاك مع التعبير عن ذلك بكلمات عامية مبتذلة، ومن إنكار لأهمية مسرحة الشعر أو التاريخ أو التراث، ولأهمية العربية الفصحى. كل هذا يعد مظهرا للتسلط على فن نبيل وعلى بعض مظاهره المشرقة في سياقنا المغربي.

فالمرتجلة تعكس، إذن، سوء التفاهم السائد في المسرح المغربي بين المشتغلين في حقله، حيث يعتبر البعض أن إضحاك الجمهور هو الغاية النهائية للمسرح. لذا، يتم اللجوء إلى أقصر الطرق من أجل تحقيق ذلك (التكعكيع، التكرديس، التشقليب، الركيع، التكوميك؛ كما جاء في خطاب المتسلط المؤلف). وبالمقابل نرى أن المحاولات المشرقة التي تعمل على تكريس فرجة مؤسسة على قيم معرفية وجمالية (مسرحة التاريخ والتراث، الاهتمام باللغة العربية) غالبا ما يحكم عليها بأنها أعمال غامضة ولا تواص-لية (77).

إن " المرتجلة الجديدة " تجسد عن طريق هذه الإشارات " صراع المسارح " كما هو دائر في سياق المسرح المغربي. والملاحظ أن المنظور المتحكم في ذلك هو منظور مؤلف - مخرج معني بهذا الصراع بشكل مباشر، هو الكغاط نفسه باعتباره أحد صانعي المشهد المسرحي بالمغرب. ولعل ما يدفعنا إلى هذا التأويل هو النموذج الحاضر في المسرحية باعتباره نقيضا للتسلط، والذي تمثله شخصية " المسرحي ".

فاختيار شخصية بهذا الاسم في المرتجلة يسير في اتجاه الفهم الشمولي للظاهرة المسرحية من لدن الكغاط نفسه، لاسيما وأننا أشرنا في البداية إلى كونه مؤلفا ومخرجا وممثلا. واعتبار هذه الشخصية بمثابة البديل الحقيقي عن مظاهر التسلط سواء لدى المؤاف أو المخرج، له علاقة بطبيعة الوعي الجمالي والإيديولوجي الذي يسند ممارستها. في هذا الإطار، يلاحظ أن انخراط " المسرحي " في الأحداث يتميز بالشاعرية سلوكا وخطابا، وتترجم هذه الشاعرية وعيا بشروط الفن تتوخى الارتقاء بذوق الجمهور، وتجسيد إنسانية الإنسان. من ثم، يمكن القول إن شخصية " المسرحي " هي لسان حال الكغاط نفسه في مرتجلته، لأنها تبلور النوايا التي أعلن عنها في مقدمته والمتعلقة بدور المسرح في تثبيت إنسانية الإنسان :

" المسرحي :لأني أنظر إلى الفن في علاقته بالإنسان.

لأني أريد أن أخاطب إنسانية الإنسان.

لأني أرى المسرح جسرا يصل الإنسان بالإنسان ..." (78)

إن شخصية " المسرحي " تقوم، إذن، بتقويض خطاب التسلط لتقيم مقامه خطابا إنسانيا يستند على وعي فني يؤمن بدور الجمهور في تخليص المسرح من المتسلطين. وتنافر هذين الخطابين في المرتجلة يحولها إلى " عمل مواجهة Oeuvre de combat " يعكس التناقض بين اللامسرحي والمسرحي، وبالتالي بين اللاإنساني والإنساني. وإدخال الجمهور في هذه المواجهة يحول المرتجلة إلى " محاكمة مباشرة " يلعب فيها دور الحكم. وتقف "المرتجلة الجديدة " بهذه المواصفات، بموازاة المرتجلات الغربية التي تقوم على " صراع المسارح " ويشتغل فيها النقد على مرأى ومسمع من الجمهور.

ونظرا لما تتيحه الممارسة الكوميدية من إمكانات نقدية، فإن الكغاط - بالنظر إلى الصيغة المبتذلة التي اتخذها " صراع المسارح " في سياقنا المغربي - اختار القالب الكوميدي الأسود لبلورة موقفه من هذا الصراع ومن التسلط الناجم عنه. لهذا، نلاحظ أن المرتجلة تحفل بالمواقف الساخرة سلوكا ولغة.

فالشخصيات المتسلطة يتم رسمها بطريقة كاريكاتورية (المتسلط المؤلف يحمل قلما عملاقا وحزمة أوراق في حجم أوراق الجرائد وينبطح على بطنه بين فكي أحد السلالم ثم يكتب)، وحواراتها مليئة بالخطابات المسكوكة الجاهزة واللامفكر فيها، ناهيك عن بروز ما يسمى بالمؤثرات العبثية Effets d'absurde في لغة الحوار، ومنها على الخصوص ما يسميه التداوليون بابتذال الأقوال banalisation des propos، كما هو الشأن في الحوار التالي :

" المتسلط المؤلف : يجلس على ... يجلس على ...

المتسلط المخــرج : على الكرسي ...

المتسلط المؤلــف : لا

المتسلط المخرج : على بطنه

المتسلط المؤلـــف : لا

المتسلط المخـرج : على رأسه

المتسلط المؤلف : آه .. يجلس على قاعه ... " (79).

ومنها أيضا اللعب بالكلمات بطريقة إيقاعية تجعل الحوار يتطور على أساس الدال وليس المدلول، كما في حوارات مسرح العبث، ومثال ذلك ترديد كلمات (يقول .. ما يقولش) بين الشخصيات الثلاث المتسلطة.

يستخلص مما سلف أن محمد الكغاط دشن للميتامسرح العربي إطارا جماليا واضحا يجعله ينخرط في التراكم الذي حققه المسرح الغربي، وذلك بصياغة عمل يتمثل، بشكل جيد، مواصفات " المرتجلة " ويستقطب بنياتها المفتوحة على ذات مؤلفها من جهة، وعلى واقعه من جهة أخرى. وذلك من أجل بلورة " عمل مواجهة " غايته القريبة هي تسليط الضوء على " صراع المسارح "، أو بالأحرى " صراع المسرحيين " عندنا، وغايته البعيدة التأكيد على إنسانية الإنسان.

2. 2 - صيغـة التأليـف الجماعي المـرتجـل : " عجبا إنهـم يتفرجون" لوليـد إخـلاصــي:

إذا كانت " المرتجلة الجديدة " قد أقامت تجربتها الارتجالية على أساس مساهمة الممثل في كتابة النص، فإن مسرحية " عجبا إنهم يتفرجون " (80) لوليد إخلاصي تنبني على أساس إشراك الجمهور في كتابة النص عبر ما يرتجله في العرض.

وإذا كانت المرتجلات تبلور " صراع المسارح " - كما تجسده المنظورات المختلفة لممارسي المسرح - فإن مسرحية وليد إخلاصي تشخص هذا الصرا ع كما تجسده تصورات المتفرجين. لذا، فهي تحاول الإجابة عن سؤال أساسي هو: ماذا يريد المتفرج من المسرح ؟

تنطلق مسرحية " عجبا إنهم يتفرجون " من محاولة رجل مسرح إشراك الجمهور في ارتجال مسرحية تعوض العرض الذي كان من المفروض تقديمه خلال الأمسية، لولا أن زواج إحدى الممثلات حال دون ذلك. لذا، اقترح رجل المسرح على الجمهورالمساهمة في خلق عرض بديل. وسوف يتجاوب المتفرجون، بالفعل، مع هذا الاقتراح ويبدأون في الانخراط في جو المسرحية مستغلين الفرصة لإبراز مواقفهم وتصوراتهم الخاصة حول المسرح ووظيفته.

في هـذا السيـاق، تتدخل أربع شخصيات بشكل متتابع في العرض هـي : المتفرج الأول والثاني والثالث والرابع. فالمتفرج الأول أبو عبدو النجار يرى أن المسرح هو من أجل المتعة والتسلية مما جعله يقترح عرض قصة لعشاق يمضون الليل في الحب والوصال. ويرى المتفرج الثاني، بالمقابل، أن المسرح مسؤولية تاريخية وعليه أن يعرض أمجاد الماضي وعظمة التراث. وقد ترتب عن هذا الاختلاف بين وجهتي نظر المتفرجين صراع فكري حاد بلغ مستوى المواجهة العنيفة.

أما المتفرج الثالث وهو أبو الجود الممثل الهاوي المتخصص في أدوار التسلية، فيؤكد أن المسرح ليس بحاجة إلى أفكار، وإنما إلى حركات ساخرة تثير الضحك. من ثم، يبدأ في تقليد بعض الأدوار بكيفية ساخرة كالسلطان العثماني والأعرج والمتسول. أما المتفرج الرابع فيقدم نفسه باعتباره مواطنا يحس بألم الوطن، ويدعو إلى ضرورة مواجهة الحقيقة وفضح الظواهر الفاسدة في المجتمع. لهذا، يقوم - عبر تشخيص مشهد بين دميتين هما كركوز وعيواظ - بمعالجة قضية اجتماعية هي تهريب الأموال والثراء غيرالمشروع.

ونظرا لاحتدام الخلاف بين المتفرجين الأربعة، يقوم رجل المسرح بمبادرة استدعاء شاب وصبية من الجمهور قصد إشراكهما في العرض الجماعي. ومن خلال حوار تمحورحول قضية الحلم والواقع، واختلطت فيه الحقيقة بالتمثيل؛ تفجرت علاقة الحب القائمة بين الشاب والصبية، وأصبحت المسرحية أداة لكشف حقيقة كل منهما. هذه المشاركة التلقائية للمتفرجين في التمثيل سرعان ما سيوضع لها حد من لدن " الرجل القوي " الذي تدخل لإنهاء المشاهد المرتجلة وأمر بإغلاق الستار.

يلاحظ، إذن، أن حكاية المسرحية تقوم على أساس أفعال درامية متصلة بشخصيات لها علاقة مباشرة بالممارسة المسرحية وهي : رجل المسرح والمتفرجون. وعلى أساس التقابل في المواقف والصراعات الفكرية بين المتفرجين، تحاول المسرحية إقامة متخيلها. أما رجل المسرح فإنه يتدخل في الصراع أولا باعتباره موجها للعب Meneur de jeu، وثانيا باعتباره حكما يقوم بالتوجيه وتعليم القواعد والقيم المسرحية التي ينهض عليها المسرح.

إن مسرحية " عجبا إنهم يتفرجون " تقوم بتقويض منظورات مسرحية ذاتية قصد بناء منظور شمولي بديل يقوم على مبادئ واضحة. بعبارة أخرى، إن الارتجال الجماعي للمتفرجين هو ترجمة لفوضى مسرحية يراد وضع نظام بديل لها. وكأننا بوليد إخلاصي قد استوحى مقولة المخرج المسرحي الفرنسي لويس جوفي Louis Jouvet التي مفادها " أن كل نظام مسرحي لا يتأسس إلا بفوضى كبيرة"(81).

فالنظام البديل في مسرحية " عجبا إنهم يتفرجون " هو الذي تعكسه خطابات رجل المسرح الذي يبدو واعيا بالأسس الثقافية لفن المسرح، حيث يرى أن المسرح هو الحوار، وأن الحوار هو الديمقراطية. هذا التحديد الذي يجد مرجعيته في السياق اليوناني، له ما يوازيه على مستوى القواعد المسرحية التي ينادي بها رجل المسرح، والتي تعكس تشبعه بالشعرية الأرسطية. فهو يؤمن أن المسرح فعل ومحاكاة للواقع وأمثلة Idéalisation له أيضا.

وللوقوف عن كثب على هذا التصور، لابأس أن نستحضر مواقف رجل المسرح وهو يناقش تصورات المتفرجين واقتراحاتهم. ففي سياق تعليقه على المتفرج الرابع الذي أكد على ضرورة مواجهة الحقيقة بشجاعة، يقول :

" رجل المسرح : هذا قول لا أخالفك فيه الرأي، ولكن الجمهور هنا جاء ليرى فعلا ما، حقائق تمثلها أفعال مسرحية. حدث وحوار، أشخاص تتصارع من أجل انتصار قيمة ما أو كشف حقيقة غائبة " (82)

إن هذا التعليق يستقطب كل المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها الشعرية الأرسطية. فالمسرح فعل، والفعل المسرحي يقوم على المحاكاة، ومن خلال هذه المحاكاة يتشكل حدث وحوار، والقاعدة الأساسية لكل ذلك هي الصراع الدرامي بين الشخصيات.

وفي نفس السياق، يؤكد رجل المسرح للمتفرج الرابع :

" رجل المسرح : ... نريد حدثا مسرحيا ونريد رؤية جديدة، نتطلع إلى فن يستخلص من الواقع قوانين ومثلا. نريد أن نضع سويا الفكرة خطوة خطوة " (83).

إن مسألة استخلاص القوانين والمثل من الواقع تحيلنا إلى مفهوم أساسي في الشعرية الأرسطية هو مفهوم " الأمثلة ". يشير جان جاك روبين إلى " أن العمل الفني يعرض نموذجه إما بأمثلته، أو محاكاته بشكل متطابق، أو تحريفه. والصيغة الخاصة بالتراجيديا، بالنسبة لأرسطو، ينبغي أن تكون هي الأمثلة. فالبطل يجب أن يعرض خارج الحياة اليومية للمتفرج " (84). وإذا تأملنا ما قاله رجل المسرح سنلاحظ أنه يستوحي هذا التصور. فهو يتفق مع المتفرج على ضرورة فضح الظواهر الفاسدة في المجتمع، لكنه يرى أن ذلك ينبغي أن يتم بطريقة مسرحية تحاكي الواقع بكيفية تؤمثله ولا تنقله حرفيا.

ولعل هذه الرؤية نفسها هي التي تؤطر علاقة المسرح بالتاريخ في نظر رجل المسرح. فمن خلال مناقشته لموقف المتفرج الثاني الذي ينظر إلى المسرح باعتباره مسؤولية تاريخية وعليه عرض أمجاد الماضي، يقول:

"رجل المسرح:السؤال هو كيف يمكن للفن أن يوظف الماضي من أجل المستقبل"(85). فاسترجاع التاريخ في المسرح ليس هدفا في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لإضاءة الحاضر واستشراف المستقبل. ولتحقيق ذلك، لا مناص من التسلح بوعي فني تحكمه شعرية الاحتمال والضرورة.

واضح، إذن، أن تحليل رجل المسرح لمنظورات متفرجين في ضوء الشعرية الأرسطية، قد اتخذ صبغة تعليمية مباشرة وضح فيها القواعد الثقافية (الحوار، الديمقراطية) والفنية (الفعل، المحاكاة، الأمثلة) للمسرح. لكن وليد إخلاصي، بالمقابل، عمل على تشخيص هذه المواقف بطرق مسرحية، وذلك باعتماد المضاعفة اللعبية التي تسمح بخلق مستويات مختلفة من التمثيل، وبالتالي إدماج مسرحيات صغرى Micro- pièces في المسرحية الكبرى من ضمنها : مسرحية الدميتين كركوز وعيواظ، ومسرحية الشاب والصبية، المدمجتين في المسرحية الكبرى التي يلعب فيها رجل المسرح دور موجه اللعب.

إن انفتاح اللعب المسرحي في نص " عجبا إنهم يتفرجون " ينسجم مع الطابع الارتجالي الذي يقوم عليه النص ويجعل منه حقلا لإنتاج الخطابات المختلفة وصراع المنظورات وتعدد طرق التشخيص. بمعنى أن النص ينسج شبكة من المواقف، أو يخلق "فوضى مسرحية "، ويحاول إرساء "نظامه المسرحي" على أنقاضها.

إلا أن الملاحظ أن النظام الذي يتأسس أخلاقيا على قيم الديمقراطية، وفنيا على الشعرية الأرسطية، مهدد هو نفسه بالانهيار، ليس انطلاقا من قيم جمالية محضة، وإنما انطلاقا من قيم سياسية أو سلطوية.

فالمسرحية تضعنا، في النهاية، إزاء مواجهة بين سلطة الفن وسلطة العنف السياسي. يجسد السلطة الأولى رجل المسرح الذي يتحدث باسم قيم فنية وأخلاقية واضحة، ويرمز إلى السلطة الثانية الرجل القوي الذي تدل سلوكاته ( رفض تقديم نفسه، محاولته إبعاد رجل المسرح بحركة من يده، حمله لعصا واحتماؤه برجلين قاسيين) وخطاباته (يقول إنه يريد وضع حد لقصة قديمة بالية لعلها قصة المسرح نفسه في نهاية المطاف) على كونه يمثل القوة والعنف ويريد مصادرة المسرح باستعمالهما (يأمر بإغلاق الستار) .

نفهم من هذه المواجهة، أن وليد إخلاصي يرى أن قضية المسرح الأساسية لا تكمن فقط في صراع المنظورات الجمالية، وإنما تتمثل أيضا في علاقة المسرحي بالسياسي. فإدخال شخصية الرجل القوي، في النهاية، يعني أن إرساء نظام مسرحي لا يمكن أن يتم إلا في إطار نظام سياسي. لذا، فإذا كانت المسرحية تحاول ترسيخ قيم إنسانية تؤمن بحق الإنسان في التعبير عن ذاته وكينونته اعتمادا على الارتجال كقناة أساسية، فإن الرجل القوي يعتبر المسرح قصة بالية ينبغي التخلص منها، مما يعني مصادرة هذا النزوع الإنساني الذي يعكسه الارتجال المسرحي.

يستخلص مما سبق، أن للممارسة الميتامسرحية في نص وليد إخلاصي وجوها متعددة : وجه تأويلي يسلط الضوء على طبيعة المتلقي المسرحي ويحلل نظرته إلى الفرجة المسرحية، ووجه نقدي يتمثل في هدم تصورات مسرحية قائمة من بينها تلك التي ترى أن المسرح تسلية أو مسؤولية تاريخية، وإقامة نظرية شمولية عوضا عنها، تتأسس على مبادئ أخلاقية وفنية واضحة. وهنا يبرز الوجه التنظيري مادام النص يضمر نظرية ضمنية حول المسرح هي، في الواقع، إعادة إنتاج للإرث الأرسطي. علاوة على ذلك كله، هنالك وجه إيديولوجي يتمثل في خلق تقابل بين الإنساني واللاإنساني؛ البعد الإنساني يحمله الإرتجال الجماعي في المسرحية باعتباره تعبيرا تلقائيا عن الذات ورغبة في ترسيخ الكينونة الفردية، كما يحمله النظام المسرحي الذي يقيمه رجل المسرح. أما البعد اللاإنساني فيعكسه الرجل القوي وأتباعه باعتبارهم رموز مجتمع قائم على الرقابة والتسلط والعنف، ينبذ المسرح كفن لترسيخ الديمقراطية.

3. الميتامسرح في إطار استراتيجية الحكي :

إذا كانت استراتيجيتا التناص والارتجال قد رسمتا للممارسة الميتامسرحية التجريبية إطارا مفتوحا للتعامل مع التجربة المسرحية الغربية وفتح آفاق جديدة للكتابة ا المسرحية العربية، فإن استراتيجية الحكي قد جعلت المسرحيين العرب يعودون إلى مخزونهم الثقافي الخاص، ويحاولون البحث عن إطار حكائي يستوعب الممارسة الميتامسرحية ويضفي عليها نوعا من الخصوصية. فإذا كانت النظرية الغربية قد حاولت ربط الميتامسرح بشعرية الأنواع الدرامية، فإن المسرح العربي حاول أن يجعل الميتامسرح في صلب البحث عن شعرية للحكي المسرحي، متخذا من تجريب المحكي التراثي مهادا لذلك.

لابأس من التذكير بالأهمية التي حظي بها التراث العربي في كتابة المسرحيين العرب. لكن الكيفية التي تم بها تصريف هذا الموروث مسرحيا، لم تكن إيجابية في كل الأحوال، ذلك أنها أفرزت نوعا من الكتابة الخاضعة لسلطة المضامين التراثية جعلت من الحضور التراثي هدفا في حد ذاته بغض النظر عن المبرر الفني أو السند الفكري لذلك. وقد ترتب عن هذا الوضع شرخ عميق بين الإبداع المسرحي والمتلقي العربي.

في سياق هذا المد التراثي، تنبه بعض المسرحيين العرب المتشبعين بحس تجريبي يستند على أسس معرفية وجمالية واعية بذاتها، إلى أن التخفيف من حدة هذا الوضع ممكن، وذلك عن طريق التعامل مع التراث باعتباره أشكالا أو صيغا حكائية. ونظرا لغنى المحكي التراثي وتنوع بنياته، فقد اهتدى المسرحيون العرب إلى مجموعة من هذه البنيات متخذين منها قاعدة لبلورة منظوراتهم المسرحية ورؤاهم الفكرية المتصلة بمفهوم المسرح في المجتمع العربي.

داخل هذه الاستراتيجية الحكائية، تحددت ملامح الميتامسرح التجريبي العربي. ويمكننا أن نمثل لها بأربع بنيات أساسية أثارت انتباهنا في النص المسرحي العربي هي:

- بنية الاستطراد ويجسدها نص " ديوان الزنج " لعز الدين المدني.

- بنية التضمين Enchâssement ويمثلها نص " مهرجان المهابيل " لمحمد مسكين.

- بنية التمثيل Représentation ويعكسها نص " البحث عن رجل يحمل عينين فقط " للمسكيني الصغير.

- بنية التناظر Symétrie ويبلورها نص " الأيام المخمورة " لسعد الله ونوس.

3. 1 - بنية الاستطراد : " ديوان الزنج " لعز الدين المدني :

كتب عز الدين المدني مسرحية " ديوان الزنج " في بداية السبعينات، وهي تمثل نموذجا للأعمال الدرامية التي تستلهم مقوماتها الجمالية من التراث العربي، وذلك بالاستناد على وعي فكري وفني بالتراث وبحدود التعامل مع إمكاناته التعبيرية. هذا الوعي هو ما يعكسه بوضوح " البيان " الذي صدر به عزالدين المدني مسرحيته، وعنونه ب" ديوان الزنج : بيان حول استعمال الفضاء المسرحي في هذا الديوان "، حيث يؤكد على ضروة استعمال أركاح متعددة ومتنوعة الأحجام والارتفاع قصد تشخيص هذا الديوان، لاسيما وأنه يستلهم مبدأ جماليا تراثيا هو " الاستطراد ".

ولتوضيح الخلفية المتحكمة في استلهامه لهذا المبدأ في " ديوان الزنج "، يقول عز الدين المدني : " لقد سبق للمؤلف أن استعمل في أثر أدبي سابق عنوانه " الحمال والبنات" بعض الخصائص الجمالية التي وردت في الكتب الأدبية العربية القديمة " كالأغاني " لأبي الفرج الأصبهاني، و" الحيوان " للجاحظ، و" الإمتاع والمؤانسة " لأبي الحيان التوحيدي، و" كليلة ودمنة " لابن المقفع، و" التوابع والزوابع " لابن شهيد الأندلسي ... وهو يعيد استعمال هذه الخصائص بأكثر دقة في هذا الديوان المسرحي. وهذه الخصائص الجمالية التي لا ندعي أن الكتب العربية القديمة قد انفردت بها، وإنما كانت دعامة في الإنشاء الأدبي العربي القديم، فضلا عن كونها رائجة في آداب الشرق المتواري في القدم. وهي تتلخص في مفهوم " الاستطراد " الذي جعل منه المؤلف مبدأ جماليا أساسيا ساعده في "الحمال والبنات " وفي هذا الديوان المسرحي بالذات على اكتساب شكل مسرحي مبتكر، ومكنه من تركيب العمل الدرامي تركيبا مرنا، حركيا، متفاعلا جدا، بله جدليا، وأعانه في الانصراف أو يكاد عن فنيات المسرح الغربي - الكلاسيكي منه والحديث الطلائعي - ودفعه بفضـل ذلـك كلـه إلـى الاقتـراب أكثـر فأكثر من الأرضية الذهنية، إن لم يقم عليهـا عمدا، لاسيما في الماضي الحضاري، وبالتالي في الواقع الشعبي الحالي " (86).

يستفاد من هذا القول أن إفادة المدني من التراث العربي ليست مضمونية وإنما هي شكلية. وتتعلق، بالأساس، باستلهام مبدأ جمالي هو " الاستطراد " الذي ساعده على خلق شكل مسرحي مبتكر يتميز بالمرونة والحركية والتفاعل الجدلي، كما خلصه من سطوة التقنيات الغربية سواء كانت كلاسيكية أو حديثة. هذا بالإضافة إلى كونه قربه من الذهنية العربية.

لا يريدنا المدني أن نفهم من هذا القول أنه يصدر عن نظرة تقديسية للتراث مقابل نظرة رافضة للغرب، بقدر ما يريدنا أن نستوعب قيمة الإمكانات الجمالية التي يمدنا بها التراث، وأن نتعامل معها بكيفية تجعلها قابلة لاحتواء قضايانا الحالية، بمنظور جدلي.

لهذا، فإذا كان الاستطراد قد عرف كمبدأ جمالي في مختلف أشكال الكتابة العربية القديمة، فإن المدني يحاول تكييفه مع الواقع المسرحي، وذلك بتجسيده مسرحيا عبر " تعدد الأركاح "، وبالتالي عبر تعدد مستويات التشخيص. فالاستطراد هنا، سوف يتحول من "تقنية في الإنشاء الأدبي " إلى " تقنية مسرحية "، أو بالأحرى إلى تقنية ميتامسرحية. ولعل هذا ما نستشفه من خلال التحديد الذي يعطيه المدني للاستطراد بالاستناد على تصورات عربية سابقة.

يقول في هذا الصدد : " و" الاستطراد " في القديم قد اتبع في أنواع الأدب كالشعر، والقصة، والمقال، وفي كتب اللغة، والبلاغة، والفقه، والتفسير، والتاريخ، وهو ما يعتري المحور الذي يقوم عليه التصنيف، من الأحداث والأغراض، والكلام، والملح، والهزل، والجد، والأمثال، والعبر التي تأتي جميعها حسب عفو الخاطر، وسريان السليقة، واختلاج الملكة، بلا روابط، ولا شمول، ولا عمق، بغية امتاع القارئ والسامع وإفادتهما. ولعله أيضا ذاك الذي سمي " عيبا " في التأليف العربي القديم وهو التداخل في الأغراض، والتراكب في الأحاديث، وإلقاء الكلام على عواهنه، وتكديسه على بعضه البعض. ولعله ثانيا سرد روايات متعددة، وربما متناقضة لحدث واحد. ولعله ثالثا إيراد تحليلات وتأويلات كثيرة تعليقا على ما غمض في إحدى جزئيات رواية من الروايات. والاستطراد عندي هو ذاك في خطوطه العريضة، وفي مستوياته المختلفة التي ذكرتها والتي لم اذكرها حيث تكون كل جزئية ترتبط بسائر الجزئيات المكونة له، وتتفاعل معها، بلا اعتباط، ولا عفو، ولا خلط، وإنما عمدا وقصدا، من أجل استحواذ على الواقع المتشعب من معظم أوجهه. لذلك، اقترحت في بداية هذا البيان أن تكون أركاح هذا الديوان المسرحي متعددة ومختلفة المستويات حتى تلائم ما جاء فيه من عمل درامي" (87).

واضح من هذا التحديد أن عز الدين المدني - على الرغم من اعتماده على تصورات قديمة حول الاستطراد - حاول بلورة مفهوم خاص يمكن أن نميز فيه بين بعدين أساسيين : بعد جمالي وبعد إيديولوجي. الأول يجعل منه تركيبا قصديا لمجموعة من الجزئيات أو التفاصيل المسرحية التي تجسد بواسطة تعدد مستويات التمثيل موازاة مع تعدد الفضاءات الركحية. والثاني يجعل منه نوعا من الاحاطة الشاملة بالواقع المتشعب. فمادام الواقع لا يقدم نفسه في صورة واحدة متجانسة وإنما في صور متعددة ومتناقضة، فإن استيعابها مسرحيا لا يمكن أن يتم إلا بواسطة "الاستطراد المسرحي " الذي يتعين تهيء الشروط الفضائية لتشخيصه.

وإمعانا من المدني في مسرحة الاستطراد، فإنه يقدم نصا قائما على أساس قاعدة "احتفالية جماهيرية "، أو بالأحرى " ديوانا مسرحيا " تتظافر فيه أشكال تعبيرية وفنون مختلفة يتيامن فيها المنظور والمسموع والمنطوق.

في ضوء هذه المعطيات، يتعين وضع مسرحية " ديوان الزنج " قصد استخلاص طبيعة اشتغال الممارسة الميتامسرحية فيها، واستيعاب أبعادها الجمالية والإيديولوجية في آن واحد.

تقوم مسرحية " ديوان الزنج " على أساس مسرحة التاريخ وتأمل هذه المسرحة في الآن نفسه. لذا، يتمفصل النص عبر أركاحه الثلاثة إلى مستويات مختلفة من التشخيص : أولها درامي ينبني على حدث مسرحي، وثانيها ميتامسرحي يسائل من خلاله الكاتب قضايا مسرحية مختلفة، وثالثها سردي يقوم على الرواية التاريخية.

يمكن القول إننا أمام نص تحكمه بنية جدلية تتضمن أطروحة ونقيضها ثم تركيبا نهائيا لها. يجسد الأطروحة الحدث الدرامي المتصل بمجلس الزنج وهو يتدارس قضايا مصيرية تتعلق بالحرب والسلم، ويحاول التفاوض وإعادة الاتفاق مع وفد بني العباس بخصوص أمور خلافية كثيرة. بمعنى أن الأطروحة هي، في الواقع، عرض حدث تاريخي وفق وجهة نظر محددة هي وجهة نظر مؤلف الديوان، وهو ما يؤكده هو نفسه عندما يتدخل مباشرة في الركح الثاني :

" الكاتب عند نهاية العمل الدرامي في الركح الأول :

هكذا قرأت تاريخ ثورة الزنج. وإني لم أعلق عليها تعيلقا شخصيا. فكل قصد ظاهر أو خاف لا وجود له إلا في ذهن المتفرج. إني بريء من كل زيغ. إني بريء من كل تحريف. إني بريء من كل تأويل " (88).

هذا المنظور التاريخي المجسد مسرحيا يجد نقيضه في الرواية التاريخية لثورة الزنج على لسان الطبري مؤلف " تاريخ الرسل والملوك " الذي سيقدم صورة مخالفة تماما عن الزنج وعن زعيمهم علي بن محمد الذي يصف ثورته ب" فتنة الخبيث الخائن ". إلا أن مشاهدة العمل الدرامي الذي يشخص ثورة الزنج مسرحيا، سرعان ما سيتمخض عنها تركيب جديد هو عبارة عن وجهة نظر تصحيحية يتبناها الطبري ويعلن عن ضرورة مراجعة التاريخ من جديد :

" أبو جعفر بن جرير الطبري : (عند انتهاء العمل الدرامي في الركح الأول)

لقد عدت من سباخ البصرة وراعني ما شاهدته. وإني لمراجع ما كتبته في تاريخ الرسل الملوك في شأن ثورة الزنج. أيها الناس أنصتوا يرحمكم الله لا تعتمدوا كتابي. إني غالط فثورة الزنج لم تكن فتنة وعلي بن محمد لم يكن خارجيا. وعملة السباخ لم يكونوا عبيدا. راجعوا التاريخ ! راجعوا التراث ! رب أنعمت فزد " (89).

إن مسرحة التاريخ في الديوان ليست هدفا في ذاتها، وإنما هي ذريعة فقط قصد التأمل وإعادة التفكير في الكيفية التي يتم بها التعامل مع التراث والتاريخ. من ثم، فالديوان يقوم على آلية الهدم والبناء، أي هدم منظور تاريخي شوه ثورة الزنج واعتبرها فتنة، وبناء منظور بديل بأدوات مسرحية يسندها وعي فكري يصحح المنظور الأول.

لقد جعلنا هذا الوضع أمام بناءين مسرحيين : بناء حدثي تشخيصي، وآخر تأملي مفكر في الأول، أي ميتامسرحي. وكلا البناءين مؤسس على قاعدة الاستطراد. إلا أن الملاحظ أنه يتخذ فيهما مظاهر مختلفة تتصل بالوظيفة المنوطة به إما في السياق الحدثي أو في السياق التأملي.

ففي الركح الأول يتم التأشير علىالاستطراد نصيا، مع التنصيص على وظيفته المشهدية أو التواصلية. في الحالة الأولى يشكل الاستطراد نوعا من الاستذكار أو الومضة الاسترجاعية التي تم تشخيصها عبر مشهد تمثيلي مضاعف يستعيد عهد الدعوة وإنشاء مجلس ثورة الزنج في السر. وعليه، فالاستطراد هنا ارتبط بنوع من التمسرح المضاعف. وفي الحالة الثانية اتخذ وظيفة تواصلية حيث أسند إليه نفس الدور التقديمي الذي يناط عادة بالتقديم في المسرحية التقليدية. لقد استعمل كوسيلة لتقديم الوفد الرسمي العباسي الذي جاء من أجل التفاوض مع الزنج، إلى الجمهور.

والملاحظ هنا، أن المؤلف نفسه هو الذي اضطلع بمهمة التقديم هاته. فالمسرحية تؤكد أن كاتبها منخرط في الحدث المسرحي وفي عملية التفكير في هذا الحدث، في آن واحد. لهذا، فهو يتخذ موقع المؤلف - الملحمي بالمعنى الذي تحدث عنه سارازاك في "مستقبل الدراما".

وإذا كان الاستطراد يشكل عنصرا مدمجا داخل بنية الحدث الدرامي في الركح الأول - مما يجعله استطرادا حكائيا - فإنه يتخذ في السياق الميتامسرحي للركح الثاني أبعادا أخرى ميتانصية وتناصية في آن واحد. من ثم، نلاحظ أن المؤلف يخرج إلى الواجهة كي ينخرط في سيل من التساؤلات حول قضايا عديدة تهم المسرح منها : كيفية بناء مسرح عربي، ماهية المسرح، الموضوعات المسرحية، قانون اللعبة المسرحية، إمكانية إعادة كتابة التراث مسرحيا ...إلخ، كما يتدخل أيضا قصد التعليق على الحدث الدرامي الذي تدور وقائعه في الركح الأول. ولعل وظيفة التعليق هاته هي التي تحول الاستطراد إلى ممارسة ميتانصية.

علاوة على هذا، فالاستطراد في الركح الثاني يصبح ممارسة تناصية يتم من خلالها استحضار أشعار لابن الرومي يرثي البصرة، وأبي العلاء يخاطب ملوك البلاد، ويحيى بن خالد يهجو علي بن محمد وثورة الزنج، بالإضافة إلى مشهد صلب الحلاج. والملاحظ أن هذه النصوص كلها تصب في سياق الحدث الممسرح في الركح الأول. وسواء كانت لهذا الاستطراد الميتامسرحي وظيفة ميتانصية أو تناصية، فإن الخلفية المتحكمة فيه هي إعادة بناء التاريخ بطريقة موضوعية تحيط بالوقائع في مختلف تجلياتها.

وعليه، فالمسرحية منسجمة، من هذه الزاوية، مع ما سطره المدني في بيانه التقديمي عندما أكد أن استعماله للاستطراد يترجم الرغبة في الاستحواذ على الواقع المتشعب. فثورة الزنج لا يمكن أن يحيط بها خطاب تاريخي أحادي النزعة والتوجه كخطاب الطبري، لأن وقائعها متشابكة ووجوهها متعددة، لها مؤيدون ومعارضون، ومجلسها لم يكن متجانسا وديمقراطيا في كل حركاته، وبقدر ما كان هناك مثقفون يساندونها بقدر ما عمل البعض على محاربتها.

وانسجاما مع هذه الرؤية التي تحاول الإحاطة بالواقع المتشعب عبر مظاهر استطرادية مختلفة، اختار المدني قالبا نوعيا يتميز بنفس المرونة والتفاعل والجدلية التي يتميز بها الاستطراد، ألا وهو قالب " الاحتفال " أو " الديوان المسرحي ".

فإسناد صفة المسرحي إلى صيغة قديمة معروفة هي " الديوان " الذي من معانيه "مجتمع الصحف"، كما جاء في " لسان العرب "، يبين أن تعدد اللغات والأشكال التعبيرية هو القاعدة الأساسية لهذا العمل. وبالفعل، ف" ديوان الزنج " مسرحية تقوم على المزج بين المنظور والمسموع والمنطوق.

يتضح مما سلف، أن عز الدين المدني قد خلق لمسرحيته الشروط الكفيلة بتكييف الممارسة الميتامسرحية مع بنية حكائية تراثية هي الاستطراد. فقد عدد الأركاح مشهديا، ومسرح العديد من القضايا المتصلة بالمسرح، كما انخرط هو نفسه باعتباره مؤلفا في الحدث معلقا حينا ومنتقدا ومنظرا أحيانا أخرى. وقد حققت له بنية الاستطراد، من الناحية الجمالية، إمكانية التركيب المرن والجدلي للمشاهد المسرحية، كما سمحت له، من الناحيةالإيديولوجية، بالإحاطة بالواقع التاريخي في مختلف تجلياته، وبالقدرة على بلورة منظور متميز إزاء هذا الواقع، خال من التشويه والتحريف.

3. 2 - بنية التضمين: "مهرجان المهابيل" لمحمد مسكين:

يميز محمد مسكين في سياق توضيحه لمفوم الكتابة المسرحية النقدية، أو لما سماه ب" مسرح النفي والشهادة "، بين نوعين من النصوص المسرحية العربية : نص الذاكرة وهو نص مرجعي خاضع لسلطة التراث، ونص النفي وهو نص ذو بعد معرفي وجمالي. ويرى أن المسرح العربي وقع لفترة طويلة في مطب النص المرجعي مما فوت عليه فرصة ترسيخ مفهوم حقيقي للكتابة المسرحية يتعامل مع الواقع العربي بأدوات جمالية. لذا، فإن نص النفي اعتبر، بالنسبة إليه، هوالنص البديل لأنه ينطلق من اعتبار الكتابة فعلا تاريخيا يتم بأدوات فنية.

إن صيغة هذا النص البديل تجد سندها في مفهوم خاص عن الكتابة المسرحية يشرحه مسكين قائلا : " إن الكتابة المسرحية لا تقف عند حدود البعد المعرفي وإلا تحولت درسا اجتماعيا باهتا. إنها تكتسب مشروعيتها الإبداعية من خلال إخضاع هذا البعد المعرفي إلى قراءة جمالية. إنها المعرفة الإبداعية الصادرة عن كنه العملية المسرحية نفسها. إن الكتابة المسرحية ممارسة لنوعين من الإدراك :

- إدراك عام للواقع ينبني على حدين أساسيين هما الجانب المعرفي والإيديولوجي.

- إدراك جمالي لهذا الإدراك الأول : أو إدراك الإدراك " (90).

في سياق هذا الإدراك المزدوج ينبغي وضع نص " مهرجان المهابيل " باعتباره تجسيدا لما يسميه مسكين بنص النفي، بمكوناته الثلاثة : المعرفي، الإيديولوجي والجمالي.

إن تأكيد مسكين على جمالية الكتابة هو الذي يفسر اهتمامه بمكون أساسي في مسرحية " مهرجان المهابيل " هو المكون الحكائي، ولعل هذا ما جعل عبد الكريم برشيد يتحدث في تقديمه للمسرحية عما سماه " سلطة الحكي" حيث يقول : " والمسرح أيضا حكاية وماذا يمكن أن تكون الحكاية سوى أنها محاولة للتحكم في الزمن. إنها نوع آخر من اللعب، وذلك بحثا عن لحظة صحو حقيقية. في الحكاية لا مجال للغياب ولا مكان للمحال. فالموتى أحياء والطيور تنطلق والمعجزات ممكنة. كل ذلك بفعل سلطة الحكي التي تعيد ترتيب العالم بشكل مغاير. وتظهر هذه السلطة في مسرحية (مهرجان المهابيل) بشكل خاص" (91).

سلطة المحكي هاته تم تجسيدها في النص عبر بنية مستقاة من التراث السردي العربي. إنها بنية التضمينEnchâssement التي تقوم عليها حكايات (ألف ليلة وليلة). وإذا كنا في مناسبة سابقة قد وقفنا على الكيفية التي جعل بها مسكين بنية التضمين قاعدة للتمسرح (92) فإننا سنحاول هنا الكشف عن الكيفية التي جعلت من هذه البنية سندا للميتامسرح، لاسيما وأننا أمام كتابة " تحمل تنظيرهـا داخلهـا. فهي تزاوج بين ممارسة الكتابة الإبداعية والكتابة النظرية " (93).

لابأس من التذكير بأن بنية التضمين التي كشف عنها تودوروف Totorov بخصوص " ألف ليلة وليلة " تقوم على التمييز بين حكاية كبرى متضمنة Enchâssante هي حكاية شهرزاد الخاضعة لمبدأ " احكي حكاية وإلا قتلتك "، وحكايات متضمنة Enchâssés هي نفس الحكايات التي تتكون منها " ألف ليلة وليلة ".

على غرار هذا التمييز، يقوم الحكي في " مهرجان المهابيل " حيث تقدم المسرحية حكاية كبرى هي حكاية شهرزاد التي تروي - بناء على طلب القاضي - جريمتها وتعيد سرد وقائعها. ومجموع هذه الوقائع هو ما تتكون منه الحكايات الصغرى أو " السفرات " التي تتشكل منها المسرحية والتي يفضي بعضها إلى البعض الآخر.

إن بنينة محكي المسرحية على هذه الشاكلة جعلها تنخرط في مستويات لعبية متعددة بشكل حولها إلى إطار لخلق التكامل والانصهار بين الحكي واللعب. وبين ثنايا هذا الانصهار يتحدد طموح النص في اقتراح شعرية حكائية للعب المسرحي تقوم على أساس إعادة بناء مسرحية لصيغة تراثية هي التضمين. ويلعب المكون الدراماتورجي دورا أساسيا في هذه العملية مادام يقيم التقطيع المشهدي للحكاية على أساس متوالية لم نعهدها في التقليد المسرحي الغربي هي " السفرة ".

إن المسرحية تحاول، إذن، أن تبقى منسجمة مع طابعها السردي والدرامي في آن واحد. لذا، فهي بقدر ما تستثمر إمكانات المحكي في بعديه المسرود (حكاية عبد الصمد عن ذهابه إلى المستشفى) والوصفي (وصف المتهمة شهرزاد في المحكمة)، بقدر ما تستغل الإمكانات التي يتيحها اللعب المسرحي، وذلك باعتماد التحول في التشخيص، أو بعبارة أوضح بتبني مفهوم الدور عوض مفهوم الشخصية لإضفاء الدينامية على اللعب والتخلص من صيغة الطبائع الثابتة التي تقوم عليها الشعرية الكلاسيكية (عبد الصمد يتحول بين دور المتهم ودور القاضي في المحكمة). هذا بالإضافة إلى كشف اللعبة المسرحية اعتمادا على تقنية الراوي الذي يدعو الممثلين في الاستهلال إلى الدخول إلى الخشبة، كما يكشف عن موضوع المسرحية عبر خطاب مباشر موجه إلى الجمهور :

" ع. الصمد : سنبدأ سادتي الكرام جلستنا كما كل واحد يبدأ موته .. ونبدأ عروبتنا كما نبدأ موتنا .. في الليلة هذه نحاكم عروبتنا .. نحاكم الدم فينا .. نحاكم الوجود فينا .. نحاكم الخيال فينا .. نحاكم ليالينا .." (94).

ولفك رموز كلام الراوي عبد الصمد، وفتح اللعبة على مصراعيها للجمهور وجعلها أكثر شفافية، يتدخل القاضي ليشرح للجمهور ماذا سيجري في المسرحية :

" القاضي : ( موجها كلامه للجمهور) ملاقيكم الليلة وبين أحضاني ملف ليس كالملفات. ملف أبطاله كل الشحاذين ومقطوعي الجذور .. كل الفقراء والضائعة نعالهم. ومن ضاع نعله ضاع عقله .. نحاكم الليلة ما يسمى بالليالي .. والمقصود بها أعزكم الله كتاب الألف ليلة وليلة .. وهو كتاب مشبوه كما تعلمون، يتحدث عن النشوة والشهوة وأشياء لا تقال .. كتاب فيه إساءة لتطورنا وحضارتنا .. كتاب يتحدث عن مدن لا تشبه مدينتنا وهي مدينة العز والعقل والعرفان "(95).

يتعلق الأمر، إذن، بمحاكمة المتخيل العربي مجسدا في حكايات شهرزاد. وتوضيح ذلك للجمهورهو إشراك له في عملية التفكير والتأمل المتعلق بهذه الحكايات وبمفهوم "الخيال" ذاته باعتباره مكونا أساسيا من مكونات الكتابة المسرحية كما يراها محمد مسكين وكما ينظر لها في بيانه حول " مسرح النفي والشهادة ".

إن إثارة قضية المتخيل كموضوعة مسرحية هو ذريعة لإبراز بعض المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها كتابة النفي باعتبارها كتابة جمالية للواقع. ولعل هذا ما نستشفه بوضوح من خطاب القاضي وهو يتحدث إلى شهرزاد :

" القاضي : إياك والخيال .. إذا دخلت الخيال خرجت من الغياب، وإذا خرجت من الغياب دخلت الحضور.. وإذا خرجت من الحضور دخلت الشهادة. وإذا خرجت من الشه-ادة دخلت الذكر .. وإذا خرجت من الذك دخلت الفضح .. وإذا خرجت من الفضح دخلت التعرية، والتعرية اللهم استرنا منها حتى تبقى عورتنا مستورة .. أنت سكين يريد تمزيق الحجبوما يخفى يا شهرزاد " (96).

فإذا كان مسرح النفي والشهادة يعتبر الكتابة شهادة على زمنها وكشفا له في آن واحد عبر مكونات جمالية يختزلها مفهوم " الخيال "، فإن شهرزاد تصبح هي المؤسس الرمزي لمسرح يعد محمد مسكين مؤسسه الفعلي. ومادام هذا المسرح يستمد من شهرزاد أداته الأساسية التي هي الخيال، فليس غريبا أن يحاول بنينة متخيله في مسرحية "مهرجان المهابيل " بطريقتها، وذلك باستعمال بنية التضمين.

وحتى يبقى " مسرح النفي والشهادة " وفيا لروحه المسرحية، فإن بنية التضمين تنخرط في سياقات لعبية جديدة لتصبح مطية للمضاعفة المسرحية. في هذا الإطار، يلاحظ أن المسرحية تضمن شكلا فرجويا هو " الأوبيريت Operette " بشكل يتلاءم مع مسار الحكي . فهذا التضمين ارتبط بالحكاية الخاصة بدنيازاد عندما أرادت أن تروي قصتها مع الغناء والصوت الذي ضاع منها.

إن خلق مضاعفة مسرحية من هذا النوع له ما يبرره لدى محمد مسكين ف" كتابة النقد والشهادة هي كتابة جسدية بكل تفاصيل الجسد وإغراءاته وهذا من خلال تألقها أمام الناس عبر أجساد الممثلين " (97).ولكونها كذلك، فهي تحرص على ما يجعلها أقرب إلى فنون الأدب (شعرية الحكي) وفنون الفرجة (الأوبيريت) في آن واحد.

وانسجاما مع تداعيات الحكي التي تجعل الحكايات تتناسل ويتضمن بعضها بعضا، تلجأ المسرحية إلى التمثيل داخل التمثيل قصد تشخيص بعض المشاهد المتصلة بحكاية شهرزاد (اللقاء بين شهرزاد ودليلة، مجلس الأنس بين شهرزاد وشهريار). لذا، فالتضمين يتراوح بين مظهر سردي تقسم فيه الأدوار تلقائيا بين سارد (عبد الصمد،الحمال) ومسرود له (القاضي الذي يساهم في نمو عملية السرد بتعليقاته وتساؤلاته)، ومظهر درامي يقوم على مشاهد مسرحية مضاعفة.

واضح، إذن، أن الحكي في " مهرجان المهابيل " هو الموضوع والأداة، هو وسيلة التفكير والمفكر فيه في آن واحد. وعليه، فلا نستغرب وجود تداخل عميق بين الإبداعي والتنظيري داخل هذا النص المسرحي، بشكل تصبح معه الشخصية لسانا ناطقا باسم الكاتب، تعبر عن منظوره الجمالي والإيديولوجي إزاء الكتابة المسرحية.

وخلاصة القول إن مسرحية " مهرجان المهابيل " تبرز طموح محمد مسكين في إنشاء شعرية للمحكي المسرحي العربي. تتجسد قاعدته في مفهوم " المتخيل "، وتتحدد بنيته في تشخيص مزدوج لصيغة " التضمين " : تشخيص سردي يتم من خلاله تكييف بعض المكونات السردية مع النص المسرحي، وتشخيص درامي يخلص من خلاله النص لمكونات التمسرح.

ولشعرية المحكي المسرحي في " مهرجان المهابيل " بعد آخر يتصل بـ"إدراك الإدراك " الذي تحدث عنه مسكين في بيانه التنظيري. من هنا، يمكن القول إن هذه المسرحية بقدر ما تحمل مؤشرات عمل يندرج ضمن ما يسمى ب" الأشكال التأملية "، بقدر ما تضمر علامات تبرز أنها تتأمل ذاتها وواقعها في آن واحد. فمحاكمة المتخيل هي، في النهاية، محاكمة واقع تخنق فيه الحريات وتصادر الحقوق (الحق في الخيال) وينخره الفساد السياسي والأخلاقي (رموزه هي شهريار، الغراب ودليلة) ولا يقيم اعتبارا للقيم الإنسانية الأصيلة (وأد العلاقة بين عدنان وشهرزاد).

إن شعرية المحكي المسرحي عند مسكين، إذن، هي شعرية مفتوحة على الواقع، منه تستلهم الحكايات، وعلى أساس تشابك وقائعه تقيم نسيجها النصي الذي يجعل هذه الحكايات تتناسل ويتضمن بعضها بعضا.

3. 3 - بنية التمثيل :" البحث عن رجل يحمل عينين فقط "للمسكيني الصغير :

إذا كان الميتامسرح في " مهرجان المهابيل " قد أقيم على أساس محاكمة المتخيل العربي مجسدا في حكايات " ألف ليلة وليلة " وراويتها شهرزاد، فإن مسرحية " البحث عن رجل يحمل عينين فقط " تبني مظهرها الميتامسرحي على نفس الأساس، أي محاكمة المتخيل العربي، لكن من خلال تجسيد آخر هو مسرح " خيال الظل " والمخايل الشهير ابن دانيال.

وإذا كانت المحاكمة الأولى قد استوحت بنيتها الحكائية من " ألف ليلة وليلة " نفسها، فإن المحاكمة الثانية اختار لها المسكيني الصغير صيغة أقرب إلى روح المسرح وخيال الظل في آن واحد، هي بنية التمثيل التي تمت إقامتها دراماتورجيا على أساس متوالية من إفراز خيال الظل نفسه هي ما يسمى ب" البابة ". والبابة، كما هو معلوم، هي المسرحية الواحدة من مسرحيات خيال الظل. وقد اشتهر ابن دانيال ببابتين معروفتين هما: بابة طيف الخيال وبابة غريب وعجيب.

إن بنية التمثيل كما يجسدها نص مسرحية المسكيني الصغير تتأطر بمنظور جمالي وإيديولوجي في آن واحد، تلخصه لازمة تتكرر على لسان ابن دانيال يؤكد من خلالها أن: " ابن دانيال : الواقع أكبر من الخيال " (98).

وإذا عدنا إلى ما أوثر عن ابن دانيال المخايل التراثي، نلاحظ أن هذا المنظور نفسه هو الذي شكل قاعدة لتصوره عن خيال الظل. فقد قال : " وهو يصف ما قدمه في بابة " طيف الخيال " من فن ظلي ممتاز : " صنفت من بابات المجون .. ما إذا رسمت شخوصه وبوبت فصوله، وخلوت بالجمع، وجلوت الستار بالشمع، رأيته بديع المثال، يفوق بالحقيقة ذاك الخيال " " (99).

يستخلص من هذا، أن المسيكني الصغير لم يستوح فقط الأداة التخييلية (التمثيل الظلي) من ابن دانيال، وإنما أخذ عنه المبدأ الأساس الذي تقوم عليه والمتمثل في كون الحقيقة أو الواقع أكبر من الخيال. ويبقى الفرق القائم بينهما في طبيعة الحقيقة في علاقتها بزمن كل واحد منهما، لاسيما وأن المسكيني حاول تحيين بنية التمثيل الظلي ووسمها بملامح عصره.

يقوم الحدث في مسرحية " البحث عن رجل يحمل عينين فقط " على محاورة بين ابن دانيال المخايل وكراكيزه، وعلى رأسها طيف الخيال. فهذه المخلوقات المتخيلة تحاول نفض غبار السنين عن مخايلها وتدعوه إلى إعادة تحريكها من جديد، وإخراجها من الصمت، وتحريرها من الرطوبة والأرضة. ذلك أنها ترغب في تشخيص مهزلة الدهر، وفي حياة جديدة تلائم الزمن الجديد. لذا، تقترح على ابن دانيال جمعها في بابة جديدة تجسد قضايا العصر وآفاته :

" الكراكيــز: اجمعنا يا معلمنا في بابة جديدة ... اصنع منا شيئا عجبا.

ك الشــاب: لنشخص الحرب والسلام.

ك الشيــخ: الحصار والمجاعة.

كركــوزة : نمثل ما يجري في المؤتمرات.

ك الغريب : نشخص الغربة.

الكراكيز : نحن الحرف والجملة واللسان.. نحن مناجل تحصد شجرة الحنظل اعطنا دور الشمعة والقنديل.. دور الفأس والعاصفة.. دور المطر والسيول والأنهار.. دور الفجر والنهار " (100).

وعلى الرغم من إصرار الكراكيز واندفاعها الكبير، فإن ابن دانيال لم يستطع التجاوب معها، لأنه ينطلق مما تراه عينه من جور واستبداد وفساد في " واقع أكبر من الخيال ". لهذا، فهو يشعر أن " هذه الأرض لا تقبل لغته "، وبالتالي يدعو الكراكيز إلى الابتعاد عنه. لكن إصرار الكراكيز سرعان ما سيؤدي بها إلى مصير مؤلم حيث ستشنق وتصلب أمام باب المدينة لأن تشخيصها فضح العديد من مظاهر الفساد الاجتماعي والسياسي.

لقد جعل هذا المصير ابن دانيال يقتنع بأن لعبة التشخيص " لا تحل عقدة لسان "، ولا بد من الانتقال من الكلام إلى الفعل. لهذا، جعل من محاكمته مناسبة لإعلان هذا الموقف الجديد والتبشير ببابة ثالثة مفتوحة على الناس والمستقبل :

" ابن دانيال : .. أبلغ الناس يا سيدي القاضي أني نكست القلاع .. وأن البابة الثالثة بداية الفعل" (101).

ولتقريب هذا الموقف من الجمهور، وبالتالي تحيين خطاب ابن دانيال، لجأت المسرحية، في النهاية، إلى مخاطبة مباشرة على لسان طيف الخيال :

" (يدخل طيف الخيال .. يدفع العربة والصندوق .. يجمع الكراكيز المصلوبة والمشنوقة ويضعها في العربة)

الخيــال : .. أيها الناس ..أبلغوا الأطفال .. أطفال المدن المحترقة، أطفال المدن المسجونة أطفالكم، أطفال الغد .. هذه صور الحقيقة المتحركة خلف الستارة .. اختاروا في أعيادكم المقبلة كراكيز جميلة لتشخصوا بداية الفعل .. قولوا في التقديم .. اصرخوا .. نطالب بمسرح يعلن الحقيقة، يدين التجارة في الناس .. أيها الناس حركوا كراكيزكم المقبلة شمالا ويمينا من أجل أن يتحرك الوطن .. وأشجارالوطن .. طرق الوطن .. حجر الوطن .. بحر الوطن.فالبابة الثالثة بداية الفعل !! هذا مسرح ابن دانيال .. وأنا الوصية الصارخة .. وأنتم الوارثون يا أطفال هذا الوطن، حركوا كراكيزكم المقبلة، من أجل أن يتحرك الوطن، أشجار الوطن .. بحر الوطن .. حجر الوطن .. " (102).

وإذا كان هذا ما يجري في عالم الكائنات المتخيلة التي تحاول رسم ملامح واقع جديد، فإن ثمة عالما آخر في المسرحية تتشكل ملامحه بموازاة هذا العالم الأول من خلال رموز كهولاكو المتجبر وكبير التجار وشيخ الدراويش، الذين تؤكد أفعالهم أنهم يمثلون الفساد الاجتماعي والسياسي في مجتمع ابن دانيال. ومادامت درجة فظاعة هذا العالم ليست في مستوى واحد، فإن مستويات تشخيصه تراوحت أيضا بين المحاكاتي والخارق (مشهد الكهان المجسد بواسطة الخيال العلمي).

إن بنية التمثيل في مسرحية المسكيني الصغير بنية مرآوية Spéculaire تفصح عن نص يشتغل كمرآة لذاته من جهة، ولواقعه من جهة أخرى. يتبدى البعد الأول من خلال التفكير في المتخيل الظلي، حيث تحاول الكراكيز استعادة الدور الترفيهي والانتقادي لخيال الظل في مجتمع يسوده الفساد الاجتماعي والتسلط السياسي. ومن عمق هذا التفكير في المتخيل ينبجس التفكير في الواقع وتتحدد ملامح البعد المرآوي الثاني للنص.

ويبدو أن المسرحية باستلهامها لنفس الخلفية الجمالية لخيال الظل، تستعيد أيضا نفس الوظيفة التي كان يضطلع بها هذا الشكل الفرجوي في المجتمعات القديمة التي أفرزته. فعلى الرغم من الحظر الذي طاله في بعض الأحيان، وأدى إلى إحراق شخوصه وأدواته - كما يشير إلى ذلك الدكتور عبد الحميد يونس - فإن هذا الفن قد استمر " يقوم بوظيفته كمرآة مجلوة يرى فيها المجتمع عيوبه ونقائصه ويشيع البهجة في نفوس المتفرجين عليه، المستمعين لعظاته، ومن هنا اتسم خيال الظل في كل تاريخه بما يتسم به الرسم الكاريكاتيري من المبالغة في إبراز العيب، وتأكيد الصفة والإخلال بما ينبغي من تناسب بين أجزاء الرسوم، وفي هذا تعبير آخر غير ارتباط الإرادة الإنسانية بإرادة أقوى منها. وهذا التعبير الفلسفي هو أول مقومات المهزلة في الفـن المسرحي، ونعني به عدم الاندماج النفسي في الصورة المعروضة، مع قلة الاحتكام إلى العقل في تأملها " (103).

إن الصيغة التي يبنين بها الخيال الظلي في مسرحية المسكيني تستحضر هذه الأبعاد الجمالية والانتقادية، لكنها لا تبدي اهتماما بالبعد الميتافيزيقي لهذا الفن، الذي شرحه عبد الحميد يونس، بقدر ما تعنى بقدرته التشخيصية للواقع الجديد. لذا، فمقومات الهزل والسخرية والتصوير الكاريكاتوري حاضرة بقوة في المسرحية، نظرا لكونها آليات أساسية في نقد الواقع. في هذا الإطار نجد كراكيز مشنوقة ومصلوبة، وشيخ الدراويش سكرانا، والكهان يلبسون لباسا يشخص الخيال العلمي، والدراويش شبه عرايا يتحركون كالعميان أو كالنائمين.

إن ما تعلنه المسرحية، في النهاية ، على شكل نوايا أو استشرافات، هو ما تقيم دعائمه، حقيقة، عبر متخيلها. ذلك أن " مسرح الحقيقة " الذي تحدث عنه طيف الخيال يستند على مبدأ حدده، سلفا، ابن دانيال نفسه هو كون " الواقع أكبر من الخيال ". وعليه، فتشخيص مثل هذا الواقع لا تكفيه الكلمة وحدها بل ينبغي تتويجها بالفعل. يمكن القول،إذن، إن " مسرح الحقيقة " في النص هو مسرح تحريضي له كراكيزه الخاصة، وله وظيفته الإيديولوجية الواضحة وهي " تحريك الوطن " من أجل تغييره.

إن بنية التمثيل الظلي تتحول إلى قاعدة لإرساء مفهوم مسرحي، يلاحظ هنا أنه يحاول تمثل الروح البريشتية بنيويا ورؤيويا أيضا. من ثم، تتحول البابات إلى متواليات لترسيخ المنفصل، وضرب الإيهام، ودفع المتفرج إلى تأمل بشاعة الواقع الجديد. كما أن تتويج التخييل المسرحي بالدعوة إلى الفعل في هذا الواقع، يبرز إعادة إنتاج صريحة لوظيفة المسرح كما تحدث عنها بريشت.

فكأننا، إذن، بالمسكيني الصغير يحاول خلق نوع من الملاءمة بين جمالية مسرحية غربية وبين شعرية للمحكي المسرحي تقوم على بنية التمثيل الظلي. ولعل هذا ما جعل من " البابة " متوالية دراماتورجية ملحمية، وجعل التمثيل يقوم على الغرابة أحيانا وعلى كشف اللعبة المسرحية أحيانا أخرى. لكن ليس من أجل أهداف جمالية محضة، وإنما من أجل أهداف إيديولوجية تجعل من المسرح فعلا في الواقع يساهم في التغيير.

يستخلص من هذا، أن تحويل اهتمام التجريب في النص المسرحي العربي نحو المتخيل - كما هو الشأن هنا عند المسكيني الصغير - قد فتح للممارسة الميتامسرحية آفاقا جديدة جعلت من الصيغ التراثية صيغا حداثية، وسمحت للكاتب المسرحي بالاشتغال، بنوع من الحرية، على بنيات مختلفة المشارب مع إمكانية خلق انسجام بينها بما يخدم جمالية الكتابة من جهة، وعلاقتها بواقعها من جهة أخرى. بعبارة واحدة، يمكن القول إن الاشتغال على المتخيل داخل النص المسرحي قد جعل ابن دانيال بريشتيا، كما حول بريشت إلى مخايل محرض على تحويل المسرح إلى فعل في الواقع.

3. 4 - بنية التناظــر: " الأيـام المخمـورة " لسعـد الله ونـوس:

في سياق إجابته عن سؤال لماري إلياس حول كتابة " الأيام المخمورة " يتعلق بمدى انشغاله بعملية الكتابة في حد ذاتها أم بموضوع المسرحية، أجاب سعد الله ونوس قائلا : " هذه هي خصوصية الكتابة للمسرح بالنسبة لي. إنني أفكر بالمسرح وبالموضوع الذي أكتبه. إن أية كتابة للمسرح هي، دائما، هذان الشيئان المتلازمان اللذان سبق وتكلمنا كثيرا عنهما وهما : مضمون وموضوع المسرحية من جهة، وإعادة نظر في المسرح ذاته كأداة تعبير أو كجنس أدبي وفني من جهة أخرى. لابد أنك لاحظت، خلال أحاديثنا الطويلة إلى أي حد يشكل المسرح كبنية هاجسا بالنسبة لي. وأنا غالبا ما أشعر أن هذه البنية التي سبق واستخدمتها سابقا، قد استنفذت، وأني لم أعد قادرا على تكرارها أو استعادتها. إن نجاح المهمة، بطبيعة الحال يتوقف على التجانس بين الرؤية التي تحملها المسرحية والبنية الجديدة التي يقترحها أو يلجأ إليها الكاتب. في عملي الجديد، هناك محاولة لنسف شكل ما من أشكال المسرح وإغناء إمكانياته. هناك اعتماد كبير على أشكال متنوعة من السرد، بمعنى أن السرد لم يعد مجرد عنصر خارجي عن الحدث عبر راو أو حكواتي" (104).

يقدم هذا الجواب مفاتيح أساسية للاقتراب من مسرحية " الأيام المخمورة " سواء على مستوى البنية أو الرؤية. فبنية المسرحية تقوم، شكليا، على استراتيجية سردية، كما تنبني، موضوعاتيا، على التفكير في قضايا مختلفة موازاة مع إعادة النظر في المسرح ذاته من حيث كونه أداة أو جنسا تعبيريا. ولهذه البنية علاقة وطيدة بالرؤية التي تحملها المسرحية. ويتضح من كلام سعد الله ونوس أن الرؤية عنده تحمل بعدا مزدوجا : فنيا وإيديولوجيا في آن واحد. يتعلق الأمر، من الناحية الفنية بنسف شكل مسرحي مستنفذ، ويصبح هذا النسف، من الناحية الإيديولوجية متعلقا بنظرة معينة إزاء الواقع يحملها هذا الشكل. وقد عبر ونوس نفسه عن هذا النسف الإيديولوجي، في سياق آخر، بـ" كسر القدسية Démystification ".

يمكن القول إن مسرحية " الأيام المخمورة " تستند على خلفية ميتامسرحية واضحة المعالم، بنيويا ورؤيويا. تتجسد أدواتها في تنويع مستويات السرد وتضمين خطاب تأملي حول أداتية المسرح ووضعه النوعي، وتطمح بالتالي إلى إقامة شعرية للمحكي المسرحي تقوض بنى مستهلكة وتقيم مقامها بنى جديدة، وذلك في أفق البحث عن القاعدة التي تسند رؤية تدنيسية إزاء الواقع.

والمثير للاهتمام في مسرحية " الأيام المخمورة " هو أن لعبة السرد تبقى بمثابة الأرضية الصلبة التي اشتغل عليها ونوس بإتقان، مادام يعتبرها وسيلة أساسية لبلورة تصوره عن المسرح والواقع في آن واحد. فالنص عبارة عن تركيبة مسرحية تستثمر الإمكانات التعبيرية للسرد بما فيها : تعدد الرواة، تراكب الحكايات، الإنتشار السردي واختزالية السرد، وذلك قصد تشييد متخيلها الذي تستوعبه بنية عبر عنها ونوس نفسه بالتناظر أو التعاكس.

ففي سياق حديثه عن الأسلوب المعتمد في تقطيع نص " الأيام المخمورة "، يؤكد" : " ليس لدي فصول أو مشاهد، وليس هناك أي تقطيع تقليدي. هناك مشاهد أو مواقف متسلسلة، تتقطع بالسرد والأراجوز. في الكتب العربية القديمة كانوا يستخدمون في التأليف فقرات وكانوا يسمونها فصولا، ولكنها لم تكن فصولا بالمعنى الحديث. قد يكون هناك نوع من الترابط بين الفصول، ولكن قد يخطر للكاتب أن يقوم بنوع من الاستطراد ليقول فكرة لا علاقة لها مباشرة بالموضوع، وبما أنه لا يرتبط مباشرة بالموضوع الأساسي يمكن ربطه عبر التناظر أو التعاكس إلخ. وعبر هذه العلاقة نصل إلى المعنى العام" (105).

إن بنينة المسرحية على أساس مبدأ التناظر أو التعاكس أو التوازي السردي، جعل منها نسيجا متشابكا من الحكايات محكمة الصوغ، متصلة الخيوط وممتدة الأنسجة بشكل يخدم الرؤية التي يعكسها النص إزاء عالم مفكك أسريا واجتماعيا، وفاسد أخلاقيا وسياسيا.

تحكي مسرحية " الأيام المخمورة " عن حفيد اكتشف مع نمو إدراكه وفضوله قرائن (الجدة المنسية التي لا يزورها أحد) تدل، بشكل يقيني، أن في عائلته دملا يتستر عليه الجميع، واقتنع أنه لن يستقر في اسمه وهويته إلا إذا اكتشف هذا الدمل وفقأه. ولم يكن هذا الدمل، في الواقع، سوى حقيقة عائلة انفجرت من الداخل بسبب هروب الأم مع عشيقها بشكل نجم عنه تشتت أفراد العائلة وانخراطهم في مسارات مختلفة - بعضها مشبوه - تعكس كلها واقعا يعج بالتناقضات والحقائق الأخلاقية والسياسية الرهيبة.

لقد فتحت عملية البحث عن حقيقة دمل العائلة للنص آفاقا سردية وتخييلية واسعة، يؤكدها النص نفسه المتكون من ست وعشرين فصلا معنونا، ويزكيها نسيج الحكايات الممتد من البداية حتى النهاية، والذي يتناوب على سرد فصوله رواة متعددون، وتساهم في بنائه دراميا لقاءات وعلاقات ومواجهات بين الشخوص. إن مبدأ التناظر الذي يؤسس للعملية السردية في النص قد فتح المجال لما يسمى - بلغة الدراماتورجيا - بتعدد مشاهد العبور Scénes de transition التي تشكل مشاهد فرقة الأراجوز مكونا أساسيا من مكوناتها.

إن الحفيد الذي يتراوح وضعه في المسرحية بين السارد أحيانا والمسرود له أحيانا أخرى ينفي إمكانية الخوض في حكاية هذه العائلة عبر منطق تسلسلي، لأنها تتضمن العديد من الأوهام والفجوات. لذا، فالإحاطة بها سوف تتم دون تمحيص كبير ودون تركيز على حسن التتابع والتنسيق. وبالفعل، فبعد عملية البحث التي حولت النص إلى متاهة سردية تتناظر فيها الحكايات وتتوازى فيها مصائر الشخصيات، سرعان ما يقتنع الحفيد بخلاصة أساسية ترجمها الشاب العامل ضمن فرقة الأراجوز وهو يشخص دور الحفيد :

" الشاب : وجدت الدمل دمامل، والطريق إلى الحقيقة متاهات وفجوات. فلم أجد أمامي إلا أن أتخيل، وأركب المشاهد، وبدلا من الحقيقة أعـدت صياغـة العائلة في رواية " (106).

إن عملية إعادة الصياغة هاته جعلتنا أمام متخيل مسرحي قائم على أساس تركيب متناظر لعدة حكايات متوازية، تشتغل كمرايا بالنسبة لبعضها البعض، وهي:

- حكاية سناء الجدة التي هربت من البيت لتقيم مع عشيقها حبيب، وما تخلل هذه الواقعة من خلفيات الهروب (كتابة رسالة للزوج، إقناع ليلى بالتكتم) وآثاره على العائلة (فقدان ليلى القدرة على الكلام، خروج سرحان وسلمى من البيت وانخراطهما في عوالم اللذة والممنوعات). هذا بالإضافة إلى الوضع النفسي الذي عاشته سناء في بيت حبيب لاسيما بعدما وجدها ابنها عدنان وحاول قتلها، وهو الوضع الذي أدى إلى إصابتها بالاكتئاب والتفكير في الموت.

- حكايتا سرحان وعدنان. هذان الأخوان اللذان انحدرا من نفس البيت، لكن الأول الذي كان طالبا جامعيا سرعان ما تحول بمساعدة البوري إلى مهرب كبير استطاع تحقيق ثروة هائلة. أما الثاني الذي كان دركيا فقد انتهى إلى اليأس بعدما ظل طيلة حياته يدافع عن قيم ثابتة انهارت بسبب هروب أمه.

- حكايتا الأختين ليلى وسلمى. الأولى أم الحفيد الباحث عن حقيقة العائلة والتي تزوجت من شامل السيروان المناضل وعاشت حياتها معه إلى حين موته في معركة ضد الفرنسيين، والتي أصيبت بإحباط شديد من جراء هروب أمها. أما الثانية فقد اختارت الخروج من البيت ونحتت لنفسها مسارا مشبوها سرعان ما جعلها تصادف أخاها سرحان لتصبح شريكته في تجارة اللذة.

- حكاية عبد القادر الطحاوي الأب الذي طعن في شرفه وكرامته بسبب هروب زوجته سناء، وهي حكاية تستعاد فيها سلوكاته في الفراش الزوجي وعلاقته المنهارة مع زوجته، كما تستعاد أيضا حالات الإحباط التي تصل حد البكاء والتي كانت تفجرها في دواخله تساؤلات عن سر هروب زوجته، وكذا تفكيره في الزواج ونسيان ماضي سناء التي كان هروبها سببا في نشوء خلاف تجاري مع أخيها بهجت.

- حكايات فرقة الأراجوز التي كانت تتخلل النص من خلال مشاهد، شخص في أولها فصل المفاخرة بين الطربوش والقبعة، ورويت في المشهد الثاني حكاية موازية لحكاية سناء تتعلق بالعشق الذي نشأ بين صفية الحافي والشاب ابن أخ زوجها رفقي الغازي المناضل الوطني، والذي أدى بها إلى ارتكاب جريمة العصر وذلك بتسميم زوجها قصد التفرغ لهذا العشق، وما نتج عن ذلك من محاكمة مثيرة. أما المشهد الثالث لفرقة الأراجوز، فقد كان هو " فصل الملاعب والخواتم " الذي سردت فيه حكاية المسرحية كلها بشكل جعلها تتحول هي نفسها إلى مجرد حكاية موازية للحكايات الأخرى.

كل هذه الحكايات التي حاولنا لم شتاتها هنا وتنظيمها بشكل يسمح باستيعابها، لا تقدم في النص بشكل مباشر، وإنما تخضع لنوع من التوزيع شبيه بالتوزيع الموسيقي، يلعب فيه الكاتب دور " المايسترو " الذي يعرف متى يأذن لهذا العازف أو ذاك، لهذه الآلة أو تلك، بأداء مقطعها. ويكاد يتحول أداء فرقة الأراجوز إلى ما يشبه " الكورال " مادامت مشاهدها هي صدى أو انعكاس لما يجري من أحداث في المسرحية. إن مشاهد هذه الفرقة تلعب دورا تجويفيا أساسيا داخل المسرحية.

إن نص " الأيام المخمورة " يقوم على تعدد وجهات النظر السردية، لأن الغاية منها هي الإحاطة بالحقيقة من وجوهها المختلفة. وهذا التركيب السردي هو تجريب لبنية تناظرية يتم تشخيصها والتفكير فيها في آن واحد، وذلك قصد إقامة شعرية للمحكي المسرحي تقوض بنية التسلسل والتتابع (وهي بنية أرسطية كما نعلم) التي تعكس في العمق نوعا من الإيديولوجيا القائمة على التناسق والانسجام، وذلك بهدف إقامة بنية تناظرية مكانها تحيط بالواقع المتشابك.

فالواقع ليس متناسقا حتى يخضع تشخيصه لمنطق التسلسل بل هو مركب من فجوات وأوهام ومتاهات تحتاج إلى الملء عن طريق الخيال، كما تحتاج إلى حفر متعدد المستويات بهدف كشف حقيقته الضائعة التي يشبه ضياعها ضياع " إبرة في مزبلة "، كما جاء على لسان الأراجوز.

وما دام بلوغ الحقيقة شيء صعب ومتعذر، فإن التعويض عنها يتم عن طريق الحكاية. فالأراجوز يقول بلسان سعد الله ونوس نفسه :

" الأراجـوز : الحكاية وحدها هي التي تخفف العذاب وتداوي الجروح.وحين تعلم الإنسان كيف يـحول مصائبه إلى حكايــات تتقاسمهـــا الآذان والريــاح والأزمان، كان يكتشف بلسما سحريا للجروح والآلام " (107).

ولعل ما يدفعنا إلى إقامة هذا الربط بين خطاب الأراجوز وخطاب المؤلف هو ما يفصح عنه مفهوم الكتابة ذاته عند سعد الله ونوس، ولاسيما في أيامه الأخيرة التي كان يواجه فيها شبح الموت بسبب إصابته بالسرطان.

فالكتابة عنده تحولت إلى نوع من " التحرر الشخصي " غايتها " امتحان الصواب " و" كسر القدسية " (108). ولتحقيق ذلك يلزم تشييد المتخيل المسرحي على أساس استراتيجية سردية واعية بذاتها وبقدراتها على تشخيص الواقع. من ثم، نفهم لماذا شكلت "الحكاية " مجال اشتغال ونوس في مسرحيته " الأيام المخمورة "، باعتبارها أداة للتشخيص وموضوعا للتفكير والتأمل في آن واحد.

ومما لاشك فيه أن مسرحية " الأيام المخمورة " عكست، بجلاء، أحد الهواجس الأساسية للميتامسرح التجريبي في النص العربي، وهو هاجس تشييد شعرية للمحكي المسرحي العربي. وقد اختارت التناظر كمبدأ جمالي نظرا لما يسمح به من تعدد في المسارات السردية وتنوع في وجهات النظر. هذا بالإضافة إلى قدرته التشخيصية للواقع المليء بالحقائق الغامضة والمتشابكة.

وعلى الرغم من استيحاء المبدأ الأساسي لهذه الشعرية من مخزونات التراث العربي، فإن الصيغة التي اتخذتها في نص " الأيام المخمورة " جعلت منها شعرية حداثية بكل المواصفات. وآية ذلك، أن المسرحية هي عبارة عن " نص مفتوح " شكليا ودلاليا يقوم على المزج الحاذق بين مكونات السرد والدراما، ويعكس رؤية تدنيسية ونسبية تؤمن بأن الحقيقة غامضة وغائرة ومتشابكة. إن هذه الشعرية تنبذ شعرية المحاكاة الأرسطية القائمة على الانسجام الحكائي (وحدة الحدث)، وتحاول تشييد مبادئ بديلة تعيد الاعتبار للمتخيل عوض الواقعي الذي يحظى باهتمام بالغ لدى أرسطو، ولا تقدم بالضرورة ما يوافق أفق انتظار المتفرج وبالتالي لا تخضع لمبدأ الاحتمال والضرورة، مادامت لا تقدم واقعا جاهزا أو حقيقة مهيأة سلفا. فالأمر يتعلق ب" امتحان الصواب "، وهذا الإجراء يحول النص إلى فضاء من الاحتمالات والتساؤلات التي يطلب من المتلقي أن يساهم في إيجاد جواب لها. فحكايات " الأيام المخمورة " قابلة لإعادة البناء حسب شروط التلقي من ثم يمكن القول إن شعرية المحكي المسرحي التي يشيدها ونوس هنا تخلق لنفسها إمكانات خاصة للتلقي، وهو ما يزكي نزوعها الحداثي.

4. تـركيـــــــــب :

يستخلص مما سبق أن ارتباط الميتامسرح باستراتيجة التجريب في النص المسرحي العربي، قد جعل الكاتب المسرحي العربي أكثر قدرة على تمثل الشعرية المسرحية الغربية ومناقشة مبادئها الأساسية وتكوين تصور خاص عنها، كما جعله من جهة أخرى، يفتح آفاق جديدة للكتابة الدرامية يتم من خلالها تكييف أساليب جمالية تراثية مع السياق الحداثي الذي تفرضه الممارسة الميتامسرحية.

إن الاستراتيجيات الثلاث التي انخرط فيها النص المسرحي العربي خلقت دينامية جديدة فيها تجاوزت مستوى تجريب البنى النصية لتبلغ مستوى الطموح نحو الإسهام في التراكم الذي حققته شعرية المسرح في الغرب. ولعل هذا ما خلق تقليدا جديدا محايثا للنص المسرحي، تمثل في محاورة شعريات كلاسيكية (الماغوط وشعرية أرسطو في صيغتها الشكسبيرية) أو حديثة (برشيد وشعرية بيرانديلو ثم الكغاط وشعرية اللامعقول)، مع محاولة ملاءمتها مع قضايا خاصة أفرزها المسرح العربي وكان مطلوبا منه صياغة موقف واضح منها وهي : علاقة المسرح بالتاريخ، وعلاقة المسرح بالمتلقي العربي. كما تمثل هذا التقليد، من جهة أخرى، في محاولة إنتاج شعريات ذاتية للمحكي، وذلك من خلال تمثل بنى تراثية كالاستطراد والتضمين والتمثيل والتناظر، واتخاذها إطارا للتشخيص والتأمل في آن واحد.

وقد كان طبيعيا أن يسمح هذا التوجه التجريبي بتنويع الممارسات الميتامسرحية بما يسمح بالانفتاح على كل البنيات الممكنة ومنها على الخصوص : المضاعفة المسرحية، التناص، المحاكاة الساخرة، وتعدد المنظورات السردية. وذلك موازة مع الرغبة في تطوير أساليب الكتابة المسرحية نفسها سواء من زاوية الإنتاج حيث لاحظنا استثمارالأفق الارتجالي ومحاولة بلورة ما يسمى ب" خطاب المخرج " في النص المسرحي العربي، وصياغة ملامح " صراع المسارح " على الطريقة العربية، أو من زاوية التلقي، حيث تم التركيز على كشف اللعبة المسرحية وذلك قصد خلق تقليد جديد يشرك الجمهور في صناعة الفرجة والتفكير فيها في آن واحد.

إن هذا الوعي بضرورة تطوير أساليب الكتابة الدرامية قد أفرز، بالتالي، قوالب نوعية جديدة تقوم على أساس إعادة النظر في الأنواع الدرامية الكلاسيكية وتخليص الممارسة الميتامسرحية من بعض الإطارات النوعية التي وضعتها فيها الشعرية الغربية ولاسيما منها : التراجيديا والكوميديا. فالنص المسرحي العربي يأخذ من هذه الأنواع بعض مكوناتها لكن لا يبقى رهين البنية النوعية المتواضع عليها في التقليد الغربي. من ثم، فإن النص المسرحي التجريبي العربي يتعذر وسمه بأسماء كالتراجيديا أو الكوميديا، لأنه يقدم نفسه، في الغالب، باعتباره " عملا مفتوحا Oeuvre ouverte " إن صح التعبير.

وانسجاما مع هذا الانفتاح، فإن هذا النص يحاول ترسيخ فكر تأملي ونزوع مرآوي يجعل منه أسلوبا في الكتابة وتأملا لهذا الأسلوب في آن واحد. لذا، لا نستغرب تواتر آلية التقويض والبناء في علاقتها بالأشكال الدرامية في أغلب النصوص التي قمنا بدراستها، مادامت هذه الآلية قد جعلت الكاتب المسرحي العربي ينظر إلى تجربته من الداخل ويطور تصوراته عن الكتابة عبر نصوص موازية للنص المسرحي تتابع تكوينه وتحكي عن مسار تشكله وتحدد، بطريقة إبداعية، مختلف المبادئ الأساسية لشعريته.

وما كان للكاتب المسرحي العربي أن يحقق ذلك لولا أنه حول مجال اهتمامه، أساسا، إلى مسألة " المتخيل " لأن التفكير في هذا الجانب جعل الكتابة المسرحية العربية تصبح أكثر معرفية، وبالتالي تقيم جسورا متينة مع مختلف العلوم الإنسانية. ولعل هذا التوجه هو الذي خلص هذه الكتابة من شرنقة الفهم الخاطئ" للتأصيل " وجعلها تدخل الحداثة المسرحية من بابها الواسع.

ومادام مبدأ الواقع يشكل رافدا أساسيا من روافد الكتابة، فقد حاول النص المسرحي العربي خلق نوع من الملاءمة بين البنية الميتامسرحية والرؤية التي تحملها هذه البنية، فالميتامسرح بالنسبة، للكاتب المسرحي العربي، ليس إجراء شكليا وحسب وإنما هو رؤية إزاء الواقع أيضا، هذه الرؤية التي لاحظنا أنها تتأرجح بين أبعاد ثلاثة هي : الوطني، القومي والإنساني.

هوامــش:

(31) محمد الكغاط ـ التجريب ونصوص المسرح ـ آفاق (مجلة اتحاد كتاب المغرب) ـ العدد3 ـ خريف 1989 ـ ص.22.

(32) ينظر في هذا الإطار ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ كتاب الدكتور عبد الرحمان بن زيدان : " خطاب التجريب في المسرح العربي " ـ مطبعة سندي ـ مكناس 1997.

(33) رولان بارث ـ نظرية النص ـ ترجمة محمد خير البقاعي ـ مجلة العرب والفكر العالمي ـ العدد 3 ـ صيف 1988 ـ ص.96.

(34) صبري حافظ ـ التناص وإشاريات العمل الأدبي ـ عيون المقالات ـ العدد 2 ـ 1986 ـ ص.81.

(35) د.حسن المنيعي ـ هنا المسرح العربي .. هنا بعض تجلياته ـ منشورات السفير مكناس 1990 ـ ص.11.

(36) هنالك نصوص مسرحية عربية تدخل في نفس السياق نذكر منها : " يا بهية وخبريني " لنجيب سرور، و " الممثلون يتراشقون الحجارة " لفرحان بلبل.

(37) شربل داغر ـ التناص سبيلا إلى دراسة النص الشعري وغيره ـ فصول ـ المجلد 16 ـ العدد 1 ـ صيف 1997 ـ ص.129.

(38) عبد الكريم برشيد ـ عطيل والخيل والبارود (في) عطيل والخيل والبارود/ سالف لونجة : احتفالان مسرحيان ـ سلسلة الثقافة الجديدة ـ مطبعة الأندلس ـ الدار البيضاء ـ ص.59

(39) نفســــه ـ ص.44.

(40) نفســــه ـ ص.18.

(41) د. حسن المنيعي ـ المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة ـ ص.55.

(42) عبد الكريم برشيد ـ عطيل والخيل والبارود ـ ص.46.

(43) نفســـه ـ ص.48.

(44) نفســـه ـ ص.47.

(45) د.حسن المنيعى ـ المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة ـ ص.60.

(46) شربل داغر ـ التناص سبيلا إلى دراسة النص الشعري وغيره ـ ص.133.

(47) يميز شربل داغر في دراسته المذكورة بين ثلاثة أنواع من المصادر التناصية هي : المصادر الضرورية، المصادر اللازمة ثم المصادر الطوعية.

(48) عبد الكريم برشيد ـ عطيل والخيل والبارود ـ ص.37.

(49) عبد الكريم برشيد ـ حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي ـ دار الثقافة ـ الدار اليضاء 1985 ـ ص.155.

(50) Linda Hutcheon - Ironie , Satire , Parodie : Une approche pragmatique de l’Ironie - poétique 46 - Avril 1981 - p.141.

(51) Denise Jardon - Du comique dans le Texte Littéraire - p.191.

(52) د. حسن المنيعي ـ هنا المسرح العربي .. هنا بعض تجلياته ـ ص.53.

(53) محمد الماغوط ـ المهرج ـ دار العودة ـ بيروت 1973 ـ ص.14.

(54) نفســــه ـ ص.16.

(55) نفســــه ـ ص.23/24.

(56) نفســــه ـ ص.25.

(57) نفســــه ـ ص.40.

(58) للوقوف عن كثب على حضور القيم القومية والوطنية في الدراما التاريخية الشكسبيرية، يمكن مراجعة : أ.م. وتيليارد ـ الأدب في عصر شكسبير ـ ترجمة نبيل حلمي ـ دار المعارف ـ مصر 1971.

(59) Jean Jacques Roubine - Introduction aux grandes théories du théâtre - p.87.

(60) د. حسن المنيعي ـ هنا المسرح العربي .. هنا بعض تجلياته ـ ص.42.

(61) يعكس مفهوم " العودة إلى الأصول " توجها مميزا للمسرح الغربي المعاصر اقترن بالمد الأنثروبولوجي في هذا المسرح، وهو يحتاج بحثا قائما بذاته. ولتسليط الضوء عليه يمكن مراجعة :

Monique Borie - Antonin Artaud : Le théâtre et le retour aux sources - Edit Gallimard 1989.

(62) انيس إليفرتي ـ الكوميديا المرتجلة وحدود الحداثة (في) حسن المنيعي ـ المسرح والارتجال ـ منشورات عيون المقالات ـ دار قرطبة ـ الدار البيضاء 1992 ـ ص.6.

(63) ميشال برنار ـ أسطورة الارتجال المسرحي (في) حسن المنيعي ـ المسرح والارتجال ـ ص.26 ـ 27.

(64) نفســــــه ـ ص.31.

(65) محمد الكغاط ـ المسرح المغربي بين الارتجال والمرتجلة (مقدمة) (في) المرتجلة الجديدة ومرتجلة فاس (مشروعا عرضين مسرحيين) ـ مطبعة سبو 1991 ـ ص.7.

(66) نفســـه ـ ص.9.

(67) Tadeusz Kowzan - Texte écrit et Représentation théâtrale - poétique 75 - Septembre 1988 - p.365.

(68) Ibid - p.368.

(69) Jean Pierre Ryngeart - Lire le théâtre contemporain - p.6.

(70) محمد الكغاط ـ المسرح المغربي بين الارتجال والمرتجلة ـ ص.9.

(71) محمد سبيلا ـ التحولات الفكرية الكبرى للحداثة : مساراتها الإبستمولوجية ودلالتها الفلسفية ـ مجلة " فكر ونقد " السنة 1 ـ العدد 2 ـ أكتوبر 1997 ـ ص.41.

(72) نفســـه ـ ص.41.

(73) محمد الكغاط ـ المرتجلة الجديدة (في) المرتجلة الجديدة ومرتجلة فاس : مشروعا عرضين مسرحيين ـ ص.16.

(74) نفســــه ـ ص.33.

(75) نفســــه ـ ص.17.

(76) نفســــه ـ ص.22/23.

(77) لقد عانى المسرح التجريبي لمحمد الكغاط نفسه من هذه الأحكام حتى داخل أوساط النخبة المسرحية التي تجسدها لجان التحكيم في المهرجانات، مما جعله يكتب مرتجلة أخرى تعكس ذلك وهي مرتجلة " شميسة للاّ ".

(78) محمد الكغاط ـ المرتجلة الجديدة ـ ص.28.

(79) نفســـه ـ ص.42.

(80) لن نتعامل هنا مع المسرحية بكاملها، وإنما مع جزئها الأول الذي نرى انه يشكل مسرحية قائمة بذاتها، وأنه يفي بالغرض بالنسبة إلينا لأنه يسمح لنا بالوقوف على الممارسة الميتامسرحية في سياق الارتجال الجماعي.

(81) ميشال برنار ـ أسطورة الارتجال المسرحي (في) حسن المنيعي ـ المسرح والارتجال ـ ص.27.

(82) وليد إخلاصي ـ عجبا إنهم يتفرجون ـ الكرمل ـ العدد 27 ـ 1988 ـ ص.153.

(83) نفســـه ـ ص.155.

(84) Jean Jacques Roubine - Introduction aux grandes théories du théâtre - p.9.

(85) وليد إخلاصى ـ عجبا إنهم يتفرجون ـ ص.149.

(86) عز الدين المدني ـ ديوان الزنج ـ الدار التونسية للنشر ـ 1973 ـ ص.9/10.

(87) نفســــه ـ ص.14/15.

(88) نفســـه ـ ص.109.

(89) نفســـه ـ ص.118/119.

(90) محمد مسكين ـ مفهوم الكتابة المسرحية النقدية : كتابة النفي والشهادة ـ مجلة التأسيس (دفاتر مسرحية) ـ السنة الأولى ـ العدد الأول ـ يناير 1987 ـ ص.50.

(91) عبد الكريم برشيد ـ عن الكتابة وسلطة الحكي واللعب (مقدمة) ـ (في) ـ محمد مسكين ـ مهرجان المهابيل/ النزيف ـ مسرحيتان ـ منشورات دار الأطفال ـ الدار البيضاء ـ 1987 ـ ص.11.

(92) نقصد رسالتنا لنيل دبلوم الدراسات العليا بعنوان " قضايا التمسرح وتجلياته في الكتابة الدرامية بالمغرب ".

(93) عبد الكريم برشيد ـ عن الكتابة وسلطة الحكي واللعب ـ ص.10.

(94) محمد مسكين ـ مهرجان المهابيل ـ (في) مهرجان المهابيل/ النزيف : مسرحيتان ـ ص.23

(95) نفســه ـ ص.24.

(96) نفســـه ـ ص.28/29.

(97) محمد مسكين ـ مفهوم الكتابة المسرحية النقدية : كتابة النفي والشهادة ـ ص.55.

(98) المسكيني الصغير ـ البحث عن رجل يحمل عينين فقط ـ منشورات مركز المسرح الثالث للبحوث والدراسات الدرامية ـ الدار البيضاء 1993 ـ ص.22.

(99) علي الراعي ـ المسرح عند العرب قديما (في) المسرح العربي بين النقل والتأصيل ـ كتاب العربي ـ الكتاب 18 ـ 15يناير 1988 ـ ص.25.

(100) المسكيني الصغير ـ البحث عن رجل يحمل عينين فقط ـ ص.35.

(101) نفســــه ـ ص.75.

(102) نفســــه ـ ص.76.

(103) عبد الحميد يونس ـ خيال الظل .. مسرح قبل المسارح الحديثة (في) المسرح العربي بين النقل والتأصيل ـ ص.53.

(104) سعد الله ونوس (عن) ماري إلياس ـ قراءة في مسرحية " الأيام المخمورة " ـ الكرمل ـ العدد 52 ـ صيف 1997 ـ ص.59/60.

(105) نفســــه ـ ص.61.

(106) سعد الله ونوس ـ الأيام المخمورة ـ الكرمل ـ العدد 51 ـ ربيع 1997 ـ ص.289.

(107) نفســـه ـ ص.289/290.

(108) هذه مجموعة من العبارات التي ترددت في حوارات سعد الله ونوس الأخيرة وهو يوضح مفهومه عن الكتابة المسرحية.

 

 

Contactez-nous

  Copyright © 2001 unecma.net