النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد
عبد المجيد الهواس: الليالي البيضاء (قصص)

صراصير وأكفان

 

1 – فاطمة:

فتحت فاطمة شباك نافذة غرفتها. ولم تستطع مع ذلك الإمساك بخيط من خيوط الشمس المدلاة. إذ كانت الخيوط تسقط ذابلة بلون رمادي يتسرب عبر القهوة الأسمنتيه ويعتمر داخل الغرفة، لأن نافذة فاطمة لم تكن تطل على شارع أو تتشكل عبرها بادية. كانت كفوهة مدفأة تنفتخ على متر مربع من الأسمنت يتسلق طولا كالمدخنة، احتلته صراصير تصعد فيه وتنزل دون أن تتعب. أطلت فاطمة تتحدى الجدارات إلى ما فوق، فتلاحقت على نظرها غيوم صغيرة تعبر كشريط صور من الفتحة الفوقية التي رسمت للسماء شكل مربع، بينما سقط في القعر لون داكن عصي، تحول معه هذا الممر الإسمنتي إلى نفق طويل بدت فيه النوافذ كثقوب ناي. كان المربع الأزرق الفوقي عالم فاطمة الملون، علمت وهي الصغيرة أنه السماء وعلمت فيما بعد أن له امتدادات شاسعة في الخارج وأنه قبة الأرض. لكنها احتفظت بشاعرية المربع الصغير الذي وحده كان قادرا على تلوين النفق الطويل المبثوث في صدر بناية الاسمنت. علقت فاطمة رسوم "حنظلة" على جدران غرفتها، فقد دأبت منذ زمن على اقتطاعها من جرائد والدها، وعلقت أيضا رسوم "الصبان" وراحت تفتح لها كل صباح كوة النافذة، فالهواء ضروري لكل هذه المخلوقات الصغيرة الذابلة على ورق الجرائد، ثم راحت تكتب عنها: «غرفتي شكل مكعب. لها باب ونافذة. كل جدار شاشة. فيه رسوم على ورق جرائد، وشاشة أخرى نافذة حين تنفتح على الجدار المقابل تتحرك فيها آلاف الصراصير.. ثم حين أطل منها برأسي إلى أعلى، تظهر شاشة السماء مربعة وبعيدة». في الصباح الباكر، تخرج فاطمة لتكتشف كيف يغرس ضوء الشمس ألوانا في رماد المدينة، تحمل خبزا وبيضا وحليبا وجرائد، وتجلس على المائدة قبالة والدها الذي يدفن صمته في تباريح مذياع، ويدفن دمه في عروق تلبدت بمآسي الوطن العريض. تتحلى الصمت أو تسأل والدها عن هذه الصراصير التي سترث الأرض بعد الإنسان. يقطب حاجبيه ويعدها بدمي كثيرة إن نسيت موضوع الصراصير. ويوم آخر تقول له أن دمي بغداد احترقت وأن الصراصير وحدها استطاعت أن تقاوم رماد هيروشيما فيشيح بوجهه أو يقاوم السؤال، ثم في الليل يحمل لها قصصا ملونة ويصب مبيدات من فوهة النافذة، لكنها تطلع من جديد، صراصير أخرى تصعد وتنزل دون أن تتعب. وتخبره بأن غرفتها ليست صحية لأنها لم تكن أبدا لتطل على حديقة أو بستان، وأن لصديقاتها غرفا سحرية، وهو لم يغط أبدا جدران غرفتها بورق ملون، فينتفض ويقر أنه نسي درس علم النفس ومتطلبات الطفل السيكولوجية نظرا لانشغاله الصامت بأرق النكبات التي تلاحقت على العرب منذ انطفاء نشوة الفتوحات الكبرى: علقت فاطمة رسومات جديدة على الجدران، وظلت تخرج في الصباح الباكر تكتشف ارتسام الألوان على رماد المدينة، تكبر، تطرح السؤال، تطل على شاشة السماء وتنظر في صمت إلى عيون الصراصير. تفتح نافذة للهواء تقول، كم ضروري هو الهواء لكل هذه المخلوقات الصغيرة الذابلة على ورق الجرائد. حلت نهارات ورحلت أخرى. أغرق الغيم السماء، وفي الصباح خرجت فاطمة ولم يرسم الضوء على المدينة ألوانه، دخلت البيت ولم تكن في يدها جرائد، سمعت مذياع أبيها ينز أسخف الأخبار. أغلقت باب غرفتها، وعلى ورق أبيض وضعت مربعا لونته بالأزرق ثم أحاطت اللون الأزرق بمساحة رمادية، تأملت الرسم ثم لاحظت أن مساحة الأزرق شاسعة، لونت جنباتها بالرمادي وأضافت تقلص تلك المساحة الزرقاء حتى أضحى المربع نقطة صغيرة تختنق باللون الرمادي، تركت الألوان على طاولة غرفتها وارتخت في السرير. في المساء كانت الصراصير تسبخ على الرسم تتسلق الجدران تملأ الأرض، تصعد، تنزل، تحتل السرير، تنسج لبدة سوداء كي تكفن جسد فاطمة.

2 – سلمـى

فتحت سلمى شباك نافذة غرفتها، ولم تستطع مع ذلك الإمساك بخيط من خيوط المدلاة. إذ كانت الخيوط تسقط ذابلة بلون رمادي يتسرب عبر الفوهة الأسمنتية ويعتمر داخل الغرفة، لأن نافذة سلمى لم تكن تطل على شارع أو تتشكل عبرها بادية. كان كفوهة مدفأة تنفتح على متر مربع من الأسمنت يتسلق طوالا كالمدخنة.....................................................................................................................

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

  Copyright © 2001 unecma. net