النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد

المنشورات الإلكترونيـة

حسن يوسفـي

حسن يوسفـي، المسرح في المرايا. شعرية الميتامسرح واشتغالها في النص المسرحي الغربي والعربي

البــــاب الأول

نحو شعرية تأويلية للميتامسرح

 

دأبت الأبحاث المنصبة على تاريخ الظاهرة المسرحية على رصد المنظورات والأفكار والتصورات المتعلقة بالفكرة المسرحية من خارج الإبداع المسرحي. وقد انصب البحث عن هذه الفكرة، أساسا، على خطابات الفلاسفة وتنظيرات المبدعين، كتابا ومخرجين، والتي تضمنتها بياناتهم أو أبحاثهم أو مقدمات مسرحياتهم.

إلا أن الملاحظ أن هذا التقليد الذي رسخته أبحاث من هذا النوع، يعيش اليوم وضعا غير قار. في هذا الإطار، ليس من الصعب علينا أن نتصور الخلخلة التي من شأنها أن تلحق بما ترسخ في أذهاننا من بديهيات ويقينيات حول تاريخ المسرح، خصوصا عندما نقرأ، اليوم، آراء مثيرة عن مسرحية معاصرة كمسرحية " ست شخصيات تبحث عن مؤلف " للمسرحي الإيطالي بيرانديلو Pirandello، تعتبرها بمثابة " عرض ذاتي لتاريخ الدراما " (1)، أو " عرض لخمس وعشرين قرنا من الشعرية المسرحية " (2).

إن آراء كهذه، بقدر ما تؤسس لمنظور جديد حول تاريخ المسرح، بقدر ما تفتح أفقا آخر للبحث عن صيرورة الفكرة المسرحية داخل نصوص المؤلفين. صحيح أن نظرية المسرح تبلورت - منذ العصر اليوناني إلى الآن - من خلال كتابات ذات طابع نظري لا يمكن للدارس أن يغض الطرف عنها، بدءا من النص المؤسس المتمثل في "شعرية" أرسطو مرورا بتنظيرات هوراس Horace الممثل الرئيسي للعصر اللاتيني، ثم بالخطابات الثلاثة لكورناي Corneille (1660) حول التراجيديا والقصيدة الدرامية والوحدات الثلاث، ثم " رسالة إلى دلومبير حول الفرجات " لجان جاك روسوJean Jacques Roussau(1758)، ثم مقدمة " كرومويل" لفكتور هيجو Victor Hugo(1827) التي تعد دستور الرومانسيين، ثم " الطبيعية في المسرح " (1879/1881) لإميل زولاEmile Zola، ثم " عن اللاجدوى المطلقة للعرض الدقيق " لمنظر الاتجاه الرمزي بيير كيارPierre Quillard، وصولا إلى آخر الموجات التنظيرية ذات الطابع الفردي التي عرفها القرن الحالي، ممثلة في بريشت Brecht وأرطو Artaud وكروتوفسكي Grotowski وستانسلافسكي Stanislavski وغيرهم.

لكن هذه السلسلة من النصوص النظرية التي كتبها فلاسفة ومبدعون مسرحيون لا ينبغي أن تحجب عنا مساهمة المؤلفين في رسم ملامح شعرية المسرح من داخل نصوصهم المسرحية، لاسيما وأن هذه النصوص بقدر ما أبدعت في بناء عوالم متخيلة قوامها الحكي المستخلص من منابع غنية كالأسطورة والتاريخ والواقع، والشخوص المجسدة لنماذج بشرية وأنماط وأمزجة وكيانات مختلفة، وأساليب وتركيبات فنية متنوعة، بقدر ما كانت تحمل وعيا - مضمرا وصريحا في آن واحد - بأسس المسرح وآليات اشتغاله والعلاقات القائمة بين مختلف مكوناته انطلاقا من سيرورة الإنتاج حتى سيرورة التلقي. وبكلمة واحدة ، يمكن القول إن ثمة شعريات مسرحية تبلورت من خلال تاريخ النصوص المسرحية.

ولعل الوعي بهذا الأفق الجديد في البحث عن شعرية المسرح، هو الذي يفسر لماذا لجأ بعض الدارسين، المهتمين بتاريخ الجمالية المسرحية، إلى الجمع في إطار واحد بين نصوص نظرية وأخرى إبداعية لرصد تصور شمولي عن الظاهرة المسرحية (3). في هذا الإطار، يلاحظ أن مقطعا من مسرحية " مدرسة النساء " لموليير Molière، مثلا، يشكل نصا مؤسسا للمنظور الكلاسيكي للمسرح يوازي نصوصا مأخوذة من " خطابات " كورناي، كما أن مسرحية ديدرو" اللقيط " توازي أهيمتها التنظيرية ما كتبه هذا المؤلف في " حوارات حول اللقيط " أو في " مفارقة الممثل ".

وإذا كانت بعض الكتابات - بحكم طبيعتها التجميعية التوثيقية - تكتفي بوضع نصوص نظرية وإبداعية في سياق واحد، فإن كتابات أخرى ذهبت إلى حد استخلاص أشكال للنظرية المسرحية بالنظر إلى نوعية الخطاب الذي تبلورت فيه سواء كان تنظيريا أو إبداعيا. ولعل هذا ما قام به أحد الباحثين المعاصرين هو جان جاك روبين Jean Jacques Roubine الذي أكد على ضرورة التمييز في تاريخ نظرية المسرح بين النظرية الصريحة والنظرية الضمنية. " فالنوع الصريح يصاغ عبر مجموعة من النصوص المختلفة : مقالات، أبحاث، مقدمات، توجيهات .. إلخ. وهو في الغالب، ذو نزوع شمولي يصوع نظرية ينبغي أن تكون صالحة لعصر بكامله ولطبقة اجتماعية بكاملها(كالنوع الجاد مثلا، بالنسبة لبرجوازية النصف الثاني من القرن 18، أو الدراما الرومانسية بالنسبة لجيل "الفنان" الإصلاحي )، أو صالحة، بالأحرى، إلى الأبد (كما هو الشأن بالنسبة للأرسطية التي عاد إليها علماء القرن 17). أما النوع الضمني، كما تشير إلى ذلك تسميته، فيتجاوز الصياغة الخطابية. فهو موجود لكن الإمساك به صعب كما أنه لا يصلح إلا لصاحبه. أنظروا إلى ماريفو : فمسرحه يتضمن تأملا نظريا حول الخصائص الدراماتورجية الأساسية المكونة له كالشخصية، والحدث، والهزلي، والحوار ..إلخ. إلا أن مؤلف "الأسرار الكاذبة " لم يضع، إلا بالصدفة، أي فكرة حول هذا الموضوع. لذا، علينا أن نعمم ونستخلص من مسرحياته نظرية افتراضية مع ما تفترضه هذه الطريقة من هامش للتأويل والخطأ."(4)

إن ما قاله روبين عن ماريفو هنا، يشير إلى ظاهرة تضرب بجذورها في عمق تاريخ الكتابة المسرحية، ويمكن البحث عن بداياتها في المسرح اليوناني نفسه. إن مسرحية " الضفادع " لأرسطوفان تؤرخ للصراع الذي دار حول عرش التراجيديا، وتعبر بالتالي عن منظور مؤلفها إزاء هذا النوع الدرامي؛ أو بعبارة أخرى إنها تتضمن - إلى جانب عالمها المتخيل - نظرية ضمنية حول التراجيديا.

إن هذه الظاهرة الموغلة في القدم، والممتدة عبر المسار التاريخي للكتابة الدرامية، لم يكتب لها أن تنال حظها من الاهتمام والبحث إلا مع بداية عقد الستينات من هذا القرن حيث خصها باحث أمريكي هو ليونيل أبيل بدراسة جادة نحت من خلالها المصطلح المعبر عن هذه الظاهرة، ألا وهو مصطلح الميتامسرح Métathéâtre (5) .

إن هـذا السبـق الـذي سجلـه النقـد الأمريكـي، بخصـوص الاهتمام بهـذا

الموضوع والذي تؤكده دراسات أخرى جاءت بعد دراسة أبيل اكتست طابعا أكثر خصوصية (6)، يكشف عن مفارقة لا سيما وأن هذه الأبحاث تزامنت مع فترة كانت خلالها الدراسات الشعرية البنيوية في أوربا عموما وفي فرنسا على وجه الخصوص، تضع في صلب اهتماماتها مختلف مظاهر التفاعل النصي بما فيها ظاهرة الميتانصية Métatextualité باعتبارها ظاهرة عامة موجودة في مختلف الأجناس الأدبية كالرواية والشعر والمسرح. باستحضار هذا المعطى، يتبين لنا مشروعية السؤال التالي : كيف نفسر تأخر الاهتمام بالميتامسرح في النقد البنيوي إلى حدود بداية عقد الثمانينات، في الوقت الذي كان النقد الأمريكي قد قال كلمته في الموضوع منذ بداية الستينات ؟

نعتقد أن السر في هذه المفارقة لا يكمن في التفاوت الزمني بقدر ما يرتبط باختلاف السياقات الثقافية، وبالتالي باختلاف زوايا النظر إلى الموضوع. فأبيل ركز في دراسته على البعد الميتافيزيقي لظاهرة الميتامسرح مبينا أنها تستند على رؤية مفادها أن الحياة مسرح وأن الإنسان ممثل. وبالاستناد إلى هذه الرؤية - يقول أبيل - فإن الدراما الحديثة لا يمكن أن تتحقق فيها التراجيديا، لأن الميتامسرح جاء كي يعلن موتها. إن هذه المعالجة الفلسفية تغيب، إذن، المظهر النصي البنيوي للظاهرة. لهذا لا نستغرب أن يكون النقد الذي يوجهه باتريس بافيس لأبيل مرتبطا بهذه الزاوية البنيوية حيث يقول : "إن هذه الأطروحة التي طورها ل. أبيل (1963) لا تعمل سوى على توسيع نظرية المسرح داخل المسرح القديمة، لأنها تبقى جد مرتبطة بدراسة موضوعاتية للحياة باعتبارها مسرحا ولا تستند، بما فيه الكفاية، على وصف بنيوي للأشكال الدراماتورجية وللخطاب المسرحي "(7).

بالمقابل، نلاحظ أن اهتمام الشعرية البنيوية بالميتانصية ظل، في الغالب، مرتبطا بمجال السرد، حيث شكل هذا الأخير الموضوع المميز لهذه الشعرية. ويمكن القول، إن الدراسة الأولى عن الميتامسرح في النقد الفرنسي هي تلك التي أنجزها مانفريد شميلنغ في بداية الثمانينات، والتي عالج فيهـا الميتامسـرح فـي اقترانـه بظاهـرة

التناصIntertexte (8).

إن ما يمكن استخلاصه من هذه المعطيات هو أن الاهتمام بالميتامسرح في السياق الأمريكي كان من زاوية ميتافيزيقية، في حين تحكمت المقاربة النصية في السياق الفرنسي. إلا أن الملاحظ أن طبيعة الاختيارات المنهجية في هذه الدراسات قد أدت، في الغالب، إلى عزل المظهر الداخلي للظاهرة عن مظهرها الخارجي، والحال أن التجليات النصية للميتامسرح - في نظرنا - لا يمكن أن تفهم وتؤول إلا في ضوء المنظورات الخاصة للمؤلفين إزاء العالم والأشياء.

من ثم، نرى أن الإحاطة الشاملة بمختلف أبعاد الظاهرة تستلزم بناء نظريا يأخذها في جانبيها الشعري والتأويلي، وبعبارة واحدة، يتطلب تأسيس شعرية تأويلية للميتامسرح. لكن علينا، في البدء، أن نوضح هذا الاختيار النظري بالوقوف عند طرفيه، أي " الشعرية " و" التأويلية ".

فيما يخص مفهوم الشعرية، لا نريد اجترار مختلف التعريفات المتداولة عنه في الكتابات النقدية المعاصرة، بل نعمد إلى استحضار أحدها لأنه يفي بالغرض بالنسبة إلينا. يقول صاحبا " المعجم الموسوعي لعلوم اللغة ": " إن مصطلح " شعرية "، كما وصلنا عبر التقليد، يشير أولا إلى كل نظرية محايثة للأدب، كما ينطبق ، ثانيا، على الاختيار الذي يقوم به مؤلف من بين كل الإمكانات الأدبية (على مستوى الموضوعات، التركيب، الأسلوب ...إلخ.) كشعرية هيجو مثلا، ويحيل، ثالثا، على السنن المعيارية المؤسسة من لدن مدرسة أدبية، أي على مجموعة من القواعد العملية يصبح، بالتالي، استعمالها ضروريا ".(9)

يستخلص من هذا التعريف أن ثمة مسارين في الشعرية : أحدهما عام، ويتعلق ببناء نظرية عامة محايثة، والثاني خاص ويرتبط بالاختيار الذي يقوم به مؤلف ما ضمن الامكانات التي تتيحها النظرية. وهما مساران متكاملان لا سيما وأن تحديد القوانين أو المبادئ العامة لظاهرة أدبية ينبغي أن يتم من داخل العمل الأدبي نفسه. ولعل هذا ما يؤكده احد أقطاب الشعرية البنيوية وهو تزفيطان تودوروف حين ركز على حاجة الشعرية إلى التأويل قائلا : "إن تفكيرا نظريا حول الشعرية غير مطعم بملاحظات حول الأعمال الموجودة يبقى عقيما وغير إجرائي".(10)

إن هذا التوجه المزدوج للشعرية مهم جدا بالنسبة للسياق المسرحي الذي نتحدث فيه، لاسيما وأن كلمة " شعرية " لم تعد مرتبطة بقاموس النقاد والمنظرين وحسب، بل أصبحت لها صلة وطيدة حتى بالمؤلفين، كما يشير إلى ذلك جان بيير سارازاك Jean Pierre Sarrazac الذي يرى أن " هذه " الشعرية " يؤسسها المسرحيون تجريبيا من خلال تنوع أعمالهم، ويعمل علماء جمال المسرح على إعطائها معنى عاما وصياغة نظريـة "(11) .

إن البعد التأويلي في هذه الشعرية يرتبط، إذن، بالاختيارات التي يقوم بها مؤلف ما ضمن الإمكانات الأدبية المتاحة في الظاهرة؛ وهي الاختيارات التي ترتهن بدورها برؤية هذا المؤلف إلى العالم المحيط به والعصر الذي يعيش تفاعلاته.

في ضوء هذا التصور الشعري التأويلي، نرى أن الإحاطة بموضوع الميتامسرح ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار الجوانب التالية :

1 - وضع شعرية الميتامسرح في إطار أعم هو شعرية النص الأدبي، وهو الوضع الذي يسمح بتحقيق مطلب أساسي يتمثل في النظر إلى الميتامسرح في ضوء مفهومين مركزيين هما: الميتانصية Métatextualité والتجويف الأدبي Mise en Abyme Littéraire (12).

2 - التعريف بمصطلح الميتامسرح وتحديد بنياته ووظائفه.

3 - الوقوف على مختلف الاختيارات التي قام بها مؤلفون مسرحيون في إطار هذه الظاهرة من خلال إبراز تجلياتها في أعمالهم وتجاربهم. والهدف من هذه العملية هو تحديد خصوصيات التعامل مع الميتامسرح في تجارب غربية وعربية على حد سواء، وذلك من أجل تحقيق الهدف العام من هذا البحث والمتمثل في بناء نظرية عامة للميتامسرح في ضوء التحققات الفعلية لهذه الظاهرة عبر تاريخ الممارسة المسرحية.

 

(1)بيتر زوندي ـ نظرية الدراما الحديثة ـ ترجمة د. أحمد حيدر ـ منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي ـ دمشق 1977 ـ ص.151.

(2) Patrice Pavis - Dictionnaire du Théâtre - Edit Sociales - Paris 1987 - p.401.

(3) أنظر في هذا الصدد الكتاب الذي يجمع نصوصا نظرية وإبداعية تنتمي لحضارات وعصور مختلفة :

Monique Borie/ Martine de Rougemont/ Jacques Scherer - Esthétique Théâtrale : Textes de Platon à Brecht - Editions C.D.U et SEDES réunis 1982 .

(4) Jean Jacques Roubine - Introduction aux grandes théories du théâtre - Bordas 1990 - p. 2.

(5) Lionel Abel - Metatheatre : A New view of Dramatic Form - Hill and Wang - New york 1963.

(6) ثمة دراسة أمريكية أخرى ظهرت في فجر السبعينات اهتم صاحبها بالميتامسرح عند شكسبير، انظر:

- J.Calderwood - Shakespearean Metadrama - University of Minnesota press - Minneapolis 1971.

(7) Patrice Pavis - Dictionnaire du théâtre - p.237.

(8) Manfred Schmeling - Métathéâtre et Intertexte - Lettres Modernes - Paris 1982.

(9) Oswald Ducrot /Tzvetan Todorov - Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage- Edit du seuil 1972 - p.106.

(10) Tzvetan Todorov - poètique - Edit du seuil 1968 - p.21.

(11) Jean Pierre Sarrazac - L’avenir du drame - Edit de l’aire - Lausanne - Suisse 1981 - p.17.

(12) إن الترجمة التي نقترحها هنا لهذا المفهوم تعد واحدة من بين ترجمات متعددة يقترحها مهتمون بالحقل النقدي في بلادنا منها : التعتيم، التقعير، الإنشطار. ونحن إذ نعتمدها هنا لا ندعي أنها أنسب من غيرها.

 

 

Contactez-nous

  Copyright © 2001 unecma.net