النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد
عبد المجيد الهواس: الليالي البيضاء (قصص)

حالات طائر حجري ينام ويستيقظ

 

ابتعدت السيارة عن المدينة، ثم سارت ببطء حين استوت الطريق كخط رفيع يرقد بين الأشجار... أنزلت زجاج النافذة الذي أتاح لي نفسا عميقا شربته من الهواء المتسرب من بين ثنايا الشجر. خلت أني انا الذي طلبت من السائق أن يسير بهذا البطء، أو لعله فعل ذلك من تلقاء نفسه، إذ لابد للقلب أن يخطف لهذا العمق النباتي الذي يعيد للذات جذورها الأصلية. نظر السائق في ساعة اليد، ثم ضغط قليلا على دواس السرعة. لاحت بناية المستشفى كرسم متحرك. صارت ترتفع. نقترب فتظهر بطوابقها الأربعة كيخت صغير في بحيرة ماء متداعية الشاطئ. ثم كبرت البناية حين توقفت السيارة عند سياجها المعدني الذي انفتح بابه بمتحكم إلكتروني عن بعد. كبر السياج أيضا، ورأيت وأنا أوضع برفق في السرير المتحرك زجاج الطابق التحتي المصقول الذي عكس الغابة الممتدة إلى الخلف. رأيت طائرا يعبر، حين عبرت الباب محمولا إلى الداخل.. حلق واختفى. ظل الطائر يحلق في ذهني، ثم تحول إلى حجر نزل أسفل بطني، بدأ يعبث داخل الأمعاء. يصعد إلى القلب، يضغط على الرئتين، يتضخم في المعدة. ينز الجسد عرقا، وأحس يصعد على البلعوم، تعصف بي رغبة قذف ذلك... الشيء المستعطي إلى الخارج، قذف الأمعاء. القيء حلم يتملكني بشدة كلما تحرك في داخلي الحجر الثقيل كالسم. يقبض الرئتين، أحسهما عضلتين منقبضتين كلحاء الشجر. حالة الاختناق عنيدة.. تتجاسر على الجسد الرخو الذي انهزم كيانه. تحول إلى مجرد أنسجة أعصاب وخلايا مختلة التوازن. أفكر فيه كأمعاء شاة مبقورة البطن تتهاوى داخل هذا الوعاء الجلدي الذي ينز بالعرق والحموضة. حلمت بهذا الهواء النقي وبالحدائق الخضر.. مذْ امتدت السيارة وسط البحيرة الخضراء، ولاح في عمقها اليخت كسفينه تبيح الترحال والسفر. حالة الإرهاق اندفنت في أجواء المدينة المقهورة بالإسنمت ووجع الآلات على الإسفلت، وشاحنات القمامة المسربلة بالنتانة والحزن. ولهذا استلقيت بارتياح وسط السرير المتحرك الذي يدفعه الممرض خلفي في ممرات المستشفى النقية المصقولة. أحسست بهذا الامتياز الذي منحتني إياه الإدارة التي اشتغلت فيها طلية هذه السنوات الأخيرة، لولاها لما استطعت بإمكانياتي المادية المحدودة أن آمل فترة استشفاء أقضيها ببناية من هذا النوع... إن الشيء الأكيد هو أن الإدارة أدركت أن حالة التسمم التي أصبت بها هي تحت مسؤوليتها رغم أنها لم تحاول أن تخطو هذه الخطوة إلا بعد مرور ما يقرب الشهر. حين دفعت أوراق الفحص الطبي الذي أكد أن حالة التسمم التي أصابتني جاءت نتيجة مأكولات سامة. ولأن الإدارة في الفترة الأخيرة كانت بصدد إعداد مشروع عمل جديد ومتطور ضاعفت من ساعات عملي اليومية إلى درجة أني قضيت ما يقرب الشهر داخل مكاتبها... أشتغل ليل نهار وأتناول وجباتي داخل مطعمها الذي يشتغل في حالات الطوارئ. دفع الممرض السرير المتحرك داخل المصعد الذي تحرك ببطء. أحسست بأن حالتي لتلك اللحظة لا تستدعي استلقائي على السرير، ولا حتى أن اركب مصعدا.. فكرت أيضا أنه كان بإمكاني أن أصعد السلم وأن اشعر كأي مسافر يتسلق فندق سيقيم به يرغب في اكتشاف فضاءاته والإمساك بدرابزين السلم واكتشاف طابق بطابق... رغم أني لم أكن سائحا ولا حتى متيقنا بأنه باستطاعتي أن أتجاوز طابقا واحدا. إنه مستشفى، والمصعد لم يتوقف بعد... ربما دخلت زمن الصعود ونقل الأرجل عبر الأدراج واحدا واحدا، لكن زمن المصعد الآلي يمتص طابقا في نفس فترة الرجل بين خطوة وأخرى. كان الممرض يرفع راسه ليرى الرقم المرتسم في المؤشر الإلتكروني والذي لم أكن ألمحه، كنت فقط أنتظر أن ينفتح باب المصعد، وأدفع إلى غرفتي التي تلهفت على الوصول إليها برغبة حادة في اكتشاف فضائها والإمساك بمقبض مفتاح النافذة وإشراع دفتيها على السماء والغابة، ثم استقبال ذلك الهواء المتداعي نحو الشرايين. نافذة الغرفة تؤطر الامتداد، يرتسم منها الطريق الذي يصعد عموديا نحو الأفق ويندفن فيه. ينقسم الفضاء اللامتناهي إلى زرقة في الأعلى وخضرة عميقة في الأسفل يحركها الهواء... تحلق فيها الطيور.. مشهد استوائي يصير الإسفلت فيه نهرا متدفقا نحو الأفق. ينهض السياج كعقبة تاريخية نحو استكمال المشهد الحالم. ربما شاعر هاهنا سيعطي للسياج معناه.. يلحق أعمدته الحديدية بفضاء مفتوح على الشهوة الصوفية، حاجزا لامتداد المطلق، حافزا لتحطيم العقبة بين توحد المشهد الأخضر والذات. هذا السياج لم ألحظه من الغرفة، ولم أبين خلفه حدائقه الغابة، لأن النافذة كانت مفتوحة على غرفة أخرى مضاءة بالنيون تؤثثها أجهزة الفحص.. تذكرني بمكاتب الإدارة وأجهزة الكمبيوتر التي امتصت شاشاتها المربعة الصغيرة فضاء عيني طيلة سنوات مريرة. كائنات تفكر لها كي تفكر لك. في العمق هناك فكرة خفية تأتي من فوق.. نظام دقيق يدعوك لأن تندمج في منظومة هذه الشاشة المربعة المعقمة والملقحة بأفكار ضيقة تنسف الكيان من الداخل. تفكر بعقول ساستها الكبار الذي يفكرون بجد في وضع مخططات مشاريع جديدة ومتطورة لا يمكن بأي حال من الأحوال خذلانها لأنك بذلك تخذل منظومة فوقية. غير أني حاولت أن أفعل شيئا مختلفا، إذ أن الإنسان لا يمكن... حصره في دائرة تعطيه .. يفكر بعمق في الذي يجب أن يكون.. ترفض خلاياه بحساسيتها المفرطة احتواء أي جسم سام ناسف... طعام متسمم أو طعام مدسوس. من دسني في تلك الغرفة الوقحة التي لا نافذة تمنحها الهواء؟ تطلع رائحة من الجناح.. وجه الممرض مستدير ومنتفخ. الرائحة التي جعلتني منذ أن وضعت في تلك الغرفة أرغب في تقيئ أمعائي. فكرت في الشاعر مكاني.. الشاعر الذي لو كان هاهنا مكاني..!! يهتز الطائر الحجري في داخلي.. تحط. كف الممرض على الصدر وتضغط … يتفصد الجبين عرقا… ترتجف الأعصاب.. حقنة… هواء معقم… شيء ما يتداعى في الداخل. أرتخي وأفقد الإحساس بجسدي. المصحة… تطلع الرائحة من جديد.. أقوم مشلول الذهن، أسير نحو الباب وأدفعه. أسير في الممر أبحث عن أدراج تسير نحو الأسفل. نحو الطابق الأرضي المفتوح على السياج المفتوح على الطريق... لا أحد يتحرك في الممر الطويل الممتد عميقا نحو نقطة مظلمة. مرت مدة لم أستطع حصرها بين تناول الأقراص والانصياع للحفن وعمليات غسل الجوف والارتماء المشلول في الامتداد العميق لهذا الممر… لا فتحة لا نافدة ولا شرفة. أتعب وأجد دائما الممرض المنتفخ الوجه قادما نحوي خارجا من عتمة مظلمة. يسندني وترتمي ذراعي المشلولة فوق كتفه. أوجد من جديد في الغرفة إياها.. الغرفة التي لو .. لقتلت الشاعر.! تلك الرائحة.. تلك الرائحة ! أسأل الممرض الأبكم… أسأله بصدق فيحرك رأسه الثقيل. مع نم سأتقاسم الحديث في غياب أي صوت يأتي غير صوت الداخل المتعب؟ يحلق الطائر إياه في ذهني. أراه منطلقا باندفاع كسهم مجنون، محلقا فوق تلك الغابة التي صارت تمتد بانصياع نحو غابة متلاشية في السواد. رائحة عنيفة نتنة تبعث على الاختناق. يقصف بي الوهم، الهذيان. أقلص عضلات وجهي. استنشق الاكتواء. اطرح السؤال الإشارة. يلين صدر الممرض، يحرك رأسه كي ينفي أن تكون ثمة رائحة تأتي من الخارج. هناك جثة ما في مكان ما.. جسد مريض يتفسخ، ينسف الروح برائحة موته.. في الأفق تحلق طيور سود، ترسم دائرتها التي تضيق… دائرتها التي توقظ في داخلها الشهوة الكاسرة.. الجثة الآن تنتظر هذا العقاب الجارح، يتسرب إليها الرعب إذ تشتد الدائر حدة في السماء. الدائرة السوداء التي ستنسفها هذه الرائحة المجنونة الغاضبة. من أوقعني في هذا الشرك الفج. أتوسد كتف الممرض الذي صار يستجيب بإذعان لرغباتي المقلقة. كأن شيئا إنسانيا عميقا في داخله يمنح وجهه مسحة حزن ويتركه يتحمل موتي البطيء. ثمة منفذ واحد في الممر غير باب غرفتي. نقطع الممر سويا إلى حيث لا يستطيع أن ينتهي. ندخل في تلك النقطة السوداء ولا باب يوجد كي تنفذ منه تلك الرائحة. نعود مغتربين… باب المصعد ذاك! يحرك الممرض يديه. يتسلق شيئا في الفراغ. أعقب بحركة إلى التحت "في أي طابق نحن؟" أرسم الطوابق بيدي، أضع علامة استفهام، إذ لم أكن أبصرت المؤشر الإلكتروني حين كنت بالمصعد، ولا يمكن أن يكون إلا الطابق الأخير، يرفع الممرض عشر أصابع، أرسم أربعة. وتلوح لي البناية من جديد حين صارت تكبر وترتفع ونحن نشق بالسيارة طريقها الغابوي.. صار شريطها الآن بالأبيض والأسود. يتقاسم المشهد هذين اللونين بتدرجاتهما الرمادية. أؤكد مرة أخرى أنها أربعة، فتنثني أصابع الممرض وتنزل الى الأسفل راسمة عشرة طوابق مدفونة بسوادها تحت بياض اليخت. غرفها أقبية للموت معتمة. تنيرها مصابيح النيون الكئيبة. وأدرك للمرة الأولى أن المصعد كان ينزل "بأورفي" إلى أعماق الجحيم.. حقن أقراص. يضغط الممرض على صدري. أحس بجلدي المهترئ تحت كفه كيف صار يتفسخ. أرى الآن هذه الرائحة العنيفة التي صارت تنبعث من غرفتي المدفونة تحت الأرض.. أرى الآن نتف هذا الجسد الآيل للسقوط. النافذة … آلات الفحص العنيدة التي لم أكن أطل عليها. كنت أرسم من النافذة الزجاجية الغابة، فيرتسم قرب الغابة السياج. صرت ألمح السياج في الأعلى. أراه الآن يقف فوق رأسي حدودها الصوفية، يدفعه عنه بعمق الرؤى، ينسفه وينسف هذا الزجاج المتجمد في حولي.. ألتصق بالنافذة، أرى أجهزة الكمبيوتر المريضة. أفتح بوابة الداخل، يرقبني الممرض دون اعتراض أو حركة. فأجد نفس الآلات الإلكترونية التي امتصت حياتي. أضغط على الأزرار وأقرأ في المربع الضيق الصغير إشارة، "لقد حاولت نسف مشروعنا الجديد، ولهذا سحبنا منك لك الثقة». يكاد الطائر أن يتحول حجرا، يكاد أن يتحرك في البطن، لكني أراه الآن منطلقا… عينا الممرض صافيتين. أرى وجهه المبتسم يرسم يكفيه جناحين. أقترب منه فيسند ذراعي على كتفه إذ لا بد أن ننسف بوابة المصعد ونصعد.

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

  Copyright © 2001 unecma. net