النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد
عبد المجيد الهواس: الليالي البيضاء (قصص)

غيـوم صغيـرة

 

 بدأت الجدران تتسع، تضيق ثم تكبر وتفقد قدرتها على التصلب. شكلها المعتم يتلون ونفتح فيه الأفق الأحمر. تظهر السماء كعين لكمتها قبضة من حديد فتشعبت فيها شعيرات الدم. السماء كعين لكمتها قبضة من حديد فتشعبت فيها شعيرات الدم. الجدران تفسخت حجارتها. صارت مدى. أمد رجلا في الرمل يثقل واعجز عن تحريك الرجل الأخرى. أنشد للأفق الغاضب، أحدق في شعيرته الأفقية الحادة… أركز فيها يعنف وقوة، لكنها تتآكل تلك الشعيرة وتتحول إلى ذبذبة مرتجفة.. بدأ النمل يزحف فوق القدمين، أحس بلسعاته القوية، امتص الصرخة فتحول عضات النمل بالتدريج إلى دبيب خافت على الجلد. أحس بلمسات أرجله النشيطة التي تدغدغني مانحة دمي نشوة صغيرة. عين السماء صارت صافية زرقاء عميقة. ينشف حبات العرق هواء رطب منعش. تأتي رائحة المحار قوية.. ماء البحر الصافي يمتد إلى الساقين الذابلتين، أحركها ثم انطلق. اخبط الماء بحركات عفوية منتشية. ألمح الوجوه من حولي. أركز فيها النظر محاولا ان اكتشف تقاسما للذة الماء الرطب والهواء المنعش. تفاجئني يد من الخلف وتسقطني داخل اللجنة. انتفض، التفت بسرعة لأجد سعاد في الخلف واقفة تضحك: - هل لازلت تفكر أن تقطع هذا البحر إلى الوراء!؟ انتصب واندفع اتجاهها. تركض فارة وارتمى خلفها. ترفع ضحكاتها وصرخاتها الجميلة وهي تحاول أن تفلت مني. امسكها بسرعة كما لو أحاول أن أضمها إلي. أشعر بنعومة ذراعيها المنسابتين من تحت فستانها الصيفي المخطط بالأبيض والأزرق. تغلبني نظرتها الساحرة وتغمرني بلذة الشفتين الراجفتين : - لا تسقطني أرجوك.. سأتبلل ويصبح الفستان أكثر شفافية. أشفق على نفسي من رؤية جسدها الجميل - لن أفعل… لكن أطيل الوعيد إن هي حاولت إسقاطي ثانية مبقيا ذراعيها تحت ملمسي، ناعمتين تظلان. نجلس وتستمر تلك اللذة في قبضتي. تلفحنا شمس البحر الدافئة. أشعل لفافة تبغ فترتمي أصابعها المباغثة عليها، أحاول عبثا إنقاذ لفافتي. تلسعني أظافرها… تتشابك اليدان فتتكاثر الخربشات على ظهر كفي. انظر إليها بلوم وأطلبها أن تقص تلك الأظافر. تمد يدها إلى حقيبة صغيرة، وتسحب مقص أظافر وتبدأ في تقليمها دون كلام. تنظر إليها سميرة بغيرة واحتجاج : - ما تفعلين يا صاحبتي … إنك تفسدين جمال أصابعك. انظر إلى سميرة نظرة المنتصر وأقول: - أنا أحب هذه الأصابع المقلمة الجميلة… تنتفخ خربشاتها على ظهر يدي. أحس بها تخز.. تنتفخ… ترافقني تلك الخربشات في السفر، وأحلم أن تظل موشومة، تسرقني الخيالات الجميلة، التفت وأرى امتداد الرمل الشاسع، تكبر تلك الخربشات وتتحول جروحا على طول الجسد… يكبر الألم، تنتصب الجدران هذه المرة. اصرخ. يعتصرني الألم المر وتعتم الوجوه من حولي، انظر بحق في تلك العينين الوقحتين، اصرخ. امتص الصرخة. اكتشف فجأة سعاد بجانبي. تقول له: - ماذا تريد؟ - من أين أنتم؟ - من ارض الله الواسعة.. لماذا؟ - هكذا… - وأنت من أين؟ - أنا من هنا … سبق لي أن رأيتك. - أنا أيضا رأيتك. لكنكم كلكم تتشابهون - كيف نتشابه!؟ - ألا تتعبون من ارتداء هذه البدل الكاكية وتتبع حركات الناس…!؟ - نحن لا نتبع الناس. نحن نسهر على الأمن. - أذن أنت جئت لتعسس علينا.. - أنا أريد أعرفكم فقط. - هل يطلبون من التقارير؟؟ ورأيت ملامحه تنقبض. والدم يصعد إلى أنفه. وسعاد مندفعة بلسانها الحاد كاندفاع أظافرها نحو يدي. لكزتها في رجلها فنظرت إلي: - دعنا نعرف منه ماذا يريد - سيفسد علينا جلستنا - نحن من سيفسد عليه مهمته ونظرت إليه كيف صار يجبن. سار نحو البحر. ثم كثرت من خلفه الوجوه بنفس البذلة ونفس الهراوات المدلاة من الأحزمة. الغضب المستشيط والنظرات الحاقدة… - يخافون من لحظة حب، قلت هذا لسعاد وحين التفت لم أجدها. رأيتهم وحدهم ينزلونني وعضات النمل على كل جسمي. دفعني أحدهم وسقطت ملئ وجهي. صعدت جرعة الماء المالح التقاط الأنفاس. أحسست بالقبضة تشد شعري وتدفع الرأس إلى أسفل. ليس الماء مالح. العفونة تطلع إلى خياشيمي. العفونة العطنة. تسحب القبضة رأسي إلى أعلى، تدفنه من جديد في الوعاء العفن، ترفعه: - ستتكلم يا ابن الكلب. قم… سر .. وأدور بثقل بين الجدران وأحس بالإبر توخز قدمي.. «تحرك» أضاعف السرعة… «قف» أقف… أحس بالدوار الحاد ولحظة الغثيان القوية… أحس بمنشار يقتلعني من الجذر فأتساقط كجذع شجرة. رأيت عين السماء مريضة، ارتسمت فيها جلطات دم… بقع حمراء مرتسمة على الحائط. الحائط إياه الذي كنت أراه في الرسوم بآذان تنتصب منه. لم أكن أشم في تلك الرسوم هذه الرائحة العفنة. كني كنت اشعر بثقل تلك الآذان الحجرية التي تلتقط الأنفاس. أنفاس القهر والمهانة. الأنفاس المعتمرة بالحلم. البرد الحاد يعتمر في العظام. يشقها كالسكاكين. قالت سميرة: - ضح، واعط سترتك لسعاد قلت لها: - رغم هذه البذلة، اشعر بلسع البرد… إن التضحية ليست على هذه الشاكلة.. وكنت أدفء سعاد في قلبي، وأشعر أن الذين يمنحون ستراتهم لرفيقاتهم يفتعلون ذلك ويحلمون بلحظة تعريتهن تماما.وأنا كنت أفضل أن يحتفظ كل بملابسه إلى حين أن يتضح ذلك الحب في الداخل ويفض عنه قشوره كثمرة الجوز. أتكوم قرب الحائط اللزج الرطب، المس أعضائي المتجمدة. أمرّر الكف المنتفخة على صدري المتورم. لقد عروني تماما كي اشعر بعظمة هذه المهانة… كأنه البدر الرحيم.. بدأت أبحث عن عين السماء من جديد. أبحث عنها رغم تورمها فتتفسخ كما كل مرة تلك الجدران، وارى تلك العتبات الخلفية لبناية قديمة. سعاد تجلس وأتكوم بجانبها. أنظر إلى فخذيها الجميلتين كيف تلتصقان لمقاومة البرد، ويديها كيف تشتبكان حول خصرها النحيل… أنظر إلى عينيها ودفئهما الخارق واشعر كيف تدفئ أنفاسها عضلات قلبي المزدحم بالحياة… - متى تسافر؟ - الليلة. - الليلة ! .. وأحسست برعب ذلك البرد القاتل في عربات القطار، ورعب افتراقنا من جديد… قمنا ومشينا… ليل المدينة يشيخ بأضوائه عنا… لم أكن اعلم أنها آخر جلسة وآخر ليلة… رأيت الأدراج تمحي وتنغلق الجدران. لاح لي وجه سميرة في العتمة يتلصص على حزني وعربي، تكومت أكثر كي احتمي من نظراتها الساخرة وشربت من عتمات الليل العميق. - ستتكلم يا ابن الكلب. وأزم شفتي محاولا استحضار تلك الصورة الأليفة المنقذة. ينسفني وجع الليل ووجه سميرة. أحاول النسيان، لكن الضغط يتوالى مزدحما بعنف كعربات قطار زاحف…. صرت أهذي في داخلي بتلك الصور المتلاحقة تلك اللحظات المؤرقة التي تعاقبت علي في غيبة وجهها ورسائلها… وحبها. صرت أحلم بفقدان الذاكرة، لكن وحدها الآن هذه الذاكرة التي تنشلني من الألم الحاد الذي يمعنون عني تعميقه، لكنه يخذلهم بالتدرج إذ يتلاشى كلما ارتجفت تلك الجدران وضاعت قدرتها على محاصرة الخيال. - بم تفكرين…؟ - أفكر في اللاشيء. - لقد صمتت طويلا. - لقد صمتنا معا.. أنت أيضا كنت تفكر - كنت أفكر فيك…. وفي الخدوش التي تتركها أظافرك على ظهر كفي… لكنها كانت مشغولة بأقوال سميرة عني، وأنا نسيت تلك الخدوش على ظهر اليد وأحسست بالخدش الكبير يكبر في الصدر. هل انتهى كل شيء؟ انتهى… وكنا ونحن نسير يملؤنا الحب الوطن، يملؤنا الحديث عن الأطفال والبحر وتشغلنا كتابة الرسائل التي لم ننتظر بعدها هذا التوقف العنيف… لقد حدث كما في كل قصة حب… وها نحن نؤدي الثمن. وهم يكرهون كل من يحب، يفصح الآباء عن هذا الكره ويضربون عليه رؤوس الأصابع مجتمعة فيجفل القلب لحظة لكنه يستمر فيحبه النبيل، وهاهم يضربوننا الآن حب اكبر ويصرخون : - ستتكلم يا ابن الكلب.. ويعتل صوتهم بالنباح. ثم كلما بح صوتهم النشاز أركبونني تلك الظاهرة التي لا تحلق… أحس بالدوار العنيف وبالرغبة في التقيؤ… أطبق جفني فيهدأ صداع الرأس… اطل من تلك النوافذ المستديرة فتظهر تلك الغيوم الصغيرة التي تندفع بانسياب جميل. أرى المدن التي تحلم، والوديان التي تحلم والغيوم الصغيرة التي ستنزل بالمطر. يغلبني الابتسام وأنا أتذكر وجه رفيقتي الصغيرة التي رممت جراح صدري. أتذكره صغيرا بين كفي وخصلة الشعر المتطايرة بهواء الجبل… تسألني : - ألازلت تحبها؟ - صرت أحبك - تحبني حقا…؟ - نعم أحبك - وماذا تحب أيضا؟ - أحب الغيوم الصغيرة والأطفال والوطن. وتتعطل الآلة وافتح عني وأراهم يزبدون. وفي تلك الغيبوبة اللذيذة، أرى وجهها الصغير بين كفي وأقول: "أحب الغيوم الصغيرة والأطفال والوطن" فتملأ وجهي لكمة، واسمع أمرهم يقول: «اخصوه». ويقذفونني في الزنزانة اللزجة وأنا أتخيل بطنها الصغير الذي صار يعلو ببطء. أتخيلها تتوسد صدري… أضمها إلى برفق وأنام.

 

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

  Copyright © 2001 unecma. net