النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد
عبد المجيد الهواس: الليالي البيضاء (قصص)

الليالي البيضـاء

 

 

في تلك الليلة، لم أعرف أية رغبة قذفت بي إلى الخارج، فقد كان الخريف قد استوطن المدينة وأسقط على ليلها مطرا حادا وباردا كمقعد إسمنت فيمخفر شرطة.. ترك المطر على الإسفلت المحفر دوائر ماء بدت مع انعكاس ضوء المصابيح مختلفة كبقع نفط. لم تحبل المدينة في يوم ما بزيت كهذا. لكنني حين امتددت بين سواد الأزقة شعرت كأن الذي في بطنها عبوة ستنسف عما قريب.. تخيلت الشظايا على مر الطرقات، ونتف لحم محروق لم تنضج إلا للموت. لكن البنايات المهترئة لم تكن توحي بغير ذلك.. هذه الشظايا المتنافرة التي تلد الجوع والفقر والعطش. سرت محمولا هكذا، بغية التخيل القلق انشد العتمات المتلبدة في استدارات الطرقات واتسلق حبال ذاكرتي التي كانت تنشد الأمن ذات يوم عبر الرحيل. بعيدا،، بعيدا أكثر.

وقف الجمركي يتأمل تأشيرة الخروج في جواز السفر. قلب الصفحات يقرأ الاسم ويعيد ذلك. نظر في الصورة وفي وجهي يلحظ الفارق. صحيح أنني لم أحلق ذقني منذ يومين. وأني حين نظرت في عدسة المصور رسمت ابتسامة صافية رزقت بها في تلك اللحظة، لكن الجمركي لم يقتنع أني سأخرج سائحا، لأن لا شيء في كان يدل على ذلك، فتش حقيبتي جيدا فوجد أقلام حبر ودفاتر. بعض أواني فخار صغيرة طقطقت في الحقيبة فقال: «هكذا إذن تهربون خير البلد!». حين فكرت أنني سأسقط من فكي كما شته، جرجرني نحو مكتب زجاجي صغير. كتب اسمي في جهاز كمبيوتر.. نظر في شاشته لحظات، ثم ضغط على الكماشة فصعقت، لأن نقطة حمراء ارتسمت في الجهاز وقال: «ممنوع عليك الخروج».

ابتلت قدماي ببقع الزيت، واشتعل الفتيل الأحمر الذي في داخلي. التهبت لأن البرد كان لا يقاوم. لم ينطفئ، صعد دخانه إلى الدماغ. ظل الفتيل مشتعلا. أحمد كان قد سبقني بخطوتين. مر من قبضة الجمركي. ثم حكى لي وهو يتلمس تكور نهدي أوروبا أن الصدر ضامر. رسائل أحمد كانت المد والجزر والطوفان. نهر غامض الانسياب. جارف حتى الموت. قال لي: كل الكلاب حريصة على الفتك بالغرباء. قلت لأحمد: ما أعنف أن تغترب في وطنك. قال: ما أعنف أن يتضاعف موتك وأنت تلعق الغربتين قلت: هو اختيار. قال: هو انهيار.. قلت وقال واستطال اللسان نحو البلعوم واكتمل الاختناق..

عاد سيف المطر الحاد. نصل الكآبة احتد.. كانت الطرقات تتلوى وبعض العجلات تلسع الطريق.. دوريات الشرطة مستمرة في استنفارها الليلي، والمقعد الإسمنتي يتشرب البرودة في انتظار القادمين.

قادم هو الظل كي يتستر تحت الجسد.. انزويت تحت قرميد أحمر، أو هكذا بدا لي لونه المعتم.. احتميت في عرائي انبش الليل والطرقات.. كأني أعري عنه التراب لأنتشل جثتي.. تسربت الحماقة إلى جسدي، فجلست على الرصيف المبتل اللزج كما كان حسين بفعل. فرغت مني الكتابة واللغة، ولم أستطع أن أكتب له سطرين في سجنه. كنت أعلم أنه كان في أقصى العزلة، وأنه كان يجلس على الرصيف ليعد أصابعه. كم كان عدد الأصابع؟ لماذا لم أستطع أن أكتب له تلك الرسالة؟ قال لي: احترس من قراءة الجرائد في قارعة الطريق. ولم أقل شيئا، فقد كان يخرج عند متنصف دجنبر ليشتري جريدة، فاعتقل كسمكة دخلت صناديق معلبة، كتب عليها بكرافيزم جميل: «طري».

لم تكن أحلامنا طرية، فقد شاخت كما تلك القصص الصغيرة التي كتبناها وظلت طي الدفاتر في انتظار أن تعتقل. وخز الدماغ عنيفا هذه المرة، حلو نزيفه كقصة حب مجوسية.. دعقني الرصيف ووجه حسين. فقمت أسير، فلا زالت تسكن الدم رغبة الانتشار.. تهت من جديد كي أنسف هذا التذكر.

هي تلك الليلة، كنت إلى جانبي. احتسينا حساءنا واتكأ بعضنا على بعض دون أن نتداعب. يحز في نفسي ذلك، فليلنا لم يكن دعابة. مسحت بيدي على بطنك أتلمس تكوره الجميل. لحظة عشق لذيذ كانت اللمسة، سبحت فوقها عتمات الوطن السوداء. فقلت لنفسي أن الوقت لن يرحم طفلا جيء»… اخنقيه قبل أن يخنقه شيء أكبر. ولهذا خرجت مقذوفا بتلك الرغبة. رغبة التضاد الكبيرة.. يجيء أولا يجيء؟ سيجيء الطفل إلى الوطن.. قلت لي: ستخرج إلى الحان؟ قلت لك: لن أشرب. برقت عيناك من ارتعاب عيني. فرأيت شفتيك الجميلتين تناهضان رغبتي. قلت لك: أعدك الا أشرب. واحتد بي العطش. قلت لي وأنت توصدين الباب خلفي ألا أتأخر. ابتسمت لك هكذا رغم غصة العطش المرير. سيف المطر حاد. برد صقيعي قاطع أحسست بوجهي ينتفخ. تلمسته فكان جمرة.

أتذكر جيدا.. في ذلك الليل الآخر. كانت نجوم صغيرة تضيء عند الجبل، تشتعل ثم تومض، وتشتعل من جديد. لا قمر كان يضيء.. غيرها تلك الأنجم التي كانت ترشد العربات المصفحة المتربصة عند سفح الجبل، مدججة بالعساكر والعصي والهراوات. نلتم على بعضنا، نلتف، نتدفأ، ندخن سجائرنا التي وحدها تضيء في ليل التسكع المرير. ثم نطل على العربات كيف تعجز عن مطاردة هذه النجوم الصغيرة. في الصباح ننزل الجبل بكل احتراس، لأن الوطن يوجب كل ذلك.

فكرت أن أعود، فقد انطفأت في رغبة المسير أكثر.. بقع الزيت تكاد تشتعل. جنونية تلك الرغبة التي دفعتني أن أقفز فوقها.. تلك البرك السوداء. ركضت أقلص من انتظارك. أعترف. كنت حريصا على أن أعود بكل السرعة الممكنة. . قلت لنفسي أنني سأقبلك بعنف وأحضنك ملتصقا بانتفاخ بطنك الجميل. قلت لنفسي، سأبرر لك كيف صار جسد مبتلا هذه الليلة: مرت تلك السيارة تطأ البركة السوداء. فارتمى على الماء العكر. لم ألعنها لأنني كنت حريصا على أن أظل مسحورا برغبتي في معانقتك.

أعترف لك الآن.. لقد مرت السيارة فعلا، دورية شرطة كانت. داست بركة سوداء عند قدمي فارتمى علي شلال الماء العكر. كدت أشتمها لكني تراجعت عن ذلك، لأن السيارة انتبهت إلى فتراجعت إلى الخلف حتى توقفت أمامي. ركبت، لأن الشرطي الذي فتح لي باب السيارة الخلفي شرح لي أن دعوته لي بالركوب شكل من أشكال الاعتذار.

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

  Copyright © 2001 unecma. net