لقد اقترن الميتامسرح العربي
بالخطاب التأصيلي بشكل جعل النص المسرحي يستقطب قضايا الإبداع
الدرامي مشحونة بأسئلة الواقع. إلا أن هذا الاستقطاب لم يتخذ
صيغة موحدة أو متجانسة. ذلك أن تجربة المسرحيين العرب تحكمت -
بخلفياتها الفكرية والجمالية المختلفة - في الصيغة التي اتخذها
الميتامسرح في أعمالهم.
لهذا، يمكننا - انسجاما مع
المنطلقات الشعرية التي رسمناها في البداية - أن نميز بين ثلاثة
سياقات أساسية للميتامسرح التأصيلي هي :
- سياق سيرذاتي
تمثله مسرحية " موليير مصر وما يقاسيه " ليعقوب صنوع.
- سياق تاريخي -
وثائقي تجسده مسرحية " فجر المسرح المصري " لنعمان عاشور.
- سياق تاريخي -
جمالي تعكسه مسرحية " سهرة مع أبي خليل القباني " لسعد الله ونوس.
تقدم لنا هذه النماذج الثلاثة
صورة واضحة عن البنيات النصية والنوعية للميتامسرح التأصيلي، كما
تساعدنا على كشف الوظائف التي اضطلع بها في علاقته بالنص المسرحي
العربي. أما تنوع تجاربها من حيث المنطلقات الفكرية والجمالية
فإنه سيجعلنا نقف على امتدادات الواقع داخل الميتامسرح، لاسيما
وأننا، من جهة، أما تجربة تأملية ذاتية بالنسبة ليعقوب صنوع، كما
أننا، من جهة أخرى، إزاء قراءتين إبداعيتين لتجربة الرواد في
المسرح العربي؛ إحداهما تتخذ شعرية التوثيق إطارا للتأريخ لتجربة
مارون النقاش أنجزها نعمان عاشور، والثانية تستقطب مبادئ جمالية
ملحمية قصد التأريخ لتجربة أبي خليل القباني وقام بها سعد الله
ونوس.
1.
الميتامسرح في إطار سيرذاتي: "موليير مصر وما يقاسيه" ليعقوب
صنوع :
يشير محمد يوسف نجم في تقديمه
لنصوص مسرحية كتبها يعقوب صنوع، أن هذا الأخير نشر مسرحية "
موليير مصر وما يقاسيه " " سنة 1912 حين كان يعيش آمنا في باريس"(5).
وما كنا لنأخذ هذه الإشارة بعين الاعتبار، لولا أن السياق الذي
وردت فيه يوحي بأن النص عرف صيغتين في كتابته مما انعكس، بشكل
واضح، على طبيعة النصوص المدمجة Intertextes التي استحضرها صنوع
في مسرحيته، لاسيما وأنها كلها عبارة عن مقاطع من مسرحياته
السابقة تختلف صيغتها الأصلية عن الشكل الذي وردت به في نص "
موليير مصر وما يقاسيه ". إن مناخ الحرية والأمان في باريس قد
سنح لصنوع لكي يعبر عن آرائه ويتحدث عن تجربته بصراحة، وذلك ما
لم يكن ممكنا عندما كان في مصر. ولهذا المعطى أهمية بالغة مادام
يعكس لنا مظهرا سوسيوثقافيا لاشك أن آثاره على البنية
الميتامسرحية للنص واضحة المعالم.
إن أول ما ترسخه المسرحية في
ذهن القارئ، هو أن الأمر يتعلق بـ"كوميديا ممثلين Comédie des
comédiens "، مما يفتح أفقا لمقارنتها ب" مرتجلة فرساي " لموليير.
بل إن أجواءها وبنياتها تؤكد أننا أمام مرتجلة فعلا، لكن صنوع لم
يسمها كذلك. وهو موقف له ما يبرره إذا ما ربطناه بظروف نشأة
المسرح العربي. فطور التأسيس والتأصيل يستلزم التعامل مع تسميات
نوعية متداولة ومكرسة وقريبة من الإمكانات الاستيعابية للمتلقي
العربي آنذاك. لهذا فضل يعقوب صنوع وسمها ب" رواية تمثيلية هزلية
". بالمقابل، فإن إيراد صفة " مرتجلة "، في ذلك الوقت، ربما لم
يكن في صالح ترسيخ المسرح كفن طارئ داخل التربة العربية، مادامت
هذه الصفة تقترن - من الناحية اللغوية- بمظاهر الارتجال والفوضى
والعبث والخروج عن النظام. ولعل ما لقيه المسرح العربي من ردود
فعل داخل الأوساط الثقافية والسياسية يزكي هذا التأويل.
مما لاشك فيه، أن الخلفية
المولييرية حاضرة بقوة في كتابة نص صنوع منذ العنوان وحتى آخر
مشهد فيه. بل إن الجملة الشهيرة التي رددها موليير في حق
الممثليـن داخـل مـرتجلتـه: " آه، الممثلـون ! هـذه الحيوانات
الغريبة التي علينا قيادتهـا"، تلقي بظلالها على مسرحية صنوع.
فإذا كانت مرتجلة موليير قد
كتبت من أجل تجسيد " صراع التمثيل" في المسرح، فإن مرتجلة صنوع
تشخص نفس الصراع، إلا أن الفرق يكمن في كون الصراع هنا لا يكتسي
طابعا فنيا وسياسيا، كما هو الشأن عند موليير، بقدر ما يتخذ بعدا
ماديا واجتماعيا يتصل بمعيش الممثل وكرامته. علاوة على هذا،
فسمرحية صنوع تقوم على تعدد مستويات التمثيل بشكل يجعلنا أمام
ممثلين يتدربون، ويفهم من حوارهم أنهم يستعدون لأداء مجموعة من
الكوميديات في أمسية حاسمة لا يضاهيها من حيث الأهمية إلا
الأمسية التي كان يعد لها موليير مع فرقته في مرتجلته، والتي
كانت ستجري في قصر فرساي أمام الملك. وإذا كان موليير يشارك
فرقته في الإعداد فإن " جمس " مدير الفرقة في مسرحية صنوع يقوم
بتوجيه ممثليه وإعدادهم أيضا. كل هذا يؤكد لنا أن نص " موليير
مصر وما يقاسيه " خرج من معطف موليير، واستوحى مرتجلته قلبا
وقالبا. وعليه، فإن أبرز مكون ميتامسرحي يستأثر بالاهتمام، ويقدم
نفسه للقارئ منذ الوهلة الأولى هو النص الموازي Paratexte نفسه،
ولاسيما ما يتعلق منه بالعنوان والمقدمة ولائحة الشخصيات.
لابأس من التذكير بأهمية العنوان
بالنسبة للقارئ. فهو " يهمنا - عمليا - باعتباره " علامة أولى "
لعمل ما ، ورغبة في الخضوع للتقاليد التاريخية، ولعبا أوليا
بمحتوى آت يمثل هو واجهته أو إشارته الأولى [...] فالمعلومات
التي يقدمها - رغم هشاشتها جديرة بالاهتمام "
(6).
والنموذج الذي نحن بصدده جدير بالاهتمام ليس لما يستشرفه من
محتوى نصي وحسب، وإنما لكونه يختزل البنية الميتامسرحية للنص
بكاملها في علاقتها بالمؤلف من جهة، وبالسياق الفني والثقافي
الذي أحاط بكتابته المسرحية من جهة ثانية.
يتشكل عنوان مسرحية صنوع من
مكونين تجمعهما واو العطف : الأول عبارة عن لقب يترجمه مركب
إضافي هو " موليير مصر "، والثاني عبارة عن جملة تستقطب دلالة
مفتوحة على المعاناة : " ما يقاسيه " .
إن اللقـب المشـار إليـه فـي
العنـوان، أطلقـه الخديوي إسماعيل على يعقـوب
صنوع نفسه، لاسيما وأنه اشتهر
بتقديم اعمال كوميدية جيدة ، جعلته يشرفه بهذا اللقب، الذي أصبح
منذ ذلك الوقت، إسما آخر لهذا الرجل يتداوله دارسو المسرح
العربي. ولهذا اللقب حضور دال في سياق المسرحية نفسها، بحيث يضفي
- عبر نوع من القياس على صنوع نفس الأهمية التي حظي بها موليير
في المسرح الفرنسي، وذلك ما تشير إليه شخصية اسطفان:
" اسطفان : من
خصوص عمنا جمس يكفيه مدح جرائد الشرق والغرب فيه.
دارجل شهدت له العلماء بأنه فريد
العصر. ما أحد قبله عمل تياترو عربي في مصر وأفندينا أنعم الله
عليه بالعافية والخير، لما لعبنا أمامه سماهموليير. وموليير هو
مؤسس التياترات الفرنساوية، وعمنا جمس منشئ التياترات العربية.
فمن وقتها في سراية عابدين، وفي الدوائر والدواوين ما حدش يسميه
جمس يامون شير، جميعهم يقولوا له يامسيو موليير(7).
فإذا كان المكون الأول في
العنوان يشير، إذن، إلى علاقة المسرحي بالسلطة ورعاية هذه
الأخيرة له معنويا (توزيع الألقاب) - لاسيما إذا كان فنه يقوم
على الإضحاك والتسلية -؛ فإن المكون الثاني يقوض هذه المعطيات،
ويجعل العنوان ينطوي على مفارقة دلالية صارخة، خصوصا وأنه يشير
إلى المعاناة القاسية لموليير مصر. والتي يفصح عنها النص على
لسان جمس باعتباره لسان حال المؤلف :
" جمس : يعني ما
يصحش إلا واعمل تياترو لأولاد العرب، ما نابني منه إلا عقلي
وبيتي انخرب. وإنا كان مالي وما لدي الشبكة اللي زي الطين، اللي
ما طرح لي فيها بركه. رب العالمين. كنت رجل مرتاح متهني، وكانت
الهموم بعيدة عني، واليوم اللي دخلت التياترات، وانشغلت في تأليف
الروايات رفعت وانسليت وانتلف حالي وتركتني التلامذة وتعطلت
أشغالي وبقي لي عوازل وعدوين، من الغيرة بالجرائد علي نازلين.
لكن أنا أتحمل كيد وغيض الأعادي، على شان خاطر أولاد بلادي "
(8).
يبرز هذا المقطع، بشكل جلي،
أن صنوع جعل من مسرحيته مرآة لذاته وحياتـه التي انقلبت من جراء
تخليه عن مهنته الأصلية التي هي التدريس واتجاهه نحو المسرح في
زمن صعب.
وهكذا، فإن المعطيات الأولية
التي يقدمها العنوان تجعلنا نفترض، منذ البداية، أننا أمام سيرة
ذاتية، ممسرحة على الطريقة المولييرية. وبقدر ما هي سيرة لمسار
مسرحي يعد من رواد المسرح العربي، بقدر ماهي مرآة تعكس صعوبة
البدايات التأسيسية لهذا المسرح، مما يزكي الإشارة الأولية التي
انطلقنا منها بخصوص تقاطع الميتامسرحي والواقعي في المسرح
التأصيلي العربي.
ولعل ما يدعم أكثر هذا الإستنتاج
الأولي، هو ما جاء في المقدمة التي صاغها صنوع على شكل خطاب
مباشر للقراء يقول فيها : " أهديكم يا سادتي سلامي وتحيتي
واحترامي. واتمنى لكل افندي وموسيو وسنيور، العز والهناء
والسرور، وأرجوكم يا اعز اخواني، من مؤمن واسرائيلي ونصراني،
المحشي من حبكم فؤادي، المحبوبين عندي كأولادي، أن تسامحوا كل
الغلط اللي تجدوه في دي الرواية، وربي يرزقكم في الملايين
بالماية. فالآن رخصوا لي ان اقص عليكم يا كرام ما قاسيته في
انشاء التياترو اللي اسسته منذ أربعين عام، على أيام اسماعيل
اللي في ذلك الزمان، كنا عنده، اعز الخلان. تارة تضحكوا، وتارة
تبكوا، وتارة تشكروا، وتارة تشكوا. من الرواية الآتي شرحها يا
حضرة القاري ترسوا على حقيقة التياترو العربي وكيفية أفكاري "
(9).
إن هذه المقدمة تربط المسرحية
بزمنها، أي زمن الخديوي إسماعيل، كما تشي إلى أنها مرآة تعكس
حقيقة المسرح العربي وحقيقة أفكار وتصورات صنوع عن هذا المسرح.
إن موضوعتها المركزية، إذن، هي قضية تأسيس المسرح العربي وما
أحاط بها من شروط ذاتية وموضوعية.
في هذا الإطار، يلاحظ أن علاقة
المسرح بالسلطة استأثرت باهتمام صنوع بشكل جعله ينخرط في نوع من
الاستيهام يستحضر فيه، ربما، علاقة موليير بلويس الرابع عشر، مما
دفعه إلى السكوت عن بعض المواقف التي أبداها الخديوي إسماعيل
إزاء مسرحه. من ذلك، ما يشير إليه محمد يوسف نجم بخصوص الأمر
الذي أصدره الخديوي لإغلاق مسرح صنوع. علاوة على هذا، ثمة مظهر
سياسي في السيرة المسرحية لصنوع يفترض حضوره في مسرحية تلقي
الضوء على حقيقة أفكاره، كما يقول. يتساءل محمد يوسف نجم، في هذا
السياق، " فأين المسرحيات السياسية التي كتبها صنوع والتي كانت
سببا في إغلاق مسرحه. يبدو لي أن السبب الأول في اضطرار صنوع إلى
إغلاق مسرحه كان نشاطه السياسي الخاص وعلاقته بجمال الدين
الأفغاني وحلقته، وتأسيسه "محفل التقدم" و" جمعية محبي العلم "
سنة 1873، ثم الإفلاس المادي الذي أصاب المسرح والصعوبات المالية
التي كانت تعترض سبيله"(10).
إن مسرحية " موليير مصر وما
يقاسيه " تركز على هذا العنصر المادي وتسكت عن العنصر السياسي.
ولعل هذا ما يفسر اتجاه الخطاب الميتامسرحي نحو حيز سيرذاتي ضيق
يدفعنا لأن نفترض أن هذا الخطاب يجعلنا نرسو على حقيقة وجود
مسكوت عنه في المسرحية.
لقد استعاض صنوع عن هذه
الحقيقة بتحويل موضوع المسرحية إلى خلاف حول قضية جزئية بين
الكاتب مدير الفرقة وممثليه، ألا وهي قضية الأجرة. لقد كان يعرف
الأعداء الحقيقيين للمسرح، لكنه اختزلهم في ممثلي الفرقة مكتفيا
بالإشارة والتلميح إلى بعض الصعوبات الجوهرية، كمسألة الحرية،
مثلا، التي يحاول جعلها مقترنة بقضايا أشمل منها كقضية التمدن
والتقدم. والحوار التالي بين حبيب وجمس تجسيد لذلك :
" حبيب : بالله
عليك ما بقتشي تكتب لنا روايات، تذكر فيها لفظة حريه وحب وطن
ومحاربات. والا قل على التياترو العربي يا رحمن يا رحيم، والحدق
يفهم بقى رجعنا للعبنا القديم.
جمس : كلام غريب، يا سي حبيب،
لكن هذا كلام مليح، وفي محله صحيح، إنما كل مؤسس تياترو ومنشئ
روايات، ملزوم يتم جميع الواجبات، واجبات معلومه عنده ياحبيب،
وهي أن القصد بالمراسح هو التمدن والتقدم والتهذيب "
(11).
تقيم المسرحيـة، إذن،
متخيلهـا علـى أسـاس حكايـة بسيطة تتعلـق بانتظـار جمس مدير
الفرقة ومؤلفها الممثلين في " التياترو العربي " في وقت تأخر فيه
هؤلاء عن الموعد المحدد استعدادا لعروض المساء، لأنهم كانوا
يترددون على بيت زميلهم متري لمناقشة ضرورة المطالبة بحقهم في
أجرة عن عملهم المسرحي. هذا المطلب الذي خلق انقساما بين أعضاء
الفرقة، وصلت أصداؤه إلى جمس عبر شكل من المساومة انهار على
إثرها انهيارا نفسيا قويا دفعه إلىالتفكير في الانتحار، لولا أن
الممثلين تداركوا الأمر وتخلوا، مؤقتا، عن مطلبهم إلى ما بعد
الأمسية الحاسمة.
هذه الحكاية تمت بلورتها في
فصلين تدور أحداث أحدهما في دارمتري وتجري أحداث الثاني في "
التياترو العربي ". وقد اتخذت كوسيلة لإبراز الصعوبات التي
واجهها صنوع في إنشاء مسرحه، وكذريعة لمطارحة قضايا تتصل بالمسرح
من حيث مفهومه، موضوعاته، وظيفته، علاقته بالجمهور ومعاناة
الممثل فيه.
فإذا كانت المسرحية تقوم على
إجراء ميتامسرحي معروف هو الموضوعاتية الذاتية، فإن هذا الإجراء
يقع تكييفه هنا مع أسئلة المرحلة، أي مع زمن تأصيل الممارسة
المسرحية في الثقافة العربية.
فمن أبرز ما حاول صنوع توجيه
الاهتمام إليه، صراع المسرح مع الرأي العام مجسدا في مواقف بعض
النقاد. لقد كانت هذه المواقف ترى في المسرح تجسيدا لمظاهر
الفساد والمروق والخروج عن النظام كما كانت تجد في بعض الجرائد
ضالتها لتنشر هذه المواقف في مختلف الأوساط السياسية والثقافية.
ففي بداية المسرحية نجد اسطفان يخبر متري بما تقوله الجرائد في
حق جمس وفي شأن " التياترات العربية":
" اسطفان : خذ
واقرا ده جرنال شهير باسكندريه، يذم ويطعن ويلعن التياترات
العربية لكونها عن أصول النحو خارجه، ورواياتها مكتوبة باللغة
الدارجة"
(12).
إن المسرحية تثير هنا قضية
جوهرية أثارت حربا حقيقية في المسرح العربي منذ نشأته إلى الآن،
ألا وهي قضية اللغة المسرحية، ذلك أن العنصر اللغوي اعتبر عاملا
حاسما في تأصيل المسرح العربي، حيث عد اللجوء إلى العربية
الفصيحة عنصرا أساسيا لتحقيق هذا المطلب. بالمقابل، يلاحظ أن "
عنصر الإضحاك الأول عند صنوع هو اللهجات "
(13).
لذا، نجد أن الأعمال الكوميدية التي كتبها تعتمد اللهجة البربرية
أو الرومية أو السورية، أو لهجة الأجانب الذي يتكلمون بعربية
لاحنة أو مكسرة. وهو يعتبر هذا المكون اللهجي أساسيا في هذا
النوع من المسرح. ولعل مبرره في ذلك هو النموذج المولييري الذي،
يحتذيه، والذي جعله في مأزق حقيقي يدفع إلى التساؤل : هل كان
المسرح العربي قد اتخذ انطلاقة صحيحة باستناده على موليير ؟ ألا
يمكن القول إن مبررات صنوع تكشف عن مفارقة في الخطاب التأصيلي
العربي بين ترسيخ مكونات النوع الدرامي والاهتمام باللغة الأم ؟
مما لاشك فيه أن هذه
الإشكالية قد تحولت إلى قضية مزمنة في المسرح العربي، وليس هذا
مجال تفصيل الحديث فيها. لكن لابد من الإشارة إلى أنها تكشف هنا
عن مظهر ثقافي بالغ الأهمية ينضاف إلى المظهر السياسي لمسألة
التأصيل، جعلا مسرحية صنوع مرآة لذات مؤلفها ولزمنه في آن واحد.
ولعل هذه الأبعاد نفسها هي
التي جعلت وظيفة المسرح تستأثر باهتمام صنوع في هذه السيرة
الممسرحة، لاسيما وأنها ارتبطت بقضية جوهرية ذات بعد حضاري هي :
ما الجدوى من فن دخيل بالنسبة للمجتمع العربي خلال القرن التاسع
عشر؟.
فجمس - لسان حال صنوع في
المسرحية - يؤكد أن المهام الأساسية للمسرح هي " التمدن والتقدم
والتهذيب ". وإذا تأملنا هذه الكلمات ، سنلاحظ أنها تشكل جزءا من
قاموس النهضة، مما يعني أن صنوع كان يريد للمسرح أن ينخرط في
التحدي الأكبر والأشمل للأمة العربية آنئذ، أي تحدي الانتماء
للعصور الحديثة.
يستخلص من هذا أن الميتامسرح
التأصيلي شكل مظهرا أساسيا من مظاهر الخطاب النهضوي العربي،
وكونه كذلك يفسر تأرجح بنياته الموضوعاتية بين قضايا مسرحية
ذاتية وقضايا ثقافية شاملة.
ولكي يقوم المسرح بدوره في
إرساء دعائم النهضة، لابد له أن يقيم علاقة قوية مع الجمهور. وقد
سبقت الإشارة إلى أن عنصر الإضحاك عد من أهم جسور بناء هذه
العلاقة في نظر صنوع، ولولاه لما تمكنت تجربته من الإرساء
والتغلغل في وجدان الجمهور. لذا، فهو يتخذ من مسرحيته مناسبة
للإشادة بدور الجمهور العربي في ترسيخ تجربته، إلى حد أن
الممثلين المتمردين قبلوا اللعب في تلك الأمسية من أجل الناس
الذين يحبونهم ويدعمونهم :
" (جميع اللعيبين
واللعيبات ما عدا حبيب يقولوا :)
نلعب الليله على شان خاطر عيون
موسيو جمس ابونا، وافندينا والذوات والاهالي اللي بيحبونا. لان
لو لم يكن اشمال انظارهم علينا، وحضورهم كل ليله الينا، ما كانشي
التياترو العربي صح وانشهر،وخديوينا بنجاحه افتخر"
(14).
وإذا كان يعقوب صنوع قد خاض
في قضايا شمولية كبرى عبر سيرته الذاتية بفكر المثقف النهضوي
الذي يؤمن بدور الفن في التغيير الحضاري، فإنه عالج العديد من
القضايا بهاجس رجل المهنة الذي يعتقد أيضا أن المسرح لا يمكن أن
يؤدي رسالته مالم تتوفر له بنية تحتية قوية، وما لم يتم الاهتمام
بقطب رئيسي فيه هو الممثل. فمعاناة هذا الأخير جزء من معاناة
الكاتب ومؤسس المسرح، وتترجمها المسرحية على لسان أحد الممثلين :
" متري : إن كان
هو حيران احنا كمان تعبانين، ياما أشقى عيشة اللعيبين. دول يا
اخواتي غلبانين جيوبهم دائما فارغين، ومع دا كله محسودين. إذا
مشيو في الطريق، مساكين انفاسهم تضيق، من الهوان والتهزيق،
والتنكيت عليهم والتقريق. وإذا واحد منهم أراد أن يظهر محبته
والوداد، لمن يعزه ويريده الفؤاد، يقولوا له احنا في التياترو يا
واد "
(15).
إن متري هنا يعكس صورة الممثل
ورجل المسرح بشكل عام داخل مجتمع لم يتعود على هذه المهنة
الجديدة. لم يكن سهلا إقناع الرأي العام بجدوى ممارسة فنية
وتهذيبية اسمها " المسرح " مادامت الرؤية الأخلاقية مستحكمة فيه
بشكل يدفعه إلى ردود فعل تهكمية إزاء الممثلين في حياتهم
اليومية.
يستفاد من هذا، إذن، أن تأصيل
المسرح العربي واجه حربا مزدوجة ضد واجهتين: واجهة النخبة
الثقافية وامتداداتها السياسية، ثم واجهة الرأي العام : الأولى
كانت تدرك خطورة المسرح فتحاربه، والثانية لم تكن تفهم دوره
التنويري فجعلها منطلقها الأخلاقي الخاطئ تضطهد رجاله.
تأسيسا على ما سبق يمكن القول
إن الموضوعات الممسرحة في نص "موليير مصر وما يقاسيه " تكشف عن
ما يمكن أن نطلق عليه، " حرب التأصيل " في الخطاب الميتامسرحي
العربي، وهي حرب تختلف في أدواتها وأبعادها عما سميناه سلفا بـ"
صراع المسارح" في الدراما الغربية. فهي تتقاطع معها في الطابع
الصراعي العام الذي يحول النص إلى حلبة لتضارب المواقف والأفكار،
لكنها تختلف عنها من حيث التباس قضايا المسرح بإشكالات عامة تصب
في عمق المجتمع والسياسة والثقافة العربية بشكل عام. بعبارة أخرى
إن حرب تأصيل المسرح تتحول في مسرحية صنوع إلى حرب حضارية متصلة
بجيل بكامله، هو جيل النهضة العربية. فإذا كان " صراع المسارح "
في الغرب قد عد ترجمة لنوع من البذخ الثقافي مجسدا في ترسيخ قيم
السجال والحوار والاختلاف والحوار ودمقرطة الأفكار المسرحية، فإن
" حرب التأصيل " في المسرح العربي تترجم حاجة تاريخية ملحة لها
أبعادها السيكولوجية المتمثلة في تجاوز إحباط حضاري.
إن اهتمام صنوع بهذه القضايا
الكبرى لم يثنه عن تقديم سيرته بصيغة فنية تقوم على إجراء
ميتامسرحي مزدوج يتمثل في : استراتيجية التناص وتقنية المسرح
داخل المسرح، بحيث يلاحظ أن المسرحية تقوم على أساس الانصهار
وخلق الاندماج بين الإجراءين.
من هنا يمكن أن نميز في نص "
موليير مصر وما يقاسيه " بين نوعين من التناص: أحدهما ضمني،
والثاني صريح. فحضور المرجعية المولييرية كإطار نوعي وموضوعاتي
للنص بشكل يكشف عن استيحاء بنيات " مرتجلة فرساي "، يعد تناصا
ضمنيا. أما التناص الصريح، فيبدو جليا من خلال تضمين صنوع لبعض
مقاطع مسرحياته الكوميدية السابقة ومنها، على وجه الخصوص، مسرحية
" البورصة " و" أبو ريده وكعب الخير أو البربري " و" الصداقة "
ثم " الحشاش ". ولا نستغرب استحضار هذه النصوص داخل مسرحية تقوم
على قاعدة سيرذاتية، ويشكل استعراض الريبرتوار الذاتي فيها جزءا
من الاستراتيجية التي يقوم عليها النص لاسيما وأن هذا الأخير
يريد أن يكون شهادة على صاحبه وعلى زمنه في آن واحد. وحتى لا
يبقى هذا المظهر التناصي خارج بنية النص المسرحية، فإن صنوع حاول
أن يجعله جزءا من عملية التمسرح المضاعف، بحيث تتحول كل لحظة
تناصية إلى مستوى تمثيلي من الدرجة الثانية. فمتري،مثلا، يشير
إلى كوميديا " البورصة " فيبدأ، توا، في أداء مقطع منها، كما أن
اتفاق ماتيلده وحبيب على أداء كوميديا " البربري " يجعلهما
يشرعان في تشخيص دوريهما فيها حيث يقلد هو " أبو ريده البربري "
وتقلد هي " بنبه ". وهكذا تضعنا المسرحية إزاء ممارسات للمسرح
داخل المسرح بشكل يخدم التوجه السيرذاتي للنص.
إذا كانت بنية النص بهذه
الطريقة تزكي الوصف الذي وسمناه به، وهو السيرة الذاتية الممسرحة،
فإن ما أضفاه عليه صنوع من مظاهر الهزل والضحك يجعل هذه السيرة
تتخذ بعدا آخر هو البعد النقدي. إلا أن النقد هنا ليس موجها نحو
نوع من المسرح أو نحو شخص بعينه، بقدر ما هو موجه نحو واقع
بكامله يرزح تحت وطأة الإحباط الحضاري ويتخذ موقفا سلبيا إزاء
واجهة للنهضة والتمدن هي واجهة المسرح.
يستخلص من كل هذا أن مسرحية "
موليير مصر وما يقاسيه " قد رسمت الخطوط الكبرى لممارسة
ميتامسرحية تنطلق من هاجس التأصيل. وقد اتخذت هذه الممارسة
أبعادا مختلفة، منطلقها سيرذاتي تمت صياغته بأدوات مسرحية،
وامتداداتها حضارية شاملة جعلت هذه الممارسة تضطلع بوظائفها
النقدية والتاريخية إزاء واقع عربي منغلق على نفسه، نابذ لكل
مظاهر الانخراط في العصور الحديثة.
2.
الميتامسرح في إطار تاريخي - وثائقي: " فجر المسرح المصري "
لنعمان عاشور :
لقد شكل استقراء تجربة رواد
المسرح العربي، وقراءة منطلقاتها ومساراتها ومعوقاتها، مظهرا
أساسيا من مظاهر الميتامسرح التأصيلي العربي. فإلى جانب الدراسات
والأبحاث التي أنجزها مؤرخون ودارسون للمسرح العربي، عكس الإبداع
المسرحي نفسه، هذا الاهتمام بذاكرة هذا المسرح، وذلك من خلال
أعمال درامية تعيد استحضار رموز مرحلة الريادة، وتحاول مسرحة
تجربتهم بشكل يخضعها للتأمل والتحليل. ومن أبرز التوجهات التي
سار فيها الخطاب الميتامسرحي في هذا السياق، التوجه التاريخي
الوثائقي الذي كان من مجسديه المسرحي المصري نعمان عاشور من خلال
مسرحيته الوثائقية " فجر المسرح المصري ".
لابأس من الإشارة أولا إلى أن
المسرح الوثائقي Théâtre Documentaire هو نوع متميز من المسرح
عرف لدى الغربيين باعتباره شكلا يقوم على تركيب وثائق وصياغتها
في قالب درامي يجعل منها عملا مسرحيا متكاملا. لكن الخلفية التي
تحكم هذه الممارسة المسرحية تكون، في الغالب، خلفية سياسية. لذا،
نجد بافيس Pavis في معجمه المسرحي يعرفه قائلا : "هو مسرح لا
يستعمل في نصه سوى وثائق ومصادر أصلية منتقاة و"مركبة" وفق
الأطروحة السوسيو- سياسية للمسرحي "
(16).
وهذا النوع من المسرح يعد نقيضا للمسرح الذي يعتمد بشكل كلي على
المتخيل ولا يكون، بالضرورة، سياسيا.
إن نعمان عاشور يحول هذه
الأطروحة السوسيو- سياسية إلى أطروحة فنية وثقافية، لكنه يحافظ
على المكونين الأساسيين لهذا المسرح الوثائقي وهما: التوثيق
والتمسرح. فمن خلال تركيب وثائق تعود في مجملها إلى النصف الثاني
من القرن التاسع عشر من ضمنها خطب ومذكرات ومقالات صحفية ونصوص
تاريخية ومحاضرات وإعلانات وأغان، صاغ مسرحية تقوم بمسح شامل
لتجربة الرواد الأوائل في المسرح العربي بمن فيهم : مارون
النقاش، سليم النقاش، أبو خليل القباني، يعقوب صنوع، عبد الله
النديم وإسكندر فرح. أما الوقائع المسرحية التي يغطيها النص فهي
تقع ما بين سنتي (1847و1889) كما هو مثبت في الإرشادات المسرحية.
يفتح عنوان المسرحية نفسه
أفقا ميتامسرحيا بارزا أمام القارئ يتمثل في إلقاء الضوء على
المراحل الأولى للمسرح المصري، كما تدل على ذلك كلمة " فجر". لكن
ما يثير الانتباه هو علاقة هذا العنوان بمحتويات النص. فموضوع
المسرحية هو فجر المسرح العربي بشكل عام، وليس المسرح المصري
فقط، مما يدفعنا إلى صياغة بعض التأويلات الأولية حول الأطروحة
الثقافية المستحكمة في التوثيق المسرحي عند نعمان عاشور، ومنها
حضور نزعة وطنية ضيقة ترى أن فجر المسرح المصري هو فجر المسرح
العربي؛ وهو ما يضفي بعد الريادة على مصر في هذا الاتجاه. وقد
يستفاد من جهة أخرى من كل ذلك المأزق الذي وقع فيه بعض رموز
الجيل الثاني من المسرحيين العرب، والناتج عن تشرذم وعيهم الفكري
من جراء ما وطنه المستعمر من تشرذم جغرافي في الوطن العربي. وقد
لاحظنا امتدادات هذا المأزق في المد التنظيري للمسرح العربي سواء
في المشرق أو المغرب.
ليس في نيتنا الآن الدخول في
تفاصيل هذه الإشكالية. لذا، نكتفي بالإشارة إلى المفارقة التي
يثيرها عنوان المسرحية في علاقته بالنص، لأنها تعكس جانبا من
المأزق الذي وضع فيه تأصيل المسرح في التربة العربية بعض الرموز
من الجيل الثاني وعلى رأسهم نعمان عاشور، وهو مأزق التجاذب بين
الوطني والقومي.
إذا تجاوزنا هذه الإشارة إلى
النص نفسه، سنلاحظ أنه يقوم على المزاوجة بين الحكي والتشخيص،
وذلك لتقديم صورة شاملة عن ظروف نشأة المسرح العربي وما أحاط بها
من عوامل اجتماعية وسياسية وثقافية في علاقتها بالمسارات الذاتية
للرواد.
وعليه، يمكن التمييز في نص "
فجر المسرح المصري " بين نوعين من الموضوعات الممسرحة : قضايا
ذاتية متصلة بالمسار الشخصي لرواد المسرح العربي، وقضايا موضوعية
تصب في مجتمع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بمظاهره
السياسية والاجتماعية والثقافية. تقدم هذه الموضوعات في النص ضمن
رؤية شمولية تبرز علاقة الذاتي بالموضوعي، كما تؤكد على الارتباط
الشديد بينهما.
ففيما يتعلق بالقضايا الذاتية
الممسرحة، تقوم مسرحية " فجر المسرح المصري " بـ :
- جرد مباشر وغير
مباشر للريبرتوار المسرحي لمختلف الرواد، مشيرة إلى تجاربهم في
الاقتباس والتأليف، ومبرزة معرفتهم بالأنواع الدرامية، ومستعرضة
لظروف عرض مسرحياتهم التي انطلقت من فضاءات البيوت والمقاهي قبل
أن تبلغ مرحلة إنشاء المسارح.
- إبراز المنظور
الخاص بكل واحد منهم إزاء فن المسرح ووظيفته وطريقة التعامل مع
مختلف مكوناته.
- الكشف عن
استراتيجيات العمل المتبعة لترسيخ المسرح، ومنها : إطلاع رجال
الدولة على موضوع المسرحية قبل عرضها كما هو الشأن عند مارون
النقاش، وإقامة خطاب مواز داعم للإبداع المسرحي من خلال مقالات
صحفية تعريفية كما هو الأمر عند سليم النقاش، ومحاولة إيصال
المسرح إلى قاعدة عريضة من الجمهور عوض الاقتصار على النخبة كما
فعل يعقوب صنوع، ثم اللجوء إلى خطة تجعل المسرح يلتبس ويبطن
بالعمل الخيري مع التحايل على السلطة عبر خطابات إطرائية سطحية
يتم تضمينها في أعمال مسرحية تشحن بأبعاد فنية وتعليمية تسهل
عبورها إلى الجمهور، كما فعل عبد الله النديم.
- استعراض
الصعوبات المادية والمعنوية التي واجهت المسرحيين مع الكشف عن
مصير مسارحهم التي آلت إما إلى الإغلاق أو الإحراق.
- ربط تجربة
المسرحيين بمسار حياتهم الشخصية وبدور المرض والنفي أو الموت أو
المضايقات السلطوية في تخلي بعضهم عن المسرح، مع الإشارة إلى
تفطن البعض الآخر إلى دور البعد العائلي في ضمان استمرارية
التجربة، كما هو الش-أن عند مارون النقاش.
ومن خلال الوقوف على هذه
القضايا، كانت المسرحية تلقي الضوء على السياقات العامة التي
ارتهنت بها مسيرة المسرح العربي في بداياته، لذا نجدها تعرض
لموضوعات أساسية منها :
- علاقة المسرح
العربي بسؤال النهضة.
- علاقة المسرح
بالبنية الثقافية السائدة، ولاسيما موقف السلطة ورجال الدين منه.
- طبيعة الجمهور
العربي ومساهمته في تأصيل المسرح حيث نجد، مثلا، إسكندر فرح يوضح
لأبي خليل القباني ميول الجمهور المصري قائلا :
" إسكندر فرح :
الناس هنا تحب الطرب وتميل إلى الفكاهة .. روايتك والحمد لله
كلها مطعمة بالموسيقى ولا ينقصها المرح الخفيف "
(17).
- علاقة الخطاب
المسرحي بالخطاب الإصلاحي العربي خلال القرن التاسع عشر، وصلة
المسرحيين بدعاة الإصلاح ومنهم يعقوب صنوع الذي أفاد كثيرا من
جمال الدين الأفغاني:
" صنوع : لكننا
لابد أن نواصل السير مهما كانت العقبات .. إن الإمام الأفغاني
ورجال الفهم والوعي .. من رأيهم أن نمشي بتؤدة وأن نحرص على أن
نضمن مخطوطات رواياتنا ما يملأ النفوس حبا للحرية والكرامة"(18).
- موقف الرأي
العام المثقف من المسرح من خلال ما تعكسه الصحافة عن التجارب
المعروضة.
من خلال تسليط الضوء على هذه
التقاطعات بين بنية المسرح والبنى الثقافية والسياسية
والاجتماعية، يلاحظ أن نعمان عاشور يتجاوز البعد التوثيقي
المحايد ليعكس عبر تركيبة النص منظورا تاريخيا حول المسرح
العربي؛ وهو منظور ينسجم مع ما رسمه محمد مسكين من محاور تتصل
بهذا المنظور وهي: "المحورالأول: امتدادات الواقع وتجلياته في
العملية المسرحية. المحور الثاني إدراج التصورات النقدية
والتنظيرية ضمن الجهاز المفاهيمي العام السائد في فترة زمنية
معينة مع إبراز العلاقة المؤسسة بينهما. المحور الثالث: إبراز
الأبعاد الجمالية للعملية المسرحية من خلال توضيح ملامح تطور
هاته الأبعاد وملامح ثباتها
(19).
إن مسرحية " فجر المسرح
المصري "، إذن، هي تأريخ ممسرح لمرحلة حاسمة في تاريخ المسرح
العربي، وعملية تستهدف بالأساس فهم السياق العام الذي حكم هذه
المرحلة لأخذ العبرة وصياغة مشروع تأصيلي يستفيد من تجربة
الرواد.
وإذا كانت الموضوعات التي
قمنا بجردها انطلاقا من النص تكشف اعتماد عملية التأريخ على
استقراء الوثائق المتنوعة، فإن حضور هاجس التمسرح جعل نعمان
عاشور يستقطب داخل خطابه المسرحي مقومين جماليين أساسيين هما :
السرد والتشخيص.
فمما لاشك فيه أن الدراما
الوثائقية تفترض بطبيعتها تمفصلا نصيا قائما على أساس جمالية
الانفصال؛ وهو تمفصل تمليه عملية تركيب الوثائق المختلفة. لذا،
فإن نعمان عاشور حرص على ترجمة هذه الجمالية سرديا وتشخيصيا،
وذلك حتى تتحول عملية التأريخ إلى عملية مسرحية.
فمن زاوية السرد، لا يقدم
النص حكاية متخيلة؛ وإنما يعتمد الحكي على لسان راو ينظم الوقائع
حسب تسلسلها الزمني، ويحدد مكانها، ويتدخل لإعلان نهاية مرحلة
رائد مسرحي وبداية أخرى، كما يقدم أحيانا بعض المعطيات التي تفيد
في إضاءة الأحداث، وذلك على شكل تعليقات وأحكام. من ذلك، مثلا،
تعليقه على رأي لنقولا النقاش يؤكد فيه أن المسرح مرآة تعكس عيوب
الإنسان كي يتجنبها، حيث يقول :
" الراوي : فكأن
المسرح عندنا عرف من البداية على أنه أداة للإصلاح عن طريق
النقـد "
(20).
ويلاحظ أيضا أن تدخلاته في
المسرحية تكتسي طابع الاختزال والتكثيف،
حيث يغطي سرده وقائع كثيرة
ويحيط بمراحل مهمة تجعلنا إزاء تقنية التلخيص المعروفة في مجال
السرد الروائي.
إن اعتماد نص نعمان عاشور على
تقنية الراوي يتساوق مع الطابع الوثائقي الذي يميزه، ويساهم في
تقطيعه بشكل يحوله إلى أداة دراماتورجية أساسية. ولعل هذا ما
يظهر استحكام هاجس التمسرح حتى في استعمال تقنية سردية كهاته،
لاسيما وأنه يقوم بالفصل بين المقاطع التشخيصية التي تعتمد
الحوار المباشر بين الشخصيات. فتدخلات الراوي هاته يمكن التعامل
معها باعتبارها إرشادات مسرحية تعلن عن الفواصل الزمنية
والانتقالات الفضائية والحدثية، كما تشير إلى بعض علامات التمسرح
في النص كالضربات الثلاث والموسيقى والأصوات والأغاني والتصفيق،
وذلك في ارتباط بطبيعة الأحداث المشخصة.
ولإضفاء بعد جمالي على عملية
التأريخ الممسرح وتخليص قارئ المسرحية من الطبيعة التراكمية
للوثائق، يلجأ عاشور إلى المزاوجة بين السرد والتشخيص بشكل
تناوبي يضمن أحدهما في الآخر ويخلق بينهما تداخلا كبيرا بشكل
يشغل آلية التشويق ويدفع إلى انتظار المزيد من الوقائع المتصلة
بفجر المسرح العربي.
من ثم، يمكن القول إن مسرحية
" فجر المسرح المصري " أقامت خطابها الميتامسرحي على أساس وظيفة
مركزية هي الوظيفة التأويلية. وقد جسدت ذلك من خلال كتابة مسرحية
لتاريخ المسرح العربي. وإذا كانت هذه الكتابة التاريخية الممسرحة
قد اعتمدت قالبا نوعيا هو الدراما الوثائقية، وجمالية نصية تقوم
على المزاوجة بين السرد والتشخيص، فإن الإطار العام الذي يحكمها
هو هاجس التأصيل. فنعمان عاشور كان يبحث لمسرحه عن سند تاريخي
يقيم عليه دعائمه؛ فكان عليه أن يقرأ تجربة الرواد للكشف من
خلالها عن الكيفية التي يتعين بها ترسيخ مسرح في التربة العربية.
3.
الميتامسرح في إطار تاريخي - جمالي: "سهرة مع أبي خليل القباني "
لسعد الله ونوس :
يقدم سعد الله ونوس في مسرحية
" سهرة مع أبي خليل القباني " صيغة أخرى للميتامسرح التأصيلي
تتقاطع مع التجربتين السالفتين من حيث المادة الممسرحة ومن حيث
طبيعتها التاريخية، لكنها تختلف عنهما، جذريا، من زاوية الخلفية
الفكرية والجمالية المتحكمة فيها.
فإذا كان يعقوب صنوع قد قام
بقراءة تجربته الذاتية من منظور سيرذاتي أساسه استعراض مكونات
سيرته مسرحيا وحياتيا، وإذا كان نعمان عاشور قد حاول وضع تجربة
الرواد في سياقها التاريخي عبر صياغة وثائقية تركيبية؛ فإن
الهاجس التوثيقي التاريخي، بالنسبة لسعد الله ونوس، ليس سوى
ذريعة نحو أشياء أخرى أكثر قربا من روح المسرح.
فهدفه هو بلورة تجربة
ميتامسرحية تحكمها جمالية مسرحية واضحة المعالم، تحاول استعادة "
جوهر العرض المسرحي القديم " وتستفيد بالخصوص من إفرازات النظرية
المسرحية الغربية. ولعل هذا ما يجعلنا نفترض أن مسرحية " سهرة مع
أبي خليل القباني " تشيد لبنة جديدة في الخطاب التأصيلي العربي
قوامه الإفادة من الجمالية المسرحية الغربية لترسيخ المسرح في
المجتمع العربي.
إن سعد الله ونوس كان من أوائل
المسرحيين العرب الذين أخرجوا عملية التأصيل من المأزق التراثي
الذي وضعت فيه، وجعلوها تنفتح على الأفق العالمي. ولعل ما يدفعنا
إلى الحديث عن مأزق هو كون محاولة إحياء الأشكال المسرحية "
أسهمت، بقسط غير قليل وبشكل غير مباشر، في تعثر عملية تأصيل فن
المسرح وغرس تقاليده في مجتمعاتنا ومد جذوره في تربتها؛ ومن هذا
الجانب أيضا تفترض طبيعة الحياة وصراعاتها شكلا مسرحيا راقيا
قادرا على تجسيدها فنيا والتعبير بعمق عن عصرنا وقيمه. ويقف خلف
فشلها أيضا رغبة أصحابها في أن تكون منافسا وبديلا لشكل المسرح
الأوربي، وبتعبير آخر وضعها - وهي الأشكال البدائية - في مواجهة
فن المسرح في أرقى صوره، دون انتباه إلى أن المسألة ليست صراعا
بين شكلين مسرحيين عربي وأوربي ... وإنما تأخذ منحى آخر. فالمسرح
الأوربي لم يعد أوربيا من جهة، بل صار جزءا مكونا من الحضارة
الحديثة التي لا غنى لشعب من الشعوب عنها، وبذا اكتسى الصفة
العالمية، ومن جهة أخرى فهو قد نفى ديالكتيكيا الأشكال المسرحية
البدائية، بمعنى جعلها بعضا من مكوناته في مسيرة تطوره منذ العصر
اليوناني إلى العصر الحديث "
(21).
يمكن، إذن، التعامل مع مسرحية
ونوس باعتبارها صيغة متيامسرحية تصحيحية لمنظورات اختزلت التأصيل
في العودة إلى الجذور التراثية العربية، وجعلت من هذه العودة
سندا في عدائها للتجربة المسرحية الغربية. لهذا، فقد كان من بين
أبرز المسرحيين الذين تنبهوا إلى هذا المنزلق الذي يشرحه المخرج
العراقي جواد الأسدي قائلا : " لقد أغرق المسرحيون العرب قواميس
بحوثهم بالنزعة نحو التأصيل، ليس بوصفها أحد عناصر تكامل البنية
المسرحية العربية بل باعتباره حالة الانغلاق على النص التراثي
العربي فقط. قدم المسرح والمسرحيون، كتابا ومخرجين ونقادا، بحوثا
كثيرة في هذا الشأن الذي أدى في النهاية إلى فراغ مفزع ... إن
المسرح لا يقوم على الفرضية المسطحة وهو لا ينمو أو يتطور
بالاعتماد على التراث من كتابة ومناخ ومعنى، بل إن المسرح يتبلور
أولا مع بناء الدرامية ومع قيمة خلق الشخصيات خلقا مسرحيا أصيلا،
أقصد متينا ومتناسقا، أقصد جديدا سواء على صعيد اللغة أو تطريز
الحدث والأفعال وبما يمنحه هذا التطريز الدرامي لاستكمال صورة
العرض المسرحي الجديد، تراثا كان أم حديثا، أسطوريا أم ملحميا،
واقعيا أم سورياليا "
(22).
في سياق هذا التصور، يتعين
فهم الميتامسرح التأصيلي عند سعد الله ونوس الذي يجعل منه أداة
لكشف مفارقة التأصيل في المسرح العربي، تلك المفارقة التي تكمن
في محاولة ترسيخ المسرحيين العرب لفن دخيل مصدره غربي، داخل
التربة العربية، وذلك بتجاهل هذا المعطى التاريخي الأساسي،
وبالتالي بغض الطرف عن التراكم الغربي في هذا الإطار.
إن ونوس أدرك هذه المفارقة
وحاول التخلص من آثارها. وعليه، فقد وجد ضالته في النظرية
الملحمية البريشتية وكتب مسرحية " سهرة مع أبي خليل القباني "
مستوحيا مختلف مبادئ هذه النظرية. لقد أقام تجربته الميتامسرحية،
في هذا النص، على أساس خلفية جمالية تغريبية سمحت له ببلورة بعد
مرآوي، تأملي، ضد - إيهامي انعكس على بنيات النص حكائيا،
موضوعاتيا ونوعيا، كما امتدت آثاره إلى الرؤية العامة التي
يحملها.
يشكل عنوان مسرحية ونوس عتبة
أساسية لأفق ميتامسرحي واضح المعالم، يتأسس على بعد مزدوج :
جمالي وتاريخي في آن واحد. فكلمة " سهرة " تحيل على مجموعة
مقومات منها الفرجة والحوار والتسلية. و" أبو خليل القباني " رمز
يحيل على مرحلة حاسمة في تاريخ المسرح العربي. فالعنوان يجمع،
إذن، بين مكونيين أحدهما يشير إلى شكل المسرحية والآخر يحيل على
مضمونها.
وإذا كان العنوان يشير
باقتضاب إلى هذين المكونين اللذين ينهض عليهما الميتامسرح في نص
ونوس، فإن الخطاب المقدماتي يكشف، بوضوح، أننا بصدد تجربة تعي
منطق اللعبة المسرحية، وتحاول إقامتها على أساس مرجعية فنية
واضحة هي الملحمية البريشتية، كما تعي طبيعة المنظور التاريخي
الذي تحاول بلورته حول مرحلة حاسمة من تاريخ المسرح العربي.
صاغ سعد الله ونوس في مستهل
مسرحيته " بعض الملاحظات الضرورية " عبر فيها عن موقف متميز إزاء
تجربة أبي خليل القباني مفاده أن " القيمة الأساسية لتلك
التجربة... لا تكمن في ريادتها فقط، وإنما في طبيعة العرض
المسرحي كحدث اجتماعي فعال. فالجدة والارتجال والاتصال الحي
بالمتفرجين، كل ذلك كان يحول العرض إلى ظاهرة اجتماعية تخلق
مناخا جديدا في سهرات الناس وتولد لديهم إحساسا خاصا بجماعيتهم"
(23).
واضح من هذا الكلام، أن نقطة
القوة في تجربة القباني ليست هي الريادة، وإنما هي تحويل الحدث
المسرحي إلى حدث اجتماعي. لذا، فهدف ونوس من استعادة هذه التجربة
في مسرحيته إنما هو محاولة استعادة جوهر العرض المسرحي كما كان
عند القباني. من هنا، فقراءته لهذه التجربة جعلته يكتشف فيها
صيغة فطرية للجمالية البريشتية. يقول : " كان في هذه العروض التي
بدأت تخض سكون الحياة اليومية تغريب فطري ... ويمكن تمييز بعض
عناصر التغريب في الديكورات الفجة التي تتصور المشهد بدلا من أن
تبنيه طبقا للواقع، وفي التشخيص الذي يقوم على المبالغة محافظا
في كل لحظة على طبيعته ك " تشخيص" لا كتقمص أو تمثيل، إضافة إلى
الغناء والرقص اللذين يقطعان الأحداث، ويخففان التوتر بحيث تشيع
البهجة، وتظل المسافة قائمة بين المتفرج والأدوار التي تشخص
أمامه "
(24).
إن خاصية التغريب الفطري التي
هي جوهر العرض المسرحي القديم تشكل بيت القصيد بالنسبة لمسرحية
ونوس. ولتحقيق هذا الهدف نجده يبلور منظورا فنيا يقوم على
التمييز بين :
- النـص والعـرض.
- خطاب المؤلف
وخطاب المخرج.
- الواقعـي
والمتخيل.
فيما يخص العنصر الأول يؤكد
ونوس أن النص يقوم على دمج حكائي بين قصة "هارون الرشيد مع غانم
بن أيوب وقوت القلوب". وقصة أبي خليل القباني من أجل إقامة
مسرحه. وينبغي أن تتم ترجمة هذا الدمج في العرض عبر نوع من
الانفصال، مما يجعلنا نفهم أن هاجس التمسرح التغريبي حاضر بقوة
لدى سعد الله ونوس.
ويجد هذا الهاجس ما يسنده في وعي
هذا المبدع بضرورة التمييز بين خطاب المؤلف وخطاب المخرج. وعليه،
فهو يقترح - من خلال النص - بعض الملاحظات التي يود من المخرج
أخذها بعين الاعتبار أثناء إخراج مسرحيته، لأنه لا يريد أن يتخلى
عن الشيء الأساسي بالنسبة إليه وهو " بعث الطابع الاحتفالي
المبني على تفاعل عميق مع المتفرجين وليس الهزء بنقص إمكانيات
العرض وضعف وسائله التكنيكية وبعض المظاهر التي قد تبدو لنا الآن
سذاجة وقصورا "
(25).
فموقف ونوس يحاول التجرد من
مركبات التفوق التي تنظر إلى تجربة السلف بنوع من الاستخفاف،
ويتسلح بنظرة واقعية تستعيد الأهم في تلك التجربة وتكيفه مع روح
العصر. إلا أن ما يقترحه ونوس في النص " لا يعفي المخرج نفسه من
القيام ببحثه الخاص - ربما في المقاهي أو في المسارح الشعبية
الرخيصة أو في الاحتفالات التي تقام في الأحياء القديمة - عن
عناصر أخرى تتيح لنا أن نستعيد بشكل أغنى وأدق جوهر العرض القديم
"
(26).
إن ونوس يدشن هنا عهدا جديدا
في مسار المسرح العربي يركز فيه على العرض المسرحي، وعلى دور
المخرج واستقلالية خطابه عن خطاب المؤلف. والراجح أن تشبع هذا
المبدع بالجمالية البريشتية كان وراء هذا التحول في الخطاب
التأصيلي العربي؛ حرره من سطوة البعد الأدبي مثلما خلصه من سيطرة
البعد التراثي.
إذا كان الميتامسرح عند ونوس
يستند على الوعي بهذه الحدود بين النص والعرض، وبالتالي بين خطاب
المؤلف وخطاب المخرج، فإنه يقوم أيضا على فهم عميق للظاهرة
المسرحية يميز فيها بين الواقعي والمتخيل. لقد اقتضت العودة إلى
تجربة القباني الحرص على البعد التاريخي الوثائقي من أجل إعطاء
صورة موضوعية عن واقع مسرح ذلك الزمان، لكن روح المسرح استلزمت،
بالمقابل، ترميم بياض الوثائق وفجوات التاريخ، وذلك عن طريق
الالتجاء إلى المتخيل.
ومادامت قضية الجمهور العربي
وعلاقته بالفرجة مسألة جوهرية، فقد لجأ ونوس إلى متخيله قصد تصور
بعض ردود الفعل التي كان يبديها الجمهور آنذاك إزاء مسرح
القباني. يقول في هذا السياق :" ومن جهتي حاولت أن أنشئ أو أتصور
مجموعة من العلاقات بين متفرجي ذلك الزمان والأحداث التي تجري
على الخشبة، وضعت على ألسنتهم بعض التعليقات، وأدرجتهم في وقائع
ربما لم تكن وثائقية"(27).
تكمن أهمية المتخيل هنا في
الأفق التأويلي الذي تفتحه للميتامسرح في نص "سهرة مع أبي خليل
القباني "، لاسيما وأنها تسمح بتأمل تاريخ المسرح العربي من
زاوية التلقي المسرحي. فإذا كانت المسرحية تعيد كتابة تاريخ
الإنتاج المسرحي مجسدا في تجربة القباني، فهي تكتب، بموازاة ذلك،
تاريخا للتلقي من خلال إدخال المتفرج كعنصر فاعل في متخيل
المسرحية.
ينعكس هذا التداخل بين الواقع
والمتخيل على بنية المسرحية بشكل واضح. فهي تخلق تداخلا بين قصة
قوت القلوب وغانم بن أيوب، وحكاية القباني منذ بداية تجربته حتى
نهايتها في دمشق. الواقعي تجسده المسرحية الوثائقية التاريخية
التي ترصد مسار القباني، والمتخيل يتم تشخيصه من خلال " رواية
غرامية أدبية تلحينية تشخيصية "، كما يعبر عن ذلك المنادي في
المسرحية، هي رواية قوت القلوب مع غانم.
يستند بناء المسرحية على
تركيب حكائي يستوحي الدراماتورجيا البريشتية. يتجلى ذلك واضحا من
خلال الجمع بين التوازي والتناوب في سرد أحداث المسرحيتين. ويلجأ
النص إلى تقنية الراوي - وهو الدور الذي يؤديه المنادي - قصد خلق
القطائع الحكائية، وتحويل مسار الحكي بالتناوب من هذه القصة إلى
تلك بشكل يدفع الملل والرتابة عن القارئ والمتفرج، ويساعده على
الحفاظ على المسافة اللازمة بينه وبين الأحداث الممسرحة.
إن التمسرح الملحمي يشكل
خلفية جمالية أساسية للحكي في مسرحية ونوس، تتظافر عدة مكونات من
أجل تجسيده سواء من خلال الحوار أو الإرشادات المسرحية. فمنذ
البدء، نقف على إرشاد مسرحي تسري فيه روح المسرح يصف سينوغرافيا
قائمة على أساس الصورة تجسد فضاء الأحداث اعتمادا على ما يسمى
بلوحة الخلفية Toile de fond ، كما أننا نجد نزوعا نحو تكسير
الإيهام ووضع المتفرج في سياق اللعبة المسرحية عبر تفجير فضاء
اللعب وتجسير الهوة بين الصالة والخشبة.
إن هذه المعطيات التغريبية
الأولية ترسم إطارا للممارسة الميتامسرحية، لاسيما من خلال إظهار
البقعة التي يقوم فيها مسرح أبي خليل القباني. ومادامت الأنساق
غير اللغوية للعرض لا تسمح وحدها بوضع المتلقي في سياق ميتامسرحي،
فإن المسرحية تلجأ إلى مخاطبة الجمهور مباشرة لشرح المواصفات
الجمالية للفرجة الميتامسرحية :
" المنادي : يا
سادة يا كرام
من يدخل مسرحنا يغنم
ومن يتردد يندم
سهرتنا اليوم فيها عبرة .. فيها
متعة
فيها غناء ورقص وتشخيص
يا سادة يا كرام
تفضلوا ولا تترددوا
السهرة مسلية ومفيدة
فيها حكاية خيالية، وفيها حكاية
واقعية
سترون هرون الرشيد مع الأمير
غانم بن أيوب وقوت القلوب
قصة غرامية أدبية تلحينية
تشخيصية
ألفها الشيخ أحمد أبو خليل
القباني
من التاريخ القديم استلهمها
حبكها ولحنها ومع فرقته شخصها
سترون أيضا قصة القباني مع الشيخ
سعيد الغبرا
الشخصيات حقيقية والوقائع ثابتة
حكاية واقعية
جمعنا خيوطها من الوثائق
والأخبار
وسنعيد تمثيلها أمامكم هذه
الليلة
يا سادة يا كرام
تفضلوا ولا تترددوا
سنسترد معكم تراثا ضيعه الأغبياء
والجهلة
وسنحيي ذكرى فنان قاسى وضحى
ذكرى الرائد المسرحي أبي خليل
القباني
من يدخل مسرحنا يغنم
ومن يتردد يندم
سهرة فيها عبرة .. فيها متعة
فيها غناء ورقص وتشخيص "
(28).
إن ما أعلن عنه ونوس في خطابه
المقدماتي يترجمه عبر هذا الخطاب المباشر للجمهور. فالمسرحية
تقوم، موضوعاتيا، على مسرحة حكايتين إحداهما واقعية والثانية
متخيلة، وتجسد هذه المسرحة عبر الحكي والتشخيص والغناء والرقص،
وذلك من أجل تحقيق هدف مزدوج هو : المتعة والتعليم. إن المنادي -
بتحديده لكل هذه العناصر - يرسم إطارا جماليا ملحميا للممارسة
الميتامسرحية في نص سعد الله ونوس.
لقد رصدت المسرحية معطيات
سيرذاتية تتعلق بالقباني وبمسيرته المسرحية منذ نشأتها في بيته
إلى حين إنشاء مسرح كان مصيره الإغلاق والإحراق. وقد تخللت هذا
الرصد معطيات حول مجتمع القباني سياسيا واجتماعيا ودينيا. لهذا،
فمسرحية ونوس تتقاطع من هذه الزاوية مع مسرحية نعمان عاشور، لكن
الفرق بينهما واضح في طريقة تجسيد الممارسة الميتامسرحية.
فالهاجس الجمالي أكثر حضورا بالنسبة لسعد الله ونوس مما يجعله
يتحرر من سلطة الوثائقية لتشغيل متخيله، كما يتخلص أيضا من جدية
التأريخ التسجيلي لإضفاء طابع السخرية والضحك على النص واستعمال
المضاعفة المسرحية.
ففي سياق معالجته لقضية
المشاركة النسائية في مسرح القباني، لجأ ونوس إلى السخرية. وبقدر
ما أضفى استعمالها جوا من الضحك على الحوار، بقدر ما عكس موقفا
نقديا من مجتمع رجولي مغلق لا يسمح للمرأة بممارسة المسرح.
وفي سياق تجسيده لردود
الأفعال والنقاشات والمواجهات الدائرة في المجتمع حول مسرح
القباني، لجأ ونوس إلى تقنية المسرح داخل المسرح. يتجلى ذلك في
بلورة صراع فكري بين شخصيات هي : عبد الرحيم، أبو أحمد، أنور
والشيخ سعيد. وقد حاول ونوس في هذا المشهد التمثيلي من الدرجة
الثانية الذي يتجسد فيه هذا الصراع أن يبقى وفيا لما سماه في
مقدمته ب" الأسلوب الموضوعي". لذا، نشعر بتأملنا لهذا المشهد
المضاعف كما لو أنها أمام مشهد خام؛ بمعنى أن ونوس لم يتدخل فيه.
وتجد هذه الصيغة ما يبررها في استناد الممارسة الميتامسرحية على
الحقيقة التاريخية وذلك بقصد تعرية بعض معوقات الفعل المسرحي في
المجتمع العربي.
لقد أفرزت هذه الهواجس
الجمالية إطارا نوعيا متميزا للمسرحية ينسجم مع استراتيجية
التأصيل المتحكمة فيها. فالإفادة من الجمالية البريشتية خلصت
ونوس من استحكام نظرية الأنواع الكلاسيكية، كما أعطته إطارا مرنا
لخلق تقاطع بين الواقعي والتخييلي، بين التاريخي والعاطفي، بين
الأدبي والفرجوي، بشكل جعلنا أمام " نص مفتوح" . وبالتالي، فإن
المتيامسرح التأصيلي لا تستوعبه الكوميديا ولا التراجيديا ولا
التراجيكوميديا، مادام ملتصقا بسياق عربي مفتوح على كل
الاحتمالات والأبعاد.
وعليه، فإن سعد الله ونوس
حاول تكييف الميتامسرح التأصيلي مع طبيعة انشغالاته ووعيه الفني
والفكري، مركزا بالأساس على وظيفتين ميتامسرحيتين أساسيتين هما :
الوظيفة التأويلية والوظيفة الإيديولوجية.
فالمسرحية - كما سبق الذكر -
هي تأريخ ممسرح للإنتاج والتلقي المسرحيين في زمن أبي خليل
القباني، ويقوم هذا التأريخ على استراتيجية تحيينية وليس على
نزعة حنينية إزاء ذاكرة المسرحية، وتتبدى هذه الاستراتيجية في
كون ونوس - مسلحا بوعي تاريخي - يعتبر المسرح مرآة تعكس واقع
العالم العربي سياسيا واجتماعيا ودينيا. وعليه، فإن تأصيل فن
دخيل فيه لا يمكن أن يتم بمعزل عن فهم هذه التناقضات.
إن استحضار أبي خليل القباني
هو استحضار لرمز، واستعادة قصة قوت القلوب هي استعادة لنمط من
المسرح. من ثم، فنص سعد الله ونوس هو مرآة لذات وممارسة مسرحيتين
تحكمت فيهما شروط محددة، مثلما هو مرآة للمؤلف وتجربته في آن
واحد.
ومما يزيد في تعميق هذه
العلاقة كون مسرحية " سهرة مع أبي خليل القباني " كتبت في مرحلة
كان ونوس خلالها يحاول إقامة دعائم ما سماه ب" مسرح التسييس ".
وواضح أن هذا المبدع قد وجد معادله في أبي خليل القباني، مادامت
الشروط الاجتماعية والسياسية والثقافية التي أحاطت بمسرحهما
متشابهة، وهي شروط تفرض أن يتحول الفعل المسرحي إلى حدث اجتماعي.
ناهيك عن كون ونوس وجد في مسرح القباني أصداء الجمالية البريشتية
التي تشبع بها، ولاسيما في الجانب المتعلق بالعلاقة مع الجمهور
وطريقة بنينة العمل الدرامي.
من هنا، يمكن القول إن صيغة "
المؤلف المشارك "
(29)
التي انطلق منها أحد الدارسين في قراءة أعمال ونوس تجد صداها هنا
بشكل واضح، وإن كانت قد اندمغت بخصوصية المرحلة وفرضت، بالتالي،
توجها معينا في صياغة مفهوم للمسرح يليق بطبيعتها. ويلاحظ في هذا
الإطار " أن الذات المبدعة تصنع المجتمع على عينها : السلطة
والشعب، التمرد والثورة، التعليم والتسييس، الشرح والتفسير،
وتقدم المسرح بوصفه مدرسة الشعب. وهو المفهوم الذي لم يفارق
البرجوازية العربية الحديثة منذ صعودها فيما حول منتصف القرن
الماضي، وهو تاريخ ظهورالمسرح بشكله الوافد كما رآه رواده مارون
النقاش وأبو خليل القباني ويعقوب صنوع. ولعل هذا النموذج للمسرح
هو ما تتمثله الذات المبدعة الثانية لسعد الله ونوس، فهي مولعة
به. وقد كان المسرح عند هؤلاء الرواد فعلا اجتماعيا يشارك فيه
المتفرج بالرأي، بل يتدخل لتغيير الأحداث، على نحو ما تشير إليه
الذات المبدعة في كتابتها نص " سهرة مع أبي خليل القباني " "
(30).
واضح، إذن، أن ونوس انطلق من
استيعاب جيد لتجربة الرواد تمثل في فهم بعدها الجمالي أولا، ثم
في ربط هذه الجمالية بسياق مجتمع يخطو خطواته الأولى نحو
الحداثة. لهذا، حول مسرحيته إلى مرآة لذاته عكس فيه منظوره
للمسرح الذي يرى أن هذا الفن مدرسة للشعب، وحدد لهذا المنظور
قواعده الأساسية المتمثلة في الجمالية التغريبية، كما بلور
الرؤية الإيديولوجية التي ينبغي أن يحملها هذا المنظور والمتمثلة
في كون تسييس المسرح قاعدة أساسية لتسييس المجتمع.
إن مسرحية ونوس بهذه
المواصفات قد حققت نقلة نوعية في الخطاب الميتامسرحي العربي، كما
فتحت له آفاقا جديدة لصياغة نزوعه التأصيلي في الاتجاه الذي لا
يتناقض مع تمثل النقلات الحداثية في المسرح العالمي.
4. تـركيـــب
:
يستخلص من هذا التحليل لثلاثة
نماذج للميتامسرح التأصيلي يمثل أصحابها أجيالا مختلفة في مسار
المسرح العربي، أن هذه الصيغة الميتامسرحية وليدة حتمية تاريخية
وثقافية ملحة، وليست نابعة من رغبة محاكية للتجربة الغربية.
إن حاجة المجتمع العربي إلى
سبل كفيلة لترسيخ فن طارئ عليه، جعلت المسرحيين العرب يقومون
بدورهم في خلق شروط فنية لتكييف المسرح مع طبيعة الثقافة
السائدة. وقد اختلفت وسائل التكييف، كما رأينا ذلك في ما عكسه
صنوع حول تجربته الذاتية، وفي ما قدمه لنا كل من عاشور وونوس من
قراءة تاريخية، بأدوات وثائقية حينا وجمالية حينا آخر، في تجربة
رواد المسرح العربي.
إن ما عبر عنه هؤلاء جعل من
النص المسرحي العربي مرآة لذاته ولواقعه في آن واحد، وذلك بشكل
أفرز نزعة تأملية ذاتية داخل هذا النص ارتهنت، في الغالب، وبحكم
إكراهات السياق الحضاري، بهاجس ثقافي كبير هو هاجس التأصيل. لذا،
يبدو واضحا أن كل الممارسات الميتامسرحية التي وقفنا عليها يتحكم
فيها هذا الهاجس. وهو الذي كان وراء مفارقات عديدة في الخطاب
المسرحي العربي أبرزها مفارقة الاعتقاد الراسخ بأن المسرح فن
دخيل وارد من الثقافة الغربية، بموازاة النزوع نحو تأصيله بتجاهل
هذه الحقيقة أو التحايل عليها.
يستفاد من هذا أن الميتامسرح
في النص الدرامي العربي مظهر ثقافي يتصل بالقضايا الكبرى للمسرح
العربي أكثر منه مظهر جمالي. وإن كانت النماذج التي حللناها تشي
بمظاهر فنية خاصة، تتصادى، من جهة، مع بعض النقلات الميتامسرحية
الغربية، لكنها تحاول، من جهة أخرى، أن تفرز صيغا أكثر ملاءمة
لهاجسها التأصيلي.
فمن حيث البنية النوعية
للنصوص، تراوحت بين صيغة المرتجلة التي تحولت إلى سيرة ذاتية
مسرحية مع يعقوب صنوع، وصيغة الدراما الوثائقية التي تم إفراغها
من محتواها السياسي وتحويلها إلى أطروحة ثقافية مع نعمان عاشور،
ثم صيغة "النص المفتوح " الذي يمزج بين الواقعي والمتخيل ولا
يعير اهتماما لشعرية النوع مع سعد الله ونوس.
فإذا كانت شعرية الميتامسرح
في الغرب قد ظلت وفية لقضية النوع الدرامي، فإن ارتهان
الميتامسرح بقضية التأصيل في المسرح العربي قد أملى صيغا أخرى
تتقاطع أحيانا مع التجربة الغربية دون الإعلان عن ذلك صراحة (صنوع
والمرتجلة المولييرية)، لكنها تحاول، غالبا، خلق مبدأ الملاءمة
مع قضيتها الأساسية.
ومن حيث البنية النصية،
لاحظنا تعاملا جزئيا، في الغالب، مع بعض الممارسات الميتامسرحية
الغربية كالتناص، والمسرح داخل المسرح والمزج بين التوثيق
والتمسرح؛ وذلك باعتبارها تقنيات مسرحية واعية أحيانا ولا واعية
أحيانا أخرى، لم يتم الارتقاء بها نحو بلوة شعريات قائمة بذاتها
كما رأينا، مثلا، بالنسبة للمسرح الغربي. وحتى محاولة سعد الله
ونوس تبقى، في نهاية المطاف، محاولة لاختبار وتطبيق شعرية ملحمية
مهيأة سلفا، على سياق مسرحي عربي.
إن هذا التجاذب - المجسد نصيا
ونوعيا - يعكس بوضوح ذلك المأزق الذي ظل يعيشه الميتامسرح
التأصيلي العربي، بين أن يكون أداة لترسيخ المسرح داخل الثقافة
العربية، وأن يتحول إلى وسيلة لجعل المسرح العربي ينخرط، منذ
مراحله الأولى، في سياق الحداثة المسرحية. ولعل هذا التجاذب هو
الذي يفسر إلى حد ما، لماذا كتب صنوع مرتجلة ولم يسمها كذلك،
ولماذا خلص عاشور مسرحيته الوثائقية من الأطروحة السياسية، كما
هو الشأن في الغرب، وجعل منها مسرحية تحمل موقفا ثقافيا أسقطه في
مطب إشكالية أخرى هي تنازع الوطني والقومي في المسرح العربي،
ولماذا كتب ونوس مسرحية تغريبية بكل المواصفات، واضطر أن يبحث
لها عن امتدادات في التغريب الفطري الذي ميز مسرح أبي خليل
القباني.
هوامــش:
(5)
محمد يوسف نجم ـ مقدمة (في) يعقوب صنوع (أبو نضارة) ـ سلسلة
المسرح العربي : دراسات ونصوص ـ دار الثقافة بيروت 1963 ـ ص.(ز).
(6)
Jean Pierre - Ryngeart - Introduction la l’Analyse du Théâtre
- p.35.
(7)
يعقوب صنوع ـ موليير مصر وما يقاسيه (في) يعقوب صنوع (أبو نضارة)
ـ ص.200.
(8)
نفســــــــــــه ـ ص.209.
(9)
نفســــــه ـ ص.193.
(10)
محمد يوسف نجم ـ مقدمة (في) يعقوب صنوع (أبو نضارة) ـ ص هـ/و .
(11)
يعقوب صنوع ـ موليير مصر وما يقاسيه ـ ص.211.
(12)
نفســـه ـ ص.112.
(13)
محمد يوسف نجم ـ مقدمة (في) يعقوب صنوع (أبو نضارة) ص.هـ.
(14)
يعقوب صنوع ـ موليير مصر وما يقاسيه ـ ص.222.
(15)
نفســـــه ـ ص221.
(16)
Patrice Pavis - Dictionnaire du Théâtre - p.408.
(17)
نعمان عاشور ـ فجر المسرح المصري (مسرحية) (في) من الدراما
الوثائقية ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986 ص.113.
(18)
نفســــه ـ ص.104.
(19)
محمد مسكين ـ المسرح العربي الحديث بين ضياع الهوية وغياب الرؤية
التاريخية ـ ص.8.
(20)
نعمان عاشور ـ فجر المسرح المصري ـ ص.93.
(21)
حيدر سلوم ـ حول تأصيل التقاليد المسرحية ـ مجلة الفكر العربي ـ
العدد 69 ـ السنة 13 ـ يوليو/ سبتمبر 1992 ـ ص.178.
(22)
جواد الأسدي ـ تكهنات في تأصيل المسرح ـ مجلة الفكر العربي ـ
العدد 69 ـ ص.37/38.
(23)
سعد الله ونوس ـ بعض الملاحظات الضرورية (في) سهرة مع أبي خليل
القباني ـ دار الآداب بيروت 1977 ـ ص.5/6.
(24)
نفســــــــه ـ ص.6.
(25)
نفســــه ـ ص.7.
(26)
نفســــه ـ ص.6/7.
(27)
نفســـــه ـ ص.6.
(28)
سعد الله ونوس ـ سهرة مع أبي خليل القباني ـ ص.12/13.
(29)
حازم شحاتة ـ المؤلف المشارك : مدخل إلى قراءة نصوص سعد الله
ونوس ـ فصول ـ المجلد 16 ـ العدد 1 ـ صيف 1997.
(30)
نفســــــــــــه ـ 363/364. |