1 - الميتامسرح :
مصطلح حديث لظاهرة قديمة :
ثمة مفارقة أساسية تلازم
الحديث عن الميتامسرح، ذلك أن هذا المصطلح الحديث الذي يعود
ظهوره إلى بداية العقد السادس من هذا القرن في النقد الأنجلو-
أمريكي، يعبر - في واقع الأمر - عن ظاهرة قديمة تضرب بجذورها في
عمق التاريخ المسرحي، بحيث يمكن اعتبار مسرحية " الضفادع "
لأرسطوفان إحدى أبرز التجليات الأولى لها.
والمثير في الاهتمام الحديث
بهذه الظاهرة، علاوة على الصيغة المصطلحية، هو اختلاف زوايا
النظر إليها ، إذ في الوقت الذي ارتفع بها البعض إلى التعبير عن
رؤية للعالم تعكس تصور المسرحي عن الإنسان والأشياء، جعلها البعض
الآخر ظاهرة نصية ذات مستويات موضوعاتية أو تناصية. وفي الوقت
الذي عدها البعض ظاهرة عرفت إرهاصاتها في المسرح اليوناني كما
عرفت توهجا في إطار مدارس مسرحية أو أنواع درامية أو عصور أدبية
معينة (مثل المحاكاة الساخرة الرومانسية في القرن الثامن عشر)،
وتراجعت - بشكل قسري - في إطار المسرح الواقعي للقرن التاسع عشر؛
أكد البعض الآخر أن مصطلح " ميتامسرح" يطلق، في الحقيقة، على
المظهر الحداثي للظاهرة المسرحية التي أفرزها الواقع المعاصر،
هذا الواقع الذي فرضت أحداثه وتصورات مبدعيه عن هذه الأحداث "
موت التراجيديا " وإحلال الميتامسرح محلها.
وللوقوف عن كثب عند هذه
المنظورات، نرى ضرورة استعراض تعريفات أصحابها وإبراز الخلفيات
النظرية المتحكمة فيها، وذلك كخطوة أولى نحو صياغة منظورنا
التركيبي حول الظاهرة الذي يرى ضرورة ربطها بثلاثة عناصر أساسية
هي:
- صيرورة المسرح.
- بنية النوع
الدرامي.
- سيرورة الإنتاج
النصي ووظائفه المختلفة.
1. 1 - أبيل:
الميتامسرح شكل درامي ورؤية فلسفية :
ينبغي التذكير هنا بأن كتاب "
الميتامسرح : نظرة جديدة للشكل الدرامي Metatheatre : A New view
of Dramatic form " لليونيل أبيل Lionel Abel ، الذي ظهر في
نيويورك سنة 1963هو الذي يعود إليه الفضل في إثارة الإنتباه إلى
ظاهرة الميتامسرح وجعلها موضوعا للتأمل النقدي.
يتناول أبيل، في هذا الكتاب
الريادي، الدراما الحديثة (ممثلة في بريشت، بيكيت، جينيه ...)
انطلاقا من فرضية تستعيد موقف جورج ستاينرGeorges Steiner القائل
ب "موت التراجيديا" ، وتؤكد على ضرورة إقامة تعارض بين
الميتامسرح والتراجيديا. وبغض النظر عن اعتماد الأعمال التي
يتناولها بالدرس تقنية المسرح داخل المسرح كشكل ميتامسرحي، فإن
الأهم بالنسبة إليه، هو كونها تتميز " بخاصية مشتركة هي : كلها
مسرحيات حول الحياة باعتبارها ممسرحة سلفا "
(62).
ولعل ما يقصده بهذا القول هو أن
الشخصيات التي تتحرك ضمن متخيل هذه المسرحيات هي شخصيات مسرحية
بالأصل، أي قبل أن تنتقل إلى عالم الخشبة. وإن ما يجعلها كذلك هو
انتماؤها إلى الخرافة أو الأسطورة أو الأدب القديم من جهة، أو
طبيعتها الذاتية من جهة أخرى. لذا، فهي - في نظر أبيل - " تقدم
للكاتب المسرحي أثر المتخيل الدرامي قبل أن يبدأ هو بممارسة أثره
الخاص، كما أنها واعية من جهة أخرى - بخلاف شخصيات التراجيديا -
بتمسرحها الخاص "
(63).وهذا
الوعي هو الذي يؤطر الحدث في الأعمال الميتامسرحية، لأنه مفكر
فيه ونابع من متخيل خاضع للمراقبة الذاتية.
إن هذه الخصائص المتمثلة في وجود
شخصيات ممسرحة سلفا وواعية بتمسرحها، وأحداث مفكر فيها خلال
عرضها، هي التي تميز الأعمال الدرامية الحديثة التي يقول عنها
أبيل : " أسميها ميتامسـرحيات Metaplays ، أي أعمالا مـن
الميتامسرح "(64).
إن هذه الأعمال الدرامية التي
أفرزها العالم الجديد تمتد أصولها إلى بعض الأعمال الكلاسيكية
التي عكست باعتمادها تقنية المسرح داخل المسرح منظورا فلسفيا
متميزا. ويتعلق الأمر بالخصوص - في نظر أبيل - بمسرحية شكسبيرية
من قبيل " حلم ليلة صيفية" أو "العاصفة "، وبمسرحية كالدرون "
الحياة حلم ". فالأعمال الميتامسرحية تستعيد الكروتسك Grotesque
الشكسبيري والباروك Baroque الكالدروني، وذلك من خلال التأكيد
على منظور فلسفي يقوم على مفهومين أساسيين هما :
- العالم مسرح
The world’s a stage.
- الحياة حلم
Life is a dream.
من ثم، فإن كل محاولة لمسرحة
العالم والحياة هي، في الواقع، مسرحة لمسرح قائم سلفا فيهما.
لذا، فالمسرح الحديث كله عبارة عن ميتامسرح. وهذا الشكل هو
الإعلان الفعلي عن نهاية التراجيديا" باعتبارها نوعا ينتمي إلى
الماضي، ومستحيلا في عالمنا الحديث"
(65).
إن الميتامسرح، إذن، شكل
درامي يترجم رؤية للعالم تقوم على تنسيب القيم التي يخلقها
الإنسان وفق ما تمليه الشروط المحيطة به. لذا، فإن القيم المطلقة
التي تقوم عليها التراجيديا تصبح غير صالحة في عالم متغير يخلق
أشكالا جديدة للتعبير عن نفسه.
إن أبيل الذي ينطلق من تصور
مفاده أن " الأشكال الدرامية تنبثق وتستمد حياتها من القيم
الهامة خارج الدراما "(66)،
ينخرط، نقديا، في التيار الذي يؤمن بتاريخية الأشكال؛ وهو الذي
تجسده أسماء أخرى كبيتر زوندي الذي انطلق من النظرية التاريخية
الجدلية ليؤكد أن "مسيرة الفن لا تحددها الأفكار بقدر ما يحددها
تطور أشكالها. فقد انتزع كتاب المسرح من موضوع الحاضر المتبدل
عالما جديدا من الأشكال"
(67).ولعل
هذا التصور نفسه هو الذي تقوم عليه دراسة سارازاك للدراما
الحديثة التي يؤكد فيها : أن تعقد العلاقات الإنسانية
والاجتماعية لعصرنا، لا يمكن حصرها في المسرح إلا "بمساعدة
الشكل" "
(68).
إن هذا المنظور الذي يقوم على
تاريخية الشكل الدرامي مهم جدا لأنه يجعلنا ننظر إلى الميتامسرح،
ليس كإجراء شكلي وحسب، وإنما كتجسيد لنظام القيم والعلاقات في
عالم متحول ونسبي.
ولعل الدرس الذي نستخلصه من
تصورأبيل هو اعتبار الميتامسرح شكلا دراميا من جهة، ورؤية للعالم
من جهة ثانية، مما يسمح لنا بإدماج بعد " التأويل " في شعرية
الميتامسرح التي ننوي إقامتها.
1. 2 - شميلنغ:
الميتامسرح مسرح مفكّر فيه :
ينطلق شميلنغ في تحديده
للميتامسرح في كتابه " الميتامسرح والتناص : مظاهر من المسرح
داخل المسرح Métathéâtre et Intertexte : Aspects du Théâtre
dans le Théâtre " من منطلق جديد يستفيد من نظرية التناص ومن
الهرمينوطيقا الأدبية، حيث يبحث في الكيفية التي يجعل بها
التفكير الميتادرامي من النص المسرحي نوعا من التاريخ الأدبي
الممسرح، وفي مدى مساهمة المسرح داخل المسرح في بناء هيرمنوطيقا
أدبية.
ويقصد شميلغ بالميتامسرح كل
إجراء يقوم على اللعب داخل اللعب سواء تحقق عبر الشكل التام
المعروف بالمسرح داخل المسرح أو عبر أشكال أخرى، لأن الأساس الذي
يستلزم حضوره هو ما يسمى بالمضاعفة. وللمضاعفة وجه جمالي يتمثل
في مستويات اللعب التي ينتج عن تعددها تعدد منظورات تلقيها، ووجه
فلسفي يتمثل في " التأملية " التي تشكل عصب هذه المضاعفة. لنستمع
إليه وهو يعرّف الميتا مسرح قائلا: " يمكننا، بالقياس على
التقابل الذي تقيمه البنيوية بين الأدب - الموضوع والميتا- أدب،
أن نعبر بمصطلحي مسرح - موضوع وميتامسرح عن الاتجاهين الكبيرين
للمسرح غير المفكر فيه واللعب داخل اللعب. لكن كيفما كانت
التسميات المستعملة، نلاحظ أنها تتضمن عنصرا مشتركا يمكننا
تسميته : " اللعب الدرامي ذو الشكل المفكر فيه " الذي يظهر طابعه
التأملي عبر مستويات مختلفة " .(69)
وانسجاما مع الافتراض الذي انطلق
منه، حاول شميلنغ إبراز العلاقة القائمة بين الميتامسرح كشكل
تأملي ومضاعف وبين تاريخ الأدب، مؤكد " أن المسرح داخل المسرح
يشكل نوعا من التاريخ الأدبي داخل العمل نفسه، لأنه يتضمن، شأنه
شأن كل شكل مفكر فيه، نقدا أو حكما على ماض أدبي بشكل عام، وعلى
شروط إنتاج نوع وتلقيه بالخصوص. لذا، يمكن أن تكون للميتامسرح
وظيفة تأويلية محايثة تقتضي الإشارة إلى ما ينتمي لتقليد متجاوز
وتحسيس المتلقي بالتطور. إنه يشكل، إذن، أدب مواجهة ".
(70)
إن هذا التصوير يعيد النظر في
المفهوم الكلاسيكي لتاريخ الأدب الذي كان يؤرخ للوقائع الأدبية
من خارج الإنتاج الأدبي، وليس من داخله، ليعوضه بمفهوم جديد يؤكد
على الطابع المحايث لهذا التاريخ باعتباره إجراء مرتبطا بشكل
درامي يقوم على المضاعفة والتأملية، ويستغل بعض الآليات
الميتامسرحية التامة (المسرح داخل المسرح) أو المحيطية (المقدمة
prologue الخاتمة Epilogue، مخاطبة المتفرج، الجوقة، تفجير الدور
المسرحي، المناجاة، إدخال موجه للعب).
إن أهمية تصوير شميلنغ تكمن
في استخلاصه لمكونين أساسيين في الميتامسرح: أحدهما بنيوي يعتبره
شكلا تجويفيا يقوم على المضاعفة والتأملية، وثانيهما هرمنوطيقي
ويقوم ببناء تاريخ أدبي محايث للعمل المسرحي. وهذا التصور بقدر
ما يساعدنا على ضبط البنيات التي يقوم عليها الميتامسرح في عمل
ما، بقدر ما يحتم ضرورة وضع هذه البنيات ضمن جدلية العلاقة بين
الإنتاج والتلقي والكشف، بالتالي، عن صيرورة المسرح.
1. 3 - بافيس :
الميتامسرح بنية موضوعاتية وخطابية :
يعرّف باتريس بافيس الميتامسرح -
في معجمه المسرحي - قائلا هو : " مسرح تتمركز إشكاليته حول
المسرح، أي مسرح " يتحدث " عن نفسه : ويعرض ذاته "(71).
وهو تعريف يشير بشكل مختصر إلى موضوع هذا النوع من المسرح وإلى
الكيفية التي يقدم بها هذا الموضوع. أو بعبارة أوضح، إنه يعتبر
الميتامسرح بنية موضوعاتية وخطابية في آن واحد. وتقوم هذه البنية
على خاصيتين أساسيتين هما : الموضوعاتية الذاتية Autothématisme
والعرض الذاتي Autoreprésentation.
الخاصية الأولى تجعل موضوع
المسرح هو المسرح ذاته بمكوناته وقضاياه الجمالية والفكرية
ومشاكله وصعوباته، إما باعتباره فنا أو أدبا أو فضاء أو مؤسسة أو
غير ذلك. أما الخاصية الثانية فتشير إلى أن هذه البنية
الموضوعاتية تحتاج إلى بنينة Structuration متميزة بواسطة
الأشكال الدراماتورجية والخطاب المسرحي. وتكمن أهمية هذا البعد
الخطابي - في نظر بافيس - في كونه يمكن من " تحليل كل مسرحية
انطلاقا من موقف مؤلفها إزاء لغته وإزاء إنتاجه "(72).
ويبدو أن هذا التصور يزكي موقف شميلنغ الذي أكد على ضرورة وضع
تمييز بين مستويين للخطاب في الميتامسرح : خطاب درامي وخطاب
ميتادرامي، معتبرا هذا الأخير قريبا من الخطاب السردي لأنه يتضمن
" بعدا سرديا من حيث كون اللعب في الدرجة الثانية موجها من لدن
سلطة جمالية ونقدية لا يمكن أن تكون سوى سلطة المؤلف نفسه "(73).
إن الميتامسرح - من هذه
الزاوية - هو بناء جديد لوضع المؤلف داخل المتخيل المسرحي. ولعل
أدق صيغة للتعبير عن هذه الوضعية هي الصيغة التي تعود إلى
سارازاك الذي تحدث عن مفهوم المؤلف - الملحمي Auteur Rhapsode
الذي لا يتوارى وراء شخصياته كما هو الشأن لدى المؤلف الكلاسيكي
وإنما يخرج إلى واجهة الأحداث ويعبر عن آرائه ومواقفه بشكل مباشر
من خلال عمله باستعمال تقنيات مختلفة.
1. 4 - تركيــب:
يلاحظ أن التصورات الثلاثة
التي استعرضناها حول الميتامسرح تنطلق من منطلقات مختلفة
ومتكاملة في الآن نفسه. فالميتامسرح ظاهرة ذات أبعاد فلسفية (أبيل)
بنيوية وهرمنوطيقية (شميلنغ) وموضوعاتية وخطابية (بافيس).
والميتامسرح بقدر ما يحيل على ذاته ويركز على طرق اشتغاله
الخاصة، بقدر ما يعكس رؤية أو موقفا من العالم والأشياء، وبقدر
ما يخلق للمنتج والمتلقي في المسرح وضعا جيدا.
بناء على هذا، نرى أن أقرب
تصور إلى الإحاطة الموضوعية الشاملة بالميتامسرح هو التصور الذي
يأخذ بعين الاعتبار البنيات المكونة له، ويقوم بربط هذه البنيات
بسياقاتها الخاصة. لذا فإن تصورنا للميتامسرح يقوم على بعدين
أساسين : شعري وتأويلي؛ وهو التصور الذي يجعلنا نعتبر الميتامسرح
:
1 - شكلا دراميا
يقوم على المضاعفة اللعبية والتأمل الذاتي.
2 - بنية
موضوعاتية تقوم على مسرحة قضايا المسرح الأدبية، والفنية،
والاجتماعية والسياسية ... إلخ.
3 - بنية خطابية
تسمح للمؤلف بالانخراط المباشر في متخيله والتعبير عن مواقفه
المسرحية.
4 - رؤية للعالم
تعكس منظور المؤلف أو العصر الذي ينتمي إليه، إزاء ما يحيط به،
وتسمح، بالتالي، بالربط بين البنيات الميتامسرحية وسياقاتها
المتميزة.
ولاستكمال هذا التصور، نشير
إلى أن التجسيد النوعي للظاهرة المسرحية يلعب دورا أساسيا في
تحديد بنيات الميتامسرح ووظائفها المختلفة. لذا ، نرى ضرورة
النظر إليها في ضوء الأنواع الدرامية التي عرفها تاريخ المسرح.
2 - الميتامسرح
بنية نوعية :
لقد عرف تاريخ الممارسة
المسرحية أشكالا مختلفة من الكتابة تجسدت في ما سمي بالأنواع
الدرامية، بما فيها الأنواع، الكلاسيكية كالتراجيديا والكوميديا،
والأنواع المستحدثة عبر المسار التاريخي للابداع المسرحي، ومنها
الدراما المعروفة بالنوع الجاد والتراجيكوميديا التي يتم المزج
فيها بين عنصر المأساة والملهاة. ومادامت الظاهرة الميتامسرحية
ظاهرة قديمة قدم الأنواع الدرامية نفسها، فإن الوقوف على التجسيد
النوعي Générique لهذه الظاهرة أمر في غاية الأهمية، لأنه يكشف
لنا عن بعد آخر في شعرية الميتامسرح، وهو بعد العلاقة مع الأنواع
الدرامية.
صحيح أن هذه العلاقة تفترض وجود
منطلق نظري واضح يؤمن بوجود أنواع قائمة الذات بخصائص مميزة وبنى
ثابتة لا تقبل الاختراق؛ وهو أمر يعتقد الآن أنه أصبح متجاوزا في
سياق نظرية الأنواع المعاصرة التي أصبح فيها مفهوم النص أو
الكتابة يقوم مقام النوع، مما جعل مقولة " صفاء النوع " التي
طالما دافعت عنها النظرية الكلاسيكية مقولة غير إجرائية نظرا
لوجود أعمال تتداخل فيها الأبعاد النوعية
بشكل كبير.
إلا أننا مع ذلك، نرى ضروة
التمييز بين المظهر التاريخي والمظهر النظري للأنواع، لأن لهذا
التمييز فائدة كبيرة في فك العديد من الالتباسات المحيطة بمسألة
الأنواع. وانطلاقا منه، نرى أن الواقع الأدبي يؤكد تعايش تصورين
متناقضين هما : وجود النوع وتدميره. ولعل هذا ما يجعلنا نميل إلى
الموقف الذي تحمله إحدى الدراسات التركيبية الأخيرة حول قضية
الأنواع الأدبية، والتي يؤكد صاحبها أن " الأنواع الأدبية تعيش
اليوم وضعا جيدا. صحيح أن الأعمال " المفتوحة " التي تعيد النظر
في التصنيفات متعددة بالنسبة للغالبية الكبرى من الناشرين،
والكتبيين، والمكلفين بالخزانات، والنقاد أحيانا. لهذا، يفضل
كتاب مدرسي أو تاريخ أدبي ما - أمام الصعوبة الكبيرة التي يجدها
في تصنيف أعمال ميشو، بونج أو جابيس ضمن طبقة نوعية ما - تجميع
المؤلفين تحت يافطة " المبدعين "، وبالتالي في إطار " غير
القابلين للتصنيف ". إلا أن طريقة كهذه - رغم أنها مبررة - ليس
لها معنى إلا لأن مقولة النوع نفسها ماتزال موجودة "
(74).
انطلاقا من هذا الوضع المفارق
الذي تعيشه الأنواع، والذي يجد ما يزكيه في المنحى الذي أخذته
بعض هذه الأنواع التي على الرغم " من كونها عتيقة، إلا أنها ذات
نزعة عبرتاريخية "
(75)،
يمكن القول إن النظر إلى تجليات الميتامسرح في ضوء التمييز
القائم بين الأنواع الدرامية أمر وارد. إلا أن التساؤل المطروح
هو : ماهي الفائدة التي يمكن أن تجنيها شعرية الميتامسرح من ذلك
؟
يكمن الجواب في القيمة القرائية
للنوع أولا، حيث يؤكد بافيس أن " النوع، واختيار قراءة النص
انطلاقا من قواعد هذا النوع أو ذاك، بالنسبة للقارئ/المتفرج،
يقدم إشارة مباشرة حول الواقع المعروض، يمنح شبكة للقراءة ويشيد
ميثاقا بين النص وقارئه(76).
وإذا ما علمنا أن الأجواء السائدة في التراجيديا مثلا، مخالفة
تماما لما هو موجود في الكوميديا، فإن هذه المعرفة مهمة جدا في
إبراز التلوينات التي يتخذها الميتامسرح في هذا النوع أو ذاك،
وفي الكشف عن العلاقة القائمة بين مكوناتهما وبين الميتامسرح.
فطابع الضحك والهزل والنقد اللاذع في الكوميديا يطبع بشكل واضح
نوعية الخطاب الميتامسرحي الذي يمكن أن يحمله هذا النوع.
لكن قبل تفصيل الحديث في علاقة
الميتامسرح بالأنواع الدرامية، لابأس أن نشير إلى أن شميلنغ قد
أصاب عندما أكد على أن الميتامسرح لا يرتبط بالأنواع الهازلة
فحسب، حيث قال : " لقد اعتاد النقد الأدبي ربط طرق المضاعفة
المسرحية بالنوع الكوميدي، لأن وعي اللعب داخل المسرح يكشف
الأحداث أو يسخر منها، كما يضع المتفرج في وضعية تسام إزاء ما
يدور فوق الخشبة. إلا أن الأمر هنا يتعلق بنظرة جد سطحية، لأنه
إذا كان صحيحا أن المسرح داخل المسرح والأشكال المماثلة له تظهر
أساسا في الكوميديا والمهزلة والتراجيكوميديا ..إلخ، فإن النوع
الجاد أيضا، بما فيه التراجيديا والدراما، يستعمل هذه الطرق
نفسها "
(77).
2. 1 -
الميتامسرح والتراجيديا :
لقد استأثرت التراجيديا
باهتمام الدارسين المعاصرين من زوايا مختلفة: فلسفية، جمالية،
شعرية وأنثربولوجية. ولعل العودة إلى البعض منهم تجعلنا نقف على
تمييز أساسي يبدد الالتباس الحاصل بين التراجيديا ومفهوم
التراجيديTragique، حيث تعبر الأولى عن نوع درامي له تاريخه الذي
ينحدر من المسرح اليوناني، بينما يحيل الثاني على إحساس أو مظهر
حياتي يومي. وتتمثل العلاقة بين الاثنين في قدرة التراجيدي
كإحساس يومي على تغيير مفهوم التراجيديا كنوع، كما هو الشأن في
العالم المعاصر حسب تصور سارازاك.
ولعل هذا التمييز هو الذي جعل
جورج ستاينر يؤكد " أن كل الناس يعرفون ما هي التراجيديا في
الحياة، إلا أن التراجيديا باعتبارها شكلا دراميا ليست مقولة
كونية. فالفن الشرقي يعرف العنف، الألم، الكارثة الطبيعية أو
المحدثة عن قصد؛ والمسرح الياباني مليء بالحركة العنيفة وبالموت
الاحتفالي، إلا أن هذا التصوير للمعاناة والبطولة الشخصيتين الذي
نسميه مسرحا تراجيديا، خاص بالتقليد الغربي"(78).
لا يهمنا هنا الوقوف عند
المنظور المركزي الغربي الذي عالج به ستاينر المسألة، فتلك
إشكالية أخرى ليس هذا مجالها، إنما الذي يهمنا هو كون التراجيديا
رؤية للعالم مسجدة في شكل درامي، ولعل هذا التصور هو الذي بنى
عليه أبيل التقابل الذي يقيمه بين المسرح والتراجيديا. ف"موت
التراجيديا" أصبحت بالنسبة إليه مسلمة حاول البحث عن سندها
الفلسفي والجمالي في المسرح الحديث، وذلك ليثبت أن الميتامسرح
أصبح هو المقولة الملائمة لتعويض موت التراجيديا. فالحياة حلم (كالدرون)
والعالم مسرح(شكسبير) صيغتان تترجمان تصورا إزاء العالم يجد
تعبيره الجمالي في الميتامسرح وليس في التراجيديا. وذلك لأن هذه
الأخيرة تقوم على غياب الوعي الذاتي لدى البطل مما يجعله يقع في
المصير المرسوم له الذي لا يمكن تداركه (التراجيديا غير قابلة
للإصلاح Irréparable، يقول ستاينر)، كما تقوم على قبول بعض القيم
باعتبارها حقيقة وعلى التعامل مع الواقع ككيان قائم له بنياته
المستقلة عن الإنسان.
هاتان القاعدتان تتناقضان مع ما
نجده في الميتامسرح الذي يقوم على التأملية والوعي الذاتي، وذلك
لأن " المسرح الغربي عاجز عن الاعتقاد في حقيقة الشخصية التي
فقدت وعيها الذاتي"
(79)،
ولأن " المتخيل الغربي أصبح الآن في مجمله ليبراليا وتشكيكيا،
ويتجه نحو النظر إلى كل القيم المؤسسة باعتبارها قيما خاطئة "
(80).
لذا، فلا عجب أن يصبح العالم وهما أو حلما أو مسرحا وليس حقيقة.
إن هذا المنظور الذي دافع عنه
أبيل تحكمه منطلقات ميتافيزيقية أكثر مما تعنيه القوالب
الجمالية. والحال أن مراجعة العديد من الأعمال التراجيديا تكشف
أن أصحابها معنيون بقضايا مسرحهم ومهتموم بخلق أشكال من المضاعفة
المسرحية. ويبدو أن النموذج الذي يقع عليه الإجماع بين العديد من
الدارسين في هذا الإطار، هو " هاملت " لشكسبير. هذه المسرحية
التي سنكرس لها وقفة خاصة لنكشف من خلالها كيف يتجسد الميتامسرح
داخل التراجيديا باعتبارها تندرج ضمن ما يسمى بالنوع الجاد.
2. 2 -
الميتامسرح والكوميديا :
ثمة تمييز يفرض نفسه، بدءا، بين
الكوميك Comique والكوميديا. فالأول مظهر عام يرتبط بالأحداث
اليومية والأشخاص والأمزجة وببعض أشكال التعبير الأدبي بحيث يكاد
يطابق مفهوم المضحك Risible. لذا، يمكننا أن نذهب مع جان ساريل
Jean Sareil الذي يقول : " إذا سئلت ما معنى الكوميك ؟ فإن
الجواب الوحيد الذي بإمكاني الموافقة عليه كليا هو : ما يجعلني
أضحك "
(81). وهذا
التعالق بين مفهومي الكوميك والمضحك هو الذي يضفي على الأول طابع
النسبية ويجعله مرتبطا بطبيعة الجماعات البشرية. أما الكوميديا،
فهي نوع درامي يمكنه استثمار الإمكانات التي يتيحها الكوميك
وإعطاؤها شكلا متميزا. لذا، فلا عجب أن نجد الكوميديا كنوع قد
عرفت تلوينات متعددة خلال تاريخها الطويل.
هذا التمييز نفسه هو الذي أكد
عليه ميشال كورفان في بداية كتابه الجديد عن الكوميديا حيث يقول
: " الكوميديا هي نوع ومفهوم في آن واحد. باعتبارها نوعا؛ لها
تاريخ غير متصل بالضرورة، مادام أصلها يعود إلى أرسطوفان، وتمتد
لدى اللاتينيين، وتنقرض خلال العصر الوسيط لتظهر من جديد خلال
القرن 16 وتكتمل خلال القرن 17 قبل أن تثبت نهائيا وتتحجر، بعد
ذلك، في القرن 18. وتتحدد، بالتالي، بخصائص وطرق أدبية وجمالية -
اجتماعية [...] . الكوميديا كمفهوم ترتبط بالكوميك، مادام
الكوميك هو الذي يفسر إمكانية وضع أعمال تنحدر من " مسرح الضحك "
في إطار الزاوية النوعية للكوميديا "
(82).
إن خاصية الضحك هي الجسر الذي
يقرب المسافة بين الميتامسرح والكوميديا. فإذا اعتبرنا
الميتامسرح " امتحانا للحقيقة Epreuve de Vérité " بحكم طابعه
التأملي وبالنظر إلى الوعي الذاتي الذي يجسده - فإن " هذا
الامتحان الذي لا يمكن أن يتم دون ضحك. فالنظرة النقدية، في
الغالب، نظرة كوميدية "
(83).
لذا، فلا عجب أن نجد معظم الأعمال الميتامسرحية لا تخلو من
الأجواء الكوميدية، إن لم تكن هي نفسها عبارة عن كوميديات.
ولعل ما يزكي هذا الاقتران بين
الفعل النقدي في الميتامسرح وبين الفعل المضحك في الكوميديا، هو
الوضعية التي يتبوأها المتفرج، حيث يعيش نوعا من " التعالي "
إزاء ما يجري من أحداث، ويتخذ المسافة التي تخول له إصدار حكمه
على ما يجري، هذا الحكم الذي يعد الوجه الثاني للضحك. ويبدو أن
طبيعة الكوميديا تساعد على ذلك، لاسيما وأنها - حسب كورفان -"
تاريخ للآخر L’Autre. تاريخ لآخر يجعله اختلافه عنا نحن
المتفرجين - سواء في لباسه، في كلامه، في معجمه، أو في طريقة
عيشه وتصوره للأشياء - منحطا ويثير الضحك فينا، وذلك بجعله
منفردا "(84).
إن الكوميديا تساعد على هدم
قيم وبناء أخرى؛ وهذه الجدلية نفسها هي التي تشكل العمود الفقري
للميتامسرح الذي يشتغل فيها، غالبا، باعتباره " مسرحا مضادا
Antithéâtre" يهدم بدوره مفهوما معينا للمسرح ليبني مفهوما آخر.
في هذا الإطار، هناك خاصيتان أساسيتان في الكوميديا تخلقان
الإطار الملائم للمتيامسرح كي يصبح ممارسة نقدية تقويضية لجمالية
المسرحية، وبالتالي لنسق القيم المرتبط بها، وهما :
- تحطيم القدسية
Désacralisationn، وتتجلى في كون " الكوميك قليل الاحترام؛ ليس
فقط إزاء الحياة والموت والله والمؤسسات كيفما كان نوعها، وإنما
أيضا إزاء الإنسان وتفاهاته وحماقاته المتعددة. فضرب القدسية هو
ملامسة موضوعات صعبة، والتجرؤ على إشكالات خطيرة بنوع من الوقاحة
[...] وضرب القدسية هو أن تعجب أو تصدم، وأن لا تترك أي مكان
للامبالاة "
(85).
وهذه الخاصية تخدم الميتامسرح من زوايا متعددة، لأنها تهيء
للمؤلف المناخ الملائم كي يكون واضحا مع ذاته ومع الآخر، وأن
يعلن عن تصوراته الجمالية والقيمية أيضا دون حرج أو تردد.
- الطابع
السالبCaractère Négatif. فالكوميك يكون بالضرورة ضد شيء ما.
لذا، نلاحظ أن الأعمال الكوميدية التي تعتمد الميتامسرح تعد "
أعمالا صراعية Oeuvres de Combat" - كما يسميها نيشي - لأنها
تخلق بذلك نوعا من الانسجام والملاءمة بين المسرح كإطار لممارسة
الصراع الدرامي وكحقل لممارسة النقد وبلورة " صراع المسارح"، كما
هو الشأن مثلا في " مرتجلة فرساي " لموليير.
2. 3 -
الميتامسرح والتراجيكـوميديا :
التراجيكوميديا نوع درامي ظهر
خلال العقود الأخيرة من القرن السادس عشر، وعرف تطورا ملحوظا
خلال النصف الأول من القرن السابع عشر. ويتميز هذا النوع بطابعه
الكروتسكي Grotesque الذي يعكس خصائص فنية تعبر عما يسمى
بالجمالية الباروكية، أي الجمالية المرتبطة بالعصر الذي يقع بين
عصر النهضة والعصر الكلاسيكي.
وإذا كان المظهر البارز لهذا
النوع هو ما توحي به التسمية نفسها من مزج بين التراجيديا
والكوميديا ، فإن البعد الأعمق يكمن في كون التراجيكوميديا
"مسرحا غير نظامي، وملجأ للكتاب الذين رفضوا ضغط القواعد"
(86).
إنها تعكس، إذن، موقفا نقديا
إزاء صرامة القواعد، وإزاء الضغوط التي كانت تمارسها عقلية
العلماء. من ثم، يمكن النظر إلى المزج التي تقوم به
التراجيكوميديا بين نوعين أحدهما جاد والثاني هازل، باعتباره
إجراء ميتامسرحيا يضمر منظورا خاصا إزاء مفهوم النوع نفسه. ويقوم
هذا المنظور على التمرد ضد صفاء النوع الدرامي، وعلى إعادة النظر
في ما تأسس من قواعد، والسماح بالتالي للكتاب بحرية أكبر للتصرف
في مكونات العمل المسرحي، سواء على مستوى الموضوعات (الجاد إلى
جانب الهازل)، أو الشخوص (النبيلة والشعبية)، أو الحكاية (البناء
الروائي)، أو اللغة (المزج بين الشعري والعادي).
وقد استطاعت التراجيكوميديا
بهذه المكونات المرنة أن تراهن على ثلاث خصائص أساسية هي :
- الفرجوي
Spectaculaire
- المفاجئ
Surprenant
- المثير للعاطفة
Pathétique
كما تمكنت بتكوينها المرن
المتحرر، وبخصائصها المثيرة أن تجذب إليها العديد من كتاب المسرح
المعاصرين، إلى حد أن شميلنغ اعتبر ما كتبه هؤلاء، في هذا
الإطار، تعبيرا عن بلوغ التراجيكوميديا مرحلة النضج، ويتجسد هذا
النضج عبر مظهرين : أحدهما إيديولوجي والثاني جمالي. " فعبر هذا
النوع التراجيكوميدي الذي يحمل في ذاته إيديولوجية عالم فوضوي
ومستلب خاصة به؛ يمكننا التمييز بين لعب منخرط في الحياة
السياسية رغم تأمليته من جهة، وبين لعب نرجسي نوعا ما مـن جهـة
أخـرى، يتخـذ الشـروط الجمـاليـة والفنيـة للإيهام المسرحي
بالخصـوص، موضوعا له.(87)
وعليه، نلاحظ أن
التراجيكوميديا المعاصرة تتضمن ممارسة ميتامسرحية ذات أبعاد
جمالية وإيديولوجية تعكس طبيعة المجتمع المعاصر باعتباره مجتمعا
يقوم على الفوضى والاستيلاب وانقلاب القيم وتدمير الكيان
الإنساني. فعندما نقرأ أعمالا تراجيكوميدية لتشيخوف أو بيرانديلو
أو جان جينيه أو يونسكو أو غيرهم، نجدها تتضمن تأملا عميقا في
طبيعة المسرح وفي علاقته بالعالم والإنسان، بحيث يمكن القول إن
مسرحة الواقع، بالنسبة لهؤلاء تتم بالضرورة عبر مسرحة المسرح
نفسه؛ وكل نقد ينصب على مفهوم للمسرح هو نقد لتصور هذا المسرح عن
الواقع.
2. 4 -
الميتامسرح والمحاكاة الساخرة :
إن الحديث عن المحاكاة
الساخرة Parodie هو حديث عن النوع الأدبي الذي يتم فيه المزج
بشكل صريح بين الممارستين الإبداعية والنقدية، مما يجعله إطارا
خصبا للميتامسرح.
ففي هذا النوع نجد، في الغالب،
نصين : نص سابق مسخور منهHypotexte Parodié ونص لاحق ساخر
Hypertexte Parodiant. وتقوم العلاقة بين النصين على بعد الصراع
والمواجهة، كما تبنى على جدلية التدمير والبناء. ولعل هذا
العلاقة هي التي جعلتها أكثر قربا من الطابع المميز للميتامسرح،
وجعلت هذا الأخير، بالتالي، يرتبط بها في العديد من مراحل تطوره.
وهذا ما يؤكده شميلنغ نفسه حين يقول :" ليس اعتباطيا أن يكون
المسرح داخل المسرح مرتبطا، في الغالب، بالمحاكاة الساخرة، أي
بالشكل الذي يبحث بطبيعته عن المواجهة، وأن يكون حاملا لنوع من
المسرح - المضاد المقابل لما يدعى بالمسرح البرجوازي "
(88).
وبغض النظر عن الالتباس الذي
يحوم حول مفهوم المحاكاة الساخرة، والذي يجعلها تعن " تارة
التشويه اللعبي، وتارة التحويل الساخر، وتارة المحاكاة الساخرة
لأسلوب ما"
(89)،
فإن هذه الممارسات أو الوظائف المختلفة التي ينجزها نص إزاء نص
سابق عليه، تجعل من المحاكاة الساخرة نوعا من الميتالغة، حسب
كلود أباستادو. ونظرا لكونها كذلك، فهي تلعب دورا فعالا في تطوير
الأشكال الأدبية، لا سيما وأن السخرية من نص ما هي، في نهاية
المطاف، سخرية من النوع الذي ينتمي إليه ذلك النص. ولعل امتداد
التأثير من النص إلى النوع هو الذي جعل باتريسيا ووو Patricia
Waugh تعتبر أن التحول الذي تخلقه المحاكاة الساخرة يمس بالضرورة
النسق الأدبي بشكل عام.
وعليه، فإذا نظرنا إلى المحاكاة
الساخرة في السياق المسرحي، سنلاحظ أن الارتباط بالميتامسرح وبين
هذا النوع الساخر قد تزامن مع منعطف أساسي في تاريخ المسرح
الغربي وهو القرن الثامن عشر، الذي عرفت خلاله القيم الأدبية
المنحدرة من العصر الكلاسيكي انقلابا حقيقيا. فقد " بلغت
المحاكاة الساخرة أوجها خلال القرن الثامن عشر، وأصبحت مؤسسة
حقيقية. فمسرح المعرض والمسرح الإيطالي هما اللذان حولا كل
الأنواع الدرامية الجادة تقريبا، كالأوبرا والتراجيديا، إلى
سخرية "
(90).
لذا، وجد الميتامسرح في
المحاكاة الساخرة للقرن الثامن عشر مجالا لوضع كل القيم
الكلاسيكية موضع سخرية، سواء كانت قيما أخلاقية (الفضيلة،
الواجب) أو جمالية (الجميل، الحقيقي، الذوق الجيد) أو أدبية
(المسرحية المحكمة الصنعLa pièce bien faite). وبهذا كان خير
معبر عن روح العصر التي كان طابعها المميز- حسب شميلنغ - هو
"صراع المسارح ". هذا الصراع الذي كانت له صلة قوية بتحولات
الذوق العام ودينامية مواقف المتلقي إزاء أنواع المسرح القديمة
والمستحدثة.
إن الميتامسرح حقق في إطار
المحاكاة الساخرة هدفين أساسيين : الأول أدبي محض تمثل في خلق
مواجهة بين قيم مسرحية قديمة وأخرى جديدة وفي قلب النسق الأدبي
السائد، والثاني اجتماعي جعل من المسرح فنا شعبيا يخدم الفئات
العريضة المشكلة للمجتمع، بحيث أصبحت التراجيديا - ذلك النوع
النبيل الجاد - نوعا عاديا مطروحا كموضوع للسخرية بقيمه
الأخلاقية والجمالية. لهذا، فلا عجب أن نجد العديد من المسرحيين
العالميين المعاصرين يستوحون المحاكاة الساخرة كإطار جمالي
لممارسة نوع من المسرح المضاد، وللكشف عن البعد الإيديولوجي لبعض
الأنواع الجادة، كما فعل بريشت مثلا مع الأوبرا في مسرحيته
"أوبرا القروش الثلاثة".
2. 5 -
تركيــــــــب
لقد مكننا وضع الميتامسرح في
إطار شعرية النوع الدرامي من الكشف عن العلاقة القائمة بين هذا
الإجراء وبين الأنواع الدرامية الجادة (التراجيديا) والهازلة (الكوميديا،
التراجيكوميديا والمحاكاة الساخرة). وهي علاقة تستثمر، بشكل
واضح، المناخ السائد في هذا النوع أو ذاك بشكل يجعل الممارسة
الميتامسرحية تتكيف مع هذا المناخ، وتستفيد من مكونات وخصائص كل
نوع.
ففي التراجيديا، يفتح
الميتامسرح أفقا للمضاعفة المسرحية يكسر الإيقاع الذي يسير عليه
الحدث التراجيدي، ويفتح للمؤلف هامشا لتضمين موقف أو فكرة تخص
تصوره عن المسرح. وفي الكوميديا، يصبح الميتامسرح هو الوجه الجاد
- إن صح القول - للضحك، لأنه يتحول إلى تعبير عن الرؤية النقدية
التي يتضمنها هذا الضحك. وفي التراجيكوميديا، يتحول الميتامسرح
إلى ممارسة تدميرية لمفهوم النوع وللإيديولوجيا التي تسكنه.
وبهذا المظهر نفسه نجده في المحاكاة الساخرة، لكن بطريقة مختلفة
تقوم بالأساس على خلق تصادم بين نصين، تصبح سخرية أحدهما من
الآخر سخرية من النوع، وبالتالي من النسق الأدبي والاجتماعي بشكل
عام.
إن استحضار هذا الإطارالنوعي
أثناء ملامسة التجليات المختلفة للميتامسرح سواء في المسرح
الغربي أو في المسرح العربي، مسألة جوهرية لا يمكن التملص منها.
3 - وظائف
الميتامسرح :
لقد كشفت لنا البنيات النوعية
للميتامسرح، سواء كانت جادة أو هازلة، أنه يشكل فعلا نقديا يقوم
داخل الإبداع المسرحي، ويشغل آليات مختلفة كالتحويل والسخرية
والقلب وتنويع المنظورات وخلق المواجهة والصراع بين البنيات
المسرحية، وبالتالي بين الأنساق الأدبية. وبهذه المكونات، يعمل
على خلق شروط جديدة للتلقي ويعيد النظر في التصورات المبنية
علىالإيهام والاستيلاب والامتاع والتماهي. ولعل هذا الأفق النقدي
بأبعاده الجمالية هو الذي يساعد على تحقيق الوسائل الكفيلة بقيام
نظرية مسرحية من داخل الإبداع، تتلاءم وتوجهات المبدع وتنسجم مع
رؤيته للأشياء وتعكس منظوره للفن في علاقته بالواقع.
إن الميتامسرح يشتغل بواسطة هذه
البنيات بكيفية مركبة يتداخل فيها الفعل النقدي بالفعل النظري
والجمالي، وبين ثنايا هذه الأفعال كلها تتسرب رؤية المبدع للعالم
والأشياء. لذا، يتعين علينا أثناء الحديث عن وظائف الميتامسرح "
القيام بتمييز أساسي، لأن للإجراء وظيفة أو عدة وظائف محايثة
للمسرحيات من جهة، أي وظيفة بنيوية، ولأن مجموع المسرحيات
المرآوية تستجيب، من جهة أخرى، لوظيفة تاريخية ينبغي تحليلها"(91).
وباستحضار هذا التمييز، نرى
أن للميتامسرح وظائف أربعة هي :
- الوظيفة
النقدية.
- الوظيفة
التنظيرية.
- الوظيفة
التأويلية.
- الوظيفة
الإيديولوجية.
ولعل انفتاح الميتامسرح كبينة
على التاريخ - من خلال هذه الوظائف - هو الذي يزكي المنظور الذي
انطلقنا منه من البداية، والمتعلق بضرورة إضافة البعد التأويلي
لشعرية الميتامسرح مادام يعكس الاختيارات الإيديولوجية التي تمر
عبر البنيات النقدية والتنظيرية والتأويلية للإبداع المسرحي.
3. 1 - الوظيفة
النقدية : الميتامسرح نقد ممسرح :
تميز دارسة أمريكية بين
منظورين أساسيين تحكما في المقاربات التي تناولت موضوع
الميتامسرح : منظور ميتافيزيقي مفتوح - يمثله أبيل - ينطلق من
اعتبار الميتامسرح جزءا من ظاهرة أكبر سمتها هي بالميتاتمسرحMetatheatricality
تقوم على فكرة " العالم مسرح "، ومنظور سيكولوجي مغلق - يمثله
كالدروود - يعتبر الميتامسرح عند شكسبير انعكاسا لنشأته كفنان،
وللسيكولوجية المتحكمة في كتابته للدراما.
إلا أن هذين المنظورين يغيبان
بعدا أساسيا في المتيامسرح يتمثل - في نظر الباحثة - في الوظيفة
النقدية المتمثلة في نقد الميتامسرح للمواضعات الدراماتورجية
والمسرحية السائدة، حيث تقول : " لا ينسجم أي واحد من هذين
التصورين - الميتافيزيقي المفتوح أو السيكولوجي المغلق - مع
الوظيفة النقدية للميتادرامـا أي مـع
دورها كمسرحية نقدية للمواضعات
الدراماتورجية والمسرحية لزمنها "
(92).
إن الميتامسرح، إذن، نقد
ممسرح، أي نقد يتم بأدوات مسرحية. ولكونه كذلك فإنه يخلق طرقا
جديدة لممارسة النقد وبالتالي لممارسة المسرح بشكل يتحقق معه
الانسجام والتلاؤم بين ممارستين مختلفتين منصهرتين في قالب واحد
هو العمل المسرحي.
في هذا الإطار، يلاحظ أن
الميتامسرح باعتباره نقدا ممسرحا، يتكيف مع موضوعه، حيث تتحول
الإبداعات المسرحية المتضمنة لهذا البعد النقدي إلى " أعمال
صراعية " أو "أدب مواجهة"، حسب تعبير جاك نيشي. وتندرج ضمن هذا
الإطار أعمال مثل "الضفادع" لأرسطوفان، و" مرتجلة فرساي" لموليير،
و" أوبرا القروش الثلاثة " لبريشت. فهذه الأعمال تخلق تقابلا بين
شكلين للممارسة المسرحية لكل منهما خصائصه الجمالية وأبعاده
الأيديولوجية، وتحرص على جعل المتفرج طرفا في هذا الصراع، حيث
تحفزه على اتخاذ موقف إزاء المسرح - الخصم. في هذا السياق " يصبح
النقد مقاومة جماعية، موضوعية ومنحازة، على عكس النقد الاحترافي
الذي يكون فرديا، ذاتيا وحياديا "
(93).
يحرص النقد الممسرح بهذه الخصائص
على تقليص الإيهام بشكل كبير، وذلك حتى يتمكن المتفرج من اتخاذ
المسافة اللازمة للفعل النقدي، لاسيما وأن النقد يتحول - في سياق
المسرح - إلى " محاكمة حية "
(94)تجري
مباشرة على مرأى ومسمع من المتفرج، ويصبح فيها صراع الأدلة بين
مسرحين، وبالتالي بين منظورين جماليين وإيديولوجيين، جدالا
حقيقيا وحربا كلامية لا يمكن للمتفرج أن يبقى محايدا إزاءها.
ولعل ما يجعل الحياد مستبعدا هو أن النقد الممسرح لا يستهدف
مسرحا معينا فحسب، بقدر ما يستهدف واقعا بكامله، بمواصفاته
السياسية والإيديولوجية.
إن خاصية الصراع والجدال التي
تسكن الميتامسرح تجعله يتحول إلى " امتحان للحقيقة Epreuve de
vérité " تتحول فيه القيم إلى معطيات تاريخية نسبية، وليس إلى
جواهر مطلقة خالدة. من ثم، فإن الإطار الحقيقي للنقد الممسرح -
من الناحية الفلسفية - هو النسبية والتاريخية. ذلك أن هذا الإطار
هو الذي يسمح بفتح نقاش واسع وغير مشروط حول مدى صحة أو خطأ
التمثيلات الإيديولوجية السائدة إزاء واقع معين، ويؤكد على
التعالق الموجود بين البعد الأدبي للنقد الممسرح وبين أبعاده
السياسية والإيديولوجية.
انطلاقا من هذا المنظور
الشمولي، يمكننا أن نفند الرأي الذي يعتبر النقد الممسرح عودة
إلى الذات تعكس نوعا من " الإنكفاء النرجسي "، لنؤكد أن هذه
العودة منفتحة على تاريخ الأشكال الدرامية باعتباره ترجمة لتاريخ
القيم الاجتماعية والسياسية.
3. 2 - الوظيفة
التنظيرية : الميتامسرح تنظير محايث للمسرح :
عندما نتأمل تاريخ نظرية المسرح،
بدءا من أرسطو وصولا إلى آخر الشعريات الطليعية في القرن
العشرين، نلاحظ أن ثمة توجهين كبيرين تحكما في مسار هذه النظرية:
أولهما ذو منزع شمولي يحرص على بلورة منظورات كلية صالحة للتداول
في أزمنة وأمكنة مختلفة، وقابلة للمحاكاة والتقليد كشعرية أرسطو
مثلا. والثاني ذو منزع خصوصي ذاتي يحرص فيه صاحبه على خلق نظرية
لحسابه الخاص تعكس تصوره للمسرح. وقد ساد هذا التصور، بالخصوص،
خلال هذا القرن وإن كانت له جذور وإرهاصات في فترات سابقة. ويفسر
جان جاك روبين هذه الظاهرة ب " مقولة البحث التي أصبحت - بفضل
تطور العلوم - القوة الأساسية التي تجذب الفنانين ".(95)إنها
جاذبية تعكس روح العصر، ليس من الناحية العلمية فحسب، وإنما من
الناحية الإيديولجية أيضا، حيث تراجع الإيمان بالقيم الجماعية
والتوجهات الشمولية، وأصبح الإنسان يشعر أنه تحول إلى كيان منعزل
لا تربطه بمحيطه إلا روابط واهية. من ثم، أصبح المبدع أكثر
انزواء على إبداعه يحاول أن يصوغ من خلاله نظرية محايثة أو ضمنية
يبلور فيها منظوره للمسرح وللواقع في آن واحد.
لقد شكل الميتامسرح قناة
أساسية لهذا النوع من التنظير الملازم للإبداع، حيث تمكننا
مطالعة نصوص مسرحية من استخلاص موقف المؤلف من العملية المسرحية
باعتبارها سيرورة إنتاجية وتقبلية في آن واحد. في هذا الإطار
نستطيع أن نستخرج من هذه النصوص منظور المؤلف إزاء مفهوم النص أو
الممثل أو الإخراج أو التلقي، أو إزاء بعض القضايا الشائكة التي
شغلت منظري المسرح - سواء كانوا فلاسفة أو علماء جمال أو مسرحيين
- كالمحاكاة والواقعية والوظيفة الجمالية والتعليمية للمسرح
وغيرها. ولعل هذا ما يجعلنا نرى أن هذا التنظير المحايث يتصل، مع
ذلك، بالقضايا الفكرية والجمالية لكل عصر من العصور.
فإذا كان بريشت، مثلا، يؤكد
في أعماله المسرحية على مقولة " التغريب Distanciation "
باعتبارها مقولة تترجم منظوره المتميز إزاء علاقة المتلقي
بالمسرح، فإن هذا التأكيد لا يجد معناه الحقيقي إلا في علاقته
بمقولة أخرى هي" الاستيلاب " باعتبارها تعبيرا عن ظاهرة مرتبطة
بالإنسان المعاصر وبمعاناته اليومية في عصر يصادر كل القيم
الإنسانية.
يستخلص من هذا أن الميتامسرح
هو الوجه الثاني لشعرية مسرحية قائمة داخل الإبداع تساهم في
بلورة الأفكار المسرحية وتطويرها، لكنها ليست شعرية منغلقة على
ذاتها مادامت لها امتدادات داخل النسق الأدبي العام للعصر الذي
أفرزها.
3. 3 - الوظيفة
التأويلية: الميتامسرح تأريخ للإنتاج والتلقي المسرحيين:
هناك إجماع بين العديد من
الآراء يرى في مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" لبيرانديلو
تأريخا ممسرحا للدراما. فبيتر زوندي اعتبرها عرضا ذاتيا لتاريخ
الدراما، ومانفريد شميلنغ قال إنها عرض ذاتي نقدي لتاريخ
الدراما، أما باتريس بافيس فرأى فيها عرضا لخمس وعشرين قرنا من
الشعرية المسرحية.
ولعل المثير في هذا الإجماع هو
الصيغة الجديدة التي أصبح عليها مفهوم "تاريخ الأدب"، وهي صيغة
إبداعية، أو بعبارة أوضح صيغة داخل - نصية. فالتصورات القديمة
كانت تجعل "معظم تواريخ الأدب إما تواريخ اجتماعية أو تواريخ
للأفكار كما تتوضح في الأدب، أو أنها انطباعات وأحكام على أعمال
معينة رتبت تقريبا حسب التسلسل الزمني"(96).
إلا أن التصور الجديد يقوم على قاعدة الإبداع في بعديه الإنتاجي
Productif والتقبلي Receptif، بمعنى أنه يؤرخ من داخل الإبداع
المسرحي للإنتاج والتلقي في آن واحد، متفاديا بذلك التحول الذي
يمكن أن يقع فيه تاريخ الأدب والذي قد يجعل منه ضربا من
السوسيولوجيا.
إن الميتامسرح - بتأسيسه لمفهوم
جديد لتاريخ الدراما - يسير بموازاة المسار الذي رسمه ميكائيل
ريفاتير لتاريخ الأدب، والذي يؤكد فيه على علاقة الظاهرة الأدبية
بمتلقيها، وذلك حين يقول : "يواجه التاريخ الأدبي دائما خطر
التحول : فهو ينقلب بسهولة إلى تاريخ أفكار، إلى سوسيولوجيا.
وغالبا ما يكون مجرد دراسة تاريخية لظواهر ذات طبيعة أدبية
بالأساس. لذلك، فهو في أمس الحاجة إلى إحاطة نفسه بالضمانات التي
تقدمها مسلمات التحليل الشكلي الأساسية، وهي : أن الأدب لا يتكون
من نوايا، بل من نصوص. وأن النصوص تتركب من كلمات وليس من أشياء
أو أفكار. وأن الظاهرة الأدبية لا تتحدد بالعلاقة بين المؤلف
والنص، بل بالعلاقة بين النص والقارئ "(97).
انطلاقا من هذا التصور، يمكن
القول إن التاريخ الممسرح بإدخاله لهذه المعطيات الجديدة تصبح له
أبعاد أخرى نقدية وجمالية. فهو يخلق، من جهة، تقابلا بين بنيات
أدبية قديمة وأخرى جديدة، وبذلك فهو يقوم على المواجهة والصراع
والهدم والبناء. كما أنه من جهة أخرى، يجعل المتلقي طرفا في هذا
الصراع ويدفعه إلى الإحساس بتطور البنيات الأدبية.
وعندما يضطلع الميتامسرح بهذه
المهمة تصبح له وظيفة أخرى يمكن تسميتها بالوظيفة التأويلية
Herméneutique التي يشرحها شميلنغ قائلا :" يشكل المسرح داخل
المسرح نوعا من التاريخ الأدبي داخل العمل نفسه، لأنه يتضمن،
شأنه شأن كل شكل مفكر فيه، نقدا أو حكما على ماض أدبي بصفة عامة،
وعلى شروط إنتاج النوع وتلقيه بصفة خاصة. لذا، يمكن أن تكون
للميتامسرح وظيفة تأويلية محايثة تقتضي الإشارة إلى ما ينتمي
لتقليد متجاوز، وجعل المتلقي يشعر بتطور ما. إنه يشكل، إذن،أدب
مواجهة"(98).
يستخلص من هذا القول أن
الميتامسرح يخلق آليات كفيلة بتحويل التلقي السائد. فطبيعته
كممارسة مسرحية نقدية تقوم ضد الإيهام والجاذبية والإندماج، تصنع
فرجة متعددة الأبعاد تسمح للمتلقي بحرية أكبر في التعامل معها من
زوايا مختلفة، ويصبح المجال مفتوحا أمامه للمقارنة والنقد
والحكم. بعبارة واحدة يمكن القول - اسيتحاء لجمالية التلقي - إن
أفق انتظار المتلقي يدخل في الرهان لأنه يصبح معرضا للتحول.
إن الوظيفة التأويلية
للميتامسرح تسمح بإعادة كتابة تاريخ الدراما بكيفية نقدية، وتفتح
أفقا جديدا للتلقي المسرحي يجعل الدراما مسايرة لروح عصرها
ويطبعها بالدينامية.
3. 4 - الوظيفة
الإيديولوجية : الميتامسرح رؤية إزاء الواقع :
غالبا ما اعتبرت الأشكال
المفكر فيها Les Formes réfléchies، وضمنها الميتامسرح، أشكالا
منقطعة الجذور والصلة بالواقع، حيث عد انكباب المبدع على قضايا
إبداعه الخاصة بمثابة " انكفاء نرجسي". وقد اعتبر هذا الانكفاء -
في نظر البعض - مؤشرا على أزمة الإبداع واختناقه، لا سيما وأن
انشغال المبدع بهموم إبداعه وجعلها موضوعة مركزية فيه، يفسر
بعجزه عن الإمساك بالواقع وعدم قدرته على تصويره.
إلا أن البعض الآخر يعتقد عكس
ذلك. فباتريسيا ووو ترى أن الميتارواية مثلا، باعتبارها شكلا
مفكرا فيه، " تشتغل فيه من خلال أشكلة Problematization مفهوم
الواقع أكثر من تدميره "
(99)،
كما أن ليندا هتشون تؤكد أن " الحكي الذي يبنين ذاته لا يدل على
نقص في الحساسية أو في الانشغالات ذات الطابع الإنسانوي (أو
الإنساني) لدى الروائي، كما أنه ليس علامة على أزمة، أو اختناق
للخيال الأدبي سببه مجهود كبير جدا في التفكير النقدي [...] لو
كان الوعي بالذات علامة على تفكك من هذا النوع، لكانت الرواية قد
بدأت انحدارها منذ ولادتها "
(100).
إن هذه الآراء التي تبلورت
بشأن الميتارواية تنطبق بشكل مطلق على الميتامسرح. فالإجراءات
التأملية التي يلجأ إليها لا توحي أبدا بانقطاع صلته بالواقع.
على العكس من ذلك، فالمبدع المسرحي يعيش وضعا متميزا بالتجائه
إلى الميتامسرح. ويتمثل ذلك في تدخله المباشر في متخيله وعرضه
لمواقفه إزاء ذاته وإزاء العالم المحيط به، لاسيما وأنه يصبح في
موقع المسرحي - الملحمي Dramaturge - rhapsode - بتعبيرسارازاك -
الذي يختلف عن المؤلف التقليدي الذي يفضل الاختفاء وراء شخصياته
والغياب عن أحداث عمله.
فالميتامسرح، إذن، بنية شكلية
تترجم رؤية المبدع الخاصة إزاء واقعه. فمسرحة المسرح التي تعد
قاعدته الأساسية، هي الوجه الآخر لمسرحة الواقع. ويلاحظ أن هذه
المسرحة تتخذ - موضوعاتيا - أشكالا مختلفة منها : علاقة الكائن
بالظاهر، أو اللعب بالحياة، أو الوهم بالحقيقة، كما هو الشأن لدى
أسماء معروفة كتشيخوف وبيرانديلو وجينيه وغيرهم.
وإذا كان الميتامسرح يخلق
المواجهة والصراع بين أشكال مسرحية، وبالتالي بين أنساق أدبية،
فإنه، بموازاة ذلك، يخلق صراعا، بين منظورات إزاء الواقع تعكسها
هذه الأنساق. فاشتغال الميتامسرح، مثلا، في إطار المحاكاة
الساخرة أو في الكوميديا باعتباره مسرحا مضادا، يجعل منه ممارسة
مسرحية مناهضة لشكل يعكس نسقا اجتماعيا بمواصفات وعلاقات محددة،
ومؤسسة لمنظور إيديولوجي يقوم على تنسيب القيم وخلق التفاعل
والدينامية فيها.
في هذا الإطار، يمكن القول -
على سبيل المثال لا الحصر - أن الموقف الذي اتخذه بريشت إزاء
الأوبرا كنوع يكرس الانسجام والإيهام، في مسرحيته " أوبرا القروش
الثلاثة "، لا يمكن تفسيره إلا بالوظيفة الإيديولوجية التي تجعل
من هذا النوع المسرحي وسيلة لإخفاء التناقض القائم في المجتمع.
لذا، فلا عجب أن يكون العمل المسرحي البريشتي نموذجا للتعالق
القائم بين الوظيفة الجمالية (قلب النسق الأدبي) والوظيفة
الإيديولوجية (تدمير النسق الاجتماعي السائد) للميتامسرح.
3. 5 -
تركيــــب:
مما لا شك فيه، أن الوقوف على
الوظائف المتعددة والمتراكبة للميتامسرح قد كشف لنا أن الفصل
التقليدي بين الأطراف الثلاثة للبحث الأدبي بما فيها النقد
الأدبي، نظرية الأدب وتاريخ الأدب، يصبح لاغيا عندما تنبثق آليات
اشتغاله من داخل الإبداع، كما كشف لنا أن تطور الأنساق الأدبية
رهين بالدينامية النقدية والنظرية والتاريخية التي تعتمل داخل
النصوص المسرحية. والملاحظ أن هذه الدينامية لا تبقى لازمة وإنما
تصبح متعدية لأنها تؤثر في الأنساق الخارج - أدبية وتتأثر بها.
ولعل هذا ما يزكي الأفق التأويلي الذي نرى ضرورة انفتاح شعرية
الميتامسرح عليه.
تـركيـــــب عـــام :
لقد كانت الغاية، من كل ما
سبق، هي رسم إطار نظري واضح لموضوعنا يمكننا في ضوئه الاقتراب من
تجليات الظاهرة الميتامسرحية في النصين المسرحيين الغربي
والعربي. هذا الإطار النظري الذي أردناه أن يكون شعريا وتأويليا
في آن واحد، لأننا نعي جيدا علاقة التفاعل القائمة بين الأنساق
الأدبية والأنساق الخارج - أدبية.
لقد لاحظنا أن لظاهرة
الميتامسرح علاقة بفن يقوم على الأدب والفرجة في آن واحد، هو فن
المسرح، لهذا كان لزاما علينا تحديد منطلق واضح يساعد على تخطيط
المسار النظري ورسم آفاق المقاربة العملية للميتامسرح، فلم نجد
مندوحة عن اختيار المنطلق الأدبي معتبرين المسرح ممارسة أدبية،
والميتامسرح مظهرا نصيا.
لقد كان علينا أن نرصد مظاهر
الاختلاف والائتلاف بين الميتامسرح وبين ظواهر أدبية قريبة منه
تتصل بأنواع أدبية أخرى كالرواية والشعر. وقد فرض علينا هذا
التوجه - من زاوية الائتلاف - الاستعانة بشعرية النص الأدبي وذلك
قصد النظر إلى الميتامسرح - شأنه شأن الميتارواية والميتاشعر-
باعتباره مظهرا للميتانصية ونوعا من التجويف الأدبي. كما فرض
علينا أيضا - من زاوية الاختلاف - استحضار شعرية المسرح، ولاسيما
في الجانب الذي يتعلق بمسألة النوع الدرامي للكشف عما تفرضه هذه
الشعرية من خصوصيات تميز الميتامسرح في علاقته بالأنواع
الدرامية.
إن الوقوف عند هذه الحدود
الشعرية كان الهدف منه هو الكشف عن بنيات الميتامسرح وعن آليات
اشتغاله نوعيا ووظيفيا. إلا أن انفتاح هذه البنيات على مظاهر
سياقية مختلفة تتعلق بالمؤلف أو بعصره أو بسياقه الثقافي، جعلنا
نقترح أن تكون شعرية الميتامسرح شعرية تأويلية. ولم يكن قصدنا
بالتأويل هنا سوى الوقوف عند اتجاه المعنى نحو المرجع والكشف عن
الوسائط التي يقيمها الخطاب بين الإنسان والعالم. فالنص، بالنسبة
إلينا، مفتوح دوما على العالم.
إن هذا الإطار النظري هو الذي
يملي علينا أفقا منهجيا لمقاربة الميتامسرح في علاقته بالمتن
المسرحي الغربي والعربي. يقوم هذا الأفق على عمليتين متداخلتين
ومتكاملتين هما :
- توصيف البنيات
وتحليلها.
- تأويلها.
وإذا كنا ننوي إنجاز هاتين
العمليتين في ضوء النظرية التي رسمنا خطوطها، فإننا نفترض، مع
ذلك، أن المقاربة من شأنها أن تكشف لنا عن علاقات مختلفة بين
النظرية والممارسة. فالأعمال الفردية قد تتطابق مع البنيات
العامة أو تأخذ منها بجانب فقط، وقد تنزاح عنها بشكل يدفع إلى
إعادة النظر في المبادئ الكبرى للنظرية.
ولعل ما يجعلنا نعلن عن هذه
الاحتمالات منذ الآن، هو اقتناعنا بما تمليه علينا طبيعة المتن
المسرحي نفسها؛ فهو يتوزع بين سياقين مختلفين : غربي وعربي.
بالإضافة إلى ذلك، فطبيعة الميتامسرح نفسها تنزع نحو ما هو ذاتي
وما له علاقة بهواجس المبدع الخاصة ورؤيته للأشياء من حوله. من
ثم، لا نستبعد أن يكون هناك اختلاف بين في طرق الاشتغال
الميتامسرحية أو في مقصديتها من مبدع إلى آخر حتى داخل السياق
الواحد نفسه، وربما سيكون لنا في " المرتجلات " خير دليل على
ذلك.
هوامــش:
(62)
Lionel Abel - Metatheatre - p.60.
(63)
Ibid - p.60.
(64)
Ibid - p.61.
(65)
Emmanuel Jacquart - Le Théâtre de dérision - Gallimard 1974 -
p.35.
(66)
Lionel Abel - Metatheatre - Preface - p. VIII.
(67)
بيتر زوندي ـ نظرية الدراما الحديثة ـ ص.185.
(68)
Jean Pierre Sarrazac - L’Avenir du Drame - p.19/20.
(69)
Manfred Schmeling - Métathéâtre et Intertexte - p.5.
(70)
Ibid - p.8/9.
(71)
Patrice Pavis - Dictionnaire du Théâtre - p.237.
(72)
Ibid - p.238.
(73)
Manfred Schmeling - Métathéâtre et Intertexte - p.15.
(74)
Dominique Combe - Les genres littéraires - Edit Hachette -
Paris 1992 - p.4.
(75)
Jean Pierre Sarrazac - l’Avenir du Drame - p.149.
(76)
Patrice Pavis - Dictionnaire du Théâtre - p.179.
(77)
Manfred Schmeling - Métathéâtre et Intertexte - p.15.
(78)
Georges Steiner - la Mort de la Tragédie - Edit Gallimard 1993
- p.11.
(79)
Lionel Abel - Metatheatre - p.77.
(80)
Ibid - p.77.
(81)
Jean Sareil - l’Ecriture Comique - P.U.F. 1984 - p.9/10.
(82)
Michel Corvin - Lire la Comédie - Dunod - Paris 1994 - p.XI /
XII.
(83)
Jacques Nichet - la Critique du Théâtre au Théâtre:
Aristophane , Molière, Brecht - Littérature N°9 - Fevrier 1973
- p.41.
(84)
Michel Corvin - Lire la comédie - p.XIII.
(85)
Denise Jardon - Du Comique dans le Texte Littéraire - De Boeck
- Duculot 1988 - p.25.
(86)
Roger Guichemerre - La Tragi- comédie - P.U.F. 1981 - p.10.
(87)
Manfred Schmeling - Métathéâtre et Intertexte - p.48.
(88)
Ibid - p.9.
(89)
Gérard Genette - Palimpsestes - p.33.
(90)
Manfred Schmeling - Métathéâtre et Intertexte - p.22.
(91)
Ibid - p.18.
(92)
Lurana Donnels O’Malley - Plays - Within - Realistic - Plays
:Metadrama as critique of Drama in Pirandello and Chekhov -
Theatre Studies - Vol 35/1990 - p.40.
(93)
Jacques Nichet - La Critique du Théâtre au Théâtre - p.32.
(94)
Ibid - p.36.
(95)
Jean Jacques Roubine - Introduction aux grandes théories du
théâtre - p.124.
(96)
رينيه ويليك/ أوستن وارين ـ نظرية الأدب ـ ترجمة محي الدين صبحي
ـ مراجعة د.حسام الخطيب ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ ط.3
ـ 1985 ـ ص.267.
(97)
ميكائيل ريفاتير (عن) رشيد بنحدو ـ مدخل إلى جمالية التلقي ـ
آفاق ـ ع.6 ـ 1987 ـ ص.11.
(98)
Manfred Schmeling - Métathéâtre et Intertexte - p.8/9.
(99)
Patricia Waugh - Metafiction - p.40.
(100)
Linda Hutcheon - Modes et formes du Narcissisme littéraire -
Traduit par Jean Pierre Richard - Poétique 29 - Fevrier 1977 -
|