في تلك اللحظة، لم أكن أعرف بالضبط هل كنت قد
استيقظت فعلا. لأن الأشياء التي جرت كانت أقرب إلى الحلم منها إلى الحقيقة.. ولأني
منذ زمن كنت قد فقدت كل الأحلام الجميلة، فصارت ليالي كوابيس. استطعت فيما بعد أن
أخرج باستنتاجات كثيرة؛ هي أن الكوابيس أصدق من الأحلام مدام الحلم يشبه سلعة محرمة
ممنوعة التداول.
خرجت – إذن – في الصباح بعد أن أوصدت الباب
خلفي. كانت كل رغبتي لحظة الاستيقاظ شرب فنجان قهوة ساخن. كان الزقاق الذي ارتميت
فيه مقفرا تماما، فلا أحد كان في الخلف أو في الأمام. كل النوافذ موصدة والأبواب
توحي بأنها لم تطرق منذ عام. الشمس كانت مضيئة، ولهذا سقط احتمال أن أكون قد خرجت
في وقت مبكر. لا صوت يطلع من الأرض ولا صوت ينزل من السماء، لأني أنا أيضا لم أعد
أطلق صوت رجاء أو انتظر هبوط نبوءة جديدة من السماء. كان كل الذي أراه متاهة. تخلصت
من الزقاق وارتميت في شارع طويل.. الشارع الميت الطويل الذي بالأمس كان يختنق
بازدحامات مقلقة، صار ارتماء أهوجا في صدر البنايات، ممتدا تطلع منه علامات مرور
متعددة التحذيرات. ولأني كنت – رغم دهشتي الأولى – لا أزال مصرا على شرب قهوتي
السوداء، فقد ارتميت في المدينة على أحد مقهى مفتوح الأبواب. أكثر من ذلك، لاشيء
عاد يشغلني أكثر من شرب فنجان قهوة. بل صارت القهوة عندي في تلك اللحظة قضية.. صعدت
إلى رأسي نكهتها وراحت تملأ خياشيمي رائحتها العبقة. دفعتني ذلك لأن أنقذف عبر
الطرقات مهروسا بهذه الرغبة مجنونا بها. امتد في التعب ونزفت عرقي دون جدوى، فلا
شيء عاد ممكنا وكل الغرائب محتملة.
صرت أضرب الأرض بقدمي، أركل الأبواب، أرفع صوتي
بالشتائم، ألعن العالم والناس والمدن والتحذيرات وعلامات المرور والسلطات والإرهاب
وهذا الحبس الفضفاض الإجباري العازل.
تردد صدى الصوت عبر الجدران عاد إلي.. اكتشفت
روعة ذلك، فقد صرت أستطيع رفع صوتي دون احتمال أن تمتد يد إلي لتخنقني. وتحولت حالة
الصراخ من إحساسي بالقهر إلى اكتشافي حرية فعل ذلك باطمئنان، فمضيت أصرخ، وتحول شكر
الصراخ إلى غناء، وكبر حجم الصوت أكثر لأنه كان يترمي بين البنايات. يلطمها، يتخلل
تجويفاتها، يعبر مرافقها ويعود إلي. أمضيت ساعات طوال أفجر ما اختنق في داخلي منذ
ألف عام.. صار الصوت نشيدا، يتشكل عبر الصدى.. أرسم عبره هذا الانعتاق اللامنتظر،
من سنوات القمع الطوال.. أصرخ "لا"، تعود "لا" إلي، أصرخها، تتعدد ثم تسقط بين يدي.
خسرت المدينة ناسها وضوضاءها، وصرخت أنا، لكني أنا الذي خسر. صرت أرى بعد انطفاء
شهوة الصراخ شكل الجحيم.. وهنت قواي وقلت أعود إلى بيتي أحتمي فيه من هذا السكون
الناشز أو أنام. لكني أضعت الطريق وتحولت الطرقات متاهة. خسرت للمرة الثانية حين
حلبي عطش عنيف ولم أجد نقطة ماء تعتق اللهفة.. تهت كالمجنون حتى سمعت صوتا قادما من
بعيد كالخرير. يتصاعد ويتعاظم كالطوفان، لكني للحظة أيقنت أن الصوت رقع أقدم. عبر
إلى فاختلط علي الخوف بفرح اكتشاف الناس من جديد. لكن لا صوت كان يطلع غير احتكاك
الأحذية بالأسفلت وأنفاس محمومة تبدو كلهاث جياد قرصنتها الصحراء. ثم لاحت لي أولي
الوجوه؛ عساكر كانت قادمة.. لم أستطع أن أعدها لأنها كانت تهب كالطوفان. لذت بجدار،
ثم حاولت التراجع والهرب، وفي كل زاوية كنت أنفذ منها تطلع على آلاف العساكر.. شعرت
بغثيان اللحظة الرهيبة ثم سقطت العق لسع الجزمات التي مرت خاطفة.
في تلك اللحظة، لم أكن أعرف بالضبط هل كنت قد
استيقظت فعلا. لكن لكي توقنوا أنني لم أكن أحلم، تأملوا جيدا جروح أجسادكم المزمنة. |