النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد
عبد المجيد الهواس: الليالي البيضاء (قصص)

الأطفال يحبون قوس قزح

 

 

لن أتوجع، سأترك هذا الألم صامتا، لن أدعه يصعد إلى العينين كي لا تلمحوه، ولن يصعد إلى الحلق، سيظل صامتا يمتص صراخه ولهيبه كي ترعبكم هذه المقاومة.

صباحا تكبر الانتفاخات في الجلد وتتسع الأورام، أخرج الآهة حلما مثلجا.. تنتعش الجروح في الجسد نم فعل الصقيع الجامد. انظر إلى جلدي الذي تتضخم مسامه. يتسع فيها الارتعاش وتكبر الأفواه. تخرج ضحكاتها. تسمعون تلك السخرية اللاذعة من مسام الجلد وتطلبون جلده من جديد. في الظهيرة يترك الجلد ألمه صامتا، لا يتكلم كي لا يفرز رعبه. فيطلع من أعينكم رعب قاتل. تموتون به كسم العقارب.

مساء تطالبون من جديد بدم هذا الجسد الذي أدخلكم فسيح جهنمه فيقهركم كابوسا في المنام إذ يظل يحلم بالوطن.

في الليل رأيتك هادئة، تتكئين على جدار الغربة الوردي، فيرستم ظلك عليه كالبنفسج. كان المغني يقول شعرا جميلا عن الحب، فيرتسم شفافا في عينيك المغمضتين.. نشوانة كانت تلك الاهتزازات الخفيفة في جسدك. وكنت أجلس على كرسي الخشب الأبنوس. أنظر إلى ظلك الرائع وابتسم للمغني.

في الليل كنت هادئة ترقصين، ثم وتر الجسد أحلامه، فبدا الرقص قويا، وكان المغني يقول شعرا طريا في الوطن، وكنت أجلس على كرسي الخشب الأبنوس. انظر إلى ظلك يقفز على الجدران ويرسم فيها الحدائق.

أيقظني صوت المطر. كان الفراش الدافئ للحلم رطبا حانيا ومعطرا.. اهتزت الجدران المتعفنة بالرطوبة من حولي ورأيت في عمقها حباب المطر تنزل بتدفق عذب على التراب الذي تصعد للتو رائحته، كان السجانون يقفون على باب الحديد يدفنون رؤوسهم في المعاطف الزرقاء ويلعنون الماء.. كنت أراهم هكذا يحملقون في الأرض المبتلة بغضب، ويضربون بأحذيتهم الطين كما لو يضربوننا.. رميت اللحاف الرث عني، واستطعت أن أنتصب على قدمي.. لأول مرة منذ أن ركبت سيارتهم وأنا أتساقط بين أحذيتهم اللعينة كما لو كان جسدي قنينة بلاستيك يتقاذفها المارون على رصيفهم بغضب. سقطت القنينة أخيرا في بالوعة وتخلصت من الجزمات، ووقفت أخيرا لأرمم ما تبقى.

المطر الجميل يلون الشرفة. رأيتك تفتحين نافذتها وتمدين أصابعك إلى حبل الغسيل، تجمعين عنه القمصان البيضاء وتتلمسين أسفل البنطال الأزرق.. ظهرت في العمق عربات الترام تنسحب مع الأفق ويرتد صداها الرتيب إلى الغرفة، بحيث أنك كنت لا تزالين تمسكين بأسفل البنطال وتنظرين إلي محاولة رفع صوتك كي يقاوم صدى القار.. لم أسمع كلماتك، لكني فهمت من اهتزاز تلك الشفتين أن البنطال الأزرق لا زال رطبا وأنه اهترأ.. كنت تلمحين في عيني أنني لم أعد أرغب فيه.. صرت أحن إلى ألوان أكثر دفئا. نظرت إلى أسفل البناية فسمعت صوتك هذه المرة: «إنهم لا زالوا في الأسفل يتربصون ويلعنون المطر.» قلت لك: «هكذا إذن يتعذبون..!» وقفت أنظر في أشياء الغرفة الجميلة، وتلمست تلك الأوراق البيضاء التي رتبتها بعناية فوق الطاولة. وقلم الحبر ذلك.. معتق حبره الأسود. قلت لي: «ستكتب؟»، وأضفت بأسف: «لقد عبثوا بكل أوراقك. فتشوها جيدا وبصقوا.. أرغموني أن أقرأ لهم، ولم أقرأ لهم.. قرأت بنشوة أتلمس صوتك. وشتموا ولم يفهموا وبصقوا ومزقوها..»

كان الحديد يئن تحت قبضاتهم، يدفعون المزاليج الضخمة بعنف ويكتمونها بالأقفال. يبصق الحديد في قبضاتهم صدأه.. لم يكن صوته رهيبا .. صرخته تلك هي التي كانت مفزعة.. كل لحظة يبصق فيها صدأ يحملوه في أكفهم.. هذا الحديد لم يكن مرعبا! مرعوبا كان.. السجانون كانوا يسيرون في الممرات الضيقة ويبكون. أحذيتهم موشومة. أكفهم تسقط مثقلة بالصدأ.. المفاتيح مدلاة من الأحزمة.. يسيرون في الممرات الضيقة صباحا، يمشون فيها مساء.. ينظرون من تفحات الزنازين بتلك العيون الضيقة المتكلسة، ويظل الصدأ يأكل أكفهم..!

- ماذا تكتب؟

- قصصا.

- لمن؟

- للأطفال.

- كيف؟

- بالألوان.

- لماذا؟

- لأنهم يحبون قوس قزح.

أتسلق ذراعك ونحن ننزل السلم.. وأتذكر المرة الأولى التي خرجنا فيها إلى الشاطئ. كانت تيراسة المطعم تتقدم نحو البحر محمية بزجاج شفاف… الموائد البيضاء موشحة بشموعها الدافئة، وبلاطة الأرض مصقولة كمرآة.

جلسنا والبحر الهادئ عرس. أسمع صوتك: «هل سنجد عازفة الكمان هناك؟» وفتحت المظلة واختبأنا، يسير خلفنا الإثنان، يسيران بحزم وفرح إنجاز مهمة. فقد تعبا من الوقوف طيلة النهار تحت المطر.. وأشعر أن لهم الحق الآن في جولة هادئة قرب الشاطئ. ثم سيقفان عند بوابة المطعم وسيجلسان على الكونتوار، ويشربان جعتين وثلاثة وعشرين، وسيظلان ينظران إلينا بحزم، وسيبكيان..

رفت المظلة.. طارت.. نزل علينا المطر، ضحكنا وعدونا، وفي الخلف كانا يركضان بقرف وخوف.

ألا تحبون المطر؟؟…

ابتلت الضمادة في يدي.. كرة بيضاء هذه اليد، تسألني وهي تضغط بمندي عليها برفق كي يمتص منها الماء… الحساء لذيذ. لم أكن أدرك أن استعمال اليد اليسرى ممتع.. تنظر إلى ضمادتي وتسألني عن حال الأصابع. أقول أنها بخير وإنها ستعود لتكتب.. ولماذا تأخذ الضمادة شكل كرة؟ نرقص في حنو.. تمر بيننا عازفة الكمان توزع ابتساماتها الحلوة.. مضت السنين وعازفة الكمان يزداد حزن عينها اشتعالا.. تسير إلينا وتطرب..

كيف يبتسم الناس؟!

الأواني الفضية تحدث على المائدة قرقعة كقرقعة الحديد. لكنها لا تترك في اليد صدا.. تعجنني الآن كل تلك التفاصيل تتورط أعقاب السجائر في الجلد.. تصعد الصرخة إلى الجوف. لن أتوجع. هذا الألم يتفاقم أتركه دفينا. الحبال التي تشج الجلد والاسمنت البارد على الظهر. الماء العكر.. الوجوه الزرقاء.. كنت أضع اللفافة بين الشفتين وأمتص دخانها مغمض العينين كي لا ألحظ ذلك التوقد في اللفافة المرعبة.. سنبدأ… كل يوم كنا نبدأ .. هكذا يقولون: سين. جيم. سين.. جيم.. سين… سين… سين… اسحقوه. ويسعفني المطر. أنظر في الزجاج الشفاف.. يصعد البحر إلينا..

- هل تلحظين ذلك الضوء العميق في البعد؟

- قوارب صيد.

- قناديل..

- ربما مر عجوز "همنغواي" من هناك..!

- لازال خيط دم حوته الكبير يرقد في الماء المالح..

- وأسماك القرش تكرع الخمر على الكونتوار.

- هل نشرب الشاي؟

- في أقداح طينية.

علي أن أرتب أمورا كثيرا .. وأن أسافر بضعة أيام.. هل سيحق لي السفر الآن، سأسأل الاثنين إن كانا يرغبان في السفر ورائي.. سأسعد كتبة التقارير على فعل ذلك، وعلى إجراء التدابيرات اللازمة مسبقا.. أن يهيئوا حقائبهم.. خذوا الوقت الكافي لحلاقة ذقونكم، وسنركب بعد أيام إلى الجحيم.

يصعد ألم ما إلى ذراعي. سيختفي هذا الألم نهائيا. تنظر في عيني وتقول لي كيف سارت تشتاق لمداعبة تلك الأصابع.. أمد لها أصابع اليد الأخرى وتضحك. نضحك، نطفئ الضوء ونسمع بكاءهم في أسفل الشارع وصرخاتهم تلعن الرؤساء.

صباح الخير. الشمس تثقب بكارة السواد. انظر إلى وهي في المرآة الصافية. أراك الآن خلفي تمسدين شعري برفق.. يظهر وجهك الناعس كقرنفلة، وجسدك طري تحت المنامة. أحاول ما أمكن أن أخبرك بعدم جدوى مجيئك معي إلى المستشفى، واني لا أريد أن تري بقايا الجر في يدي. تتحدثين بخوف ولا توصدين من خلفي الباب، تظلين معلقة على دفتها، أرى في عينيك لهفة الأم على طفلها. تنبسين بكلمة: «أخاف عليك من الكلاب»، أقول لك: «انظري في عيونهم أولئك الجبناء والمحي مقدرا الرعب فيها…».

- ستخرج بعد أيام.. نرجو أن تكون قد فكرت جيدا.

- نعم فكرت..

- بم فكر؟

- فكرت فيكم

- نحن؟!!

- لقد تعبتم..

- إذن.. ستكتب من جيد!

- سأفكر من جديد.

القهوة جامدة في حلقي، انظر في بقايا أصابعي وأفكر فيك. لقد انتزعت الضمادة البيضاء.. حاد هذا الحزن.. جامد ومرعب.. ألمح كيف ستفزعين حين لن تجدي تلك الأصابع. وسيخرج صوتك جامدا : «كيف ستكتب الآن!!» سأقول لك: «باليد اليسرى…» وسأرى دموعك تسقط في دمي نافرة.

- ماذا ستكتب؟

- قصصا

- لمن؟

- للأطفال

- كيف…؟

- بالأبيض والأسود

- لماذا؟

- لأنهم يكرهون وجوهكم.

(وامتدت السكين الكبيرة كي تستأصل الحلم)

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

  Copyright © 2001 unecma. net