النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد
عبد المجيد الهواس: الليالي البيضاء (قصص)

أمسية شعرية

 

 

انتصب المنبر الأخضر الداكن في زاوية القاعة كصخرة عتيقة نامت نصف الدهر في بركة ماء قديم. وأحاطت به الكراسي كخطوط البصمات، وعلى الجدران وضعت تلك الستائر السوداء التي أعطت للقاعة عمقا لا محدودا إلى أن اشتعلت الأضواء.. دخل الرجال واصطفوا في المقاعد الأمامية، بينما تسللت النساء إلى الكراسي الخلفية على الطريقة الإغريقية في مسرح قديم. كان الشعراء يخرجون من خلف الستائر واحدا واحدا ويحتلون مقاعدهم إلى جانب النساء في انتظار أن يعبروا إلى المنبر بالتناوب.

اشتعلت ضوضاء قليلة ثم انطفأت مع نزول الضوء الذي أعطى شاعرية للمكان. ثم سقط قرص ضوء على المنبر أنار وجه شاعر لم يلحظه أحد من قبل.. طلعت تصفيقات متنافرة ثم نزل الصمت كعزف موسيقى. بدا الشاعر مرتبك الوجه متعب الملامح. مرر يدا على جبينه وحنحن بصوت خجول، ثم رفع اليد ثانية بعيدا عن وجهه قليلا ليسقط ظلها على عينيه. حدق في القاعة دون أن تسقط اليد أو يرتفع الصوت. بدت اللحظة كمشهد قديم. قرص الضوء شمس حارقة واليد تحية للموت. تفصد الجبين عرقا وبدأ الشاعر يبكي.. حين تجلى له المدى صحراء.. قال أبياتا والقصيدة لحظة ميلاد.. لكن حين تمثل له الموت نادى على الناس أن يؤبنوه.. ارتفعت التصفيفات غامت القاعة. مر الشاعر إلى الخلف وتعاقب بعده الشعراء على نفس المنبر الأخضر الذي شحب كثيرا في الزاوية القصية.. تحول صخرة حقيقية وعتيقة استيقظت من عمق نهر قديم. مر الشاعر الأخير مكشوفا بقرض الضوء.. انتصب من خلف الصخرة نادى على عازف، فظهر في الزاوية المقابلة العازف يحمل الناي. كان هو نفسه الشاعر الأول.. مر من بين الصفوف ثم انزوى في عقم القاعة الخلفي. كانت الستائر السوداء التي أخفت جدران القاعة تنزاح ببطء وترتفع. ظهرت من خلفها مرايا كسرت شكل القاعة.. ارتفعت ضوضاء.. بدا الناس من حول الشاعر دوائر. ارتبط الشاعر في الوسط، تلفت من كل الجوانب؛ من حيث ما نظر كان الرجال يحيطون به، يرسمون حوله المتاهة. اضطربت القاعة.. بحث الناس عن وجوههم في المرايا، رأوها مغمورة بالفزع. الشاعر امتص خوفه وراح يرفع الصوت، لكن الرجال ظلوا مرعوبين من وجوههم.. انتفضوا كالدجاج المذبوح. بدت القاعة كالساحة الموبوءة.. ارتفعت زغاريد النساء، صوتهن الدائري يحيط الساحة والرجال.. قال الشاعر: القصيدة هذه الحرب.. لكن الناس بحثوا عن مسالك القاعة وانقذفوا إلى الخارج. لحقت بهم النساء بصوت ينوح وبالبكاء تحطمت الكراسي.. تحولت القاعة كالخرائب، وظل وحده الشاعر الأخير ساهما فيها ينظر في الأضواء ويسمع تلك الموسيقى التي ظلت تولد من ثنايا المكان. مرت لحظات، فدخل بعض الرجال بالأثواب الرثة وبدأوا يكنسون القاعة.

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

  Copyright © 2001 unecma. net