النشــأة العضوية الرؤسـاء الأعضـاء المنشورات آفــاق أنشطة بلاغــات مؤتمــرات
المنشـورات الإلكترونية مواقف معادية للاتحاد
عبد المجيد الهواس: الليالي البيضاء (قصص)

زر الليلة المتبقية

 

 

وقف أمام وجهة مرتعدا، ولاحت له في عمق المرآة سيوفه المعلقة على الجدار مشتبكة خلف ظهره.. قاتمة الحديد، مرتعبة السكون. تلمس وجه يعيد اكتشاف خطوطه الوحشية، لكن التجاعيد انتشرت متشابكة كالندوب، كل ندب حكاية، كل حكاية التجاعيد انتشرت متشابكة كالندوب، كل ندب حكاية، كل حياة كانت تؤجل طرف السيوف، كل سيف خلفه كان يبدو منغرسا بعمق في ظهره، فتطلع صرخته حادة حتى تنشرخ المرآة، ويطلع صوتها مسترسلا بنشوة الحكي، حتى يطلع الصباح فتنام.

استدار إلى مرقدها، فلاحت له صافية الملامح.. تتحرك داخل ملامحها خيالات الأحلام الضوئية التي تهزم كل ليلة شظية رغبته الجامحة للدم. بصق في المرآة التي رسمت من جديد انشطارات وجهه. وخرج يبحث عن الهواء قبل أن يختنق.

و

ارتعدت "ليلى" في فراشها، فاهتز جسدها بعنف، ثم ارتخت نم جديد. كان لسانها يتحرك بخدر في حلقها. جاف هو صوت الهذيان الذي تطلقه. لم نستطع فهم ما تقلوه، ولم نعرف حتى الآن أي تفصيل دقيق عن الحادث. إن قبضتها متشنجة تضغط بعنف قوي على شيء صغير في كفها، لكننا لم نعرف بالضبط ما هو؟..

خرجنا ملسوعين نم غرفة المستشفى، وانتشرنا في أحيائنا الداكنة. كان البعض لا يزال يقف حول البقعة السوداء التي سقطت فيها ليلى، بقعة الدم لازالت طرية، وفي جسدها كان النزيف حادا ما بين الساقين. متورمة أعضاؤها الصغيرة، متورم دمها.

تناظرنا جماعات كبيرة، سرت ريبة الشك بيننا. كنا نتناظر بحذر. من فعل ذلك؟ من كان يجرأ أن يغتصب "ليلى"؟. لقد كانت أحياؤنا آمنة رغم ما كنا ننعت به.. كتلة بنايات موبوءة.. مجانين وصعاليك..! لكن ليلى حين دخلت علينا، وسكنت –كما نحن – في غرفة صغيرة ضيقة في طابق أرضي لبنانية متساقطة؛ أحست بلا معنى تلك الزيارات المتكررة لدوريات الشرطة والتي ما أن يحدث حادث بسيط في المدينة حتى تتصيدنا.

كانت هواء رطبا يخترق زحمة ليلنا الداكن، وضوء فرح صغير ينير كآبتنا المزمنة، ولهذا كانت آمنة.. تخرج صباحا، وتعود إلى ليلنا المتأخر متعبة.. حتى الليلة الماضية، سمعنا الصرخة، وركلنا بواباتنا إلى الخارج!! كان الفاعل قد فر، وكانت ليلى ساقطة.

ت

قال الوزير: مولاي شهريار. إن سيوفك صارت تصدأ.ووجهك راح يشحب. شهرزاد تمتلك لعنة الحكي، وخيالها لا ينضب. ماذا لو يطول الليل ولا يطلع عليها صباح، فتظل تحكي ولا يطلع عليها صباح؟..

قال شهريار: إننا لا نتحكم في الليل والنهار، وسيفي لن يطال رقبة شهرزاد مادامت تسترسل في الحكي حتى منار الفجر.

قال الوزير : لو يسمح لي مولاي، فسأبشره بالحل : لقد صار بإمكاننا الآن أن نتحكم في مسار الليل والنهار منذ أن عقدنا معاهدة التعاون مع حكام الأرض البعيدة. إنهم يستطيعون أن يصنعوا لنا كرة معدنية ضخمة تفوق حجم الشمس، ولهم خبراء يستطيعون تعليب الشمس داخلها. وهكذا نستطيع دخول ليل طويل لا تستطيع شهرزاد مقاومته. ولحظتها ستظل تحكي حتى تخر قواها وتهار.. إن سيافيك يا مولاي طال استياؤهم وراحوا يشتاقون سماع أوامرك بضرب الأعناق.

طرب شهريار وابتسم، لكنه بادر وزيره: كيف أستطيع مقاومة النوم إذن، في الليلة التي سينتهي فيها أجل شهرزاد؟!

قال الوزير : مولاي شهريار.. إن أصدقاءنا في الأرض البعيدة يصنعون منشطات وأقراص تمنع عنك النوم لمدة طويلة، وتضاعف قوتك ونشاطك، وهم مستعدون لتزويدنا بها. إنهم ينتظرون فقط أوامرك لتنفيذ كل ما تطلبه.

صفق شهريار وجلجلت ضحكته. ثم أعطى لوزيره أوامر البدء في التنفيذ.

ش

"زرقميص" هذا ما لفظت به ليلى في هذيانها..! أعطى الضابط أوامره للعسكري وقال : «هيا اتوني بهم جميعا أولئك الأوباش. صار مقدورنا الآن أن نعرف الفاعل».. كان "هو" ذلك الشيء في قبضة ليلى.. قبضتها المجنونة. صرخة نافرة هزمت الليل وأخرجتنا.. زر قميصه الدموي.. لم تطلق سراحه، لازال الزر في قبضتها. وقفنا عند فراشها، وكان صوتها مشلولا، عيناها الداكنتان كانتا تنظران إليها دون اتهام. وكنا ننظر إلى قبضتها المنغلقة بعنف، ودون ما انتباه كنا نشد قبضاتنا أيضا.. نعتصر معها ألمنا ونحتضن ليلى.

العسكري الذي كان خلف بوابة الغرفة الداكنة في المستشفى ظل طوال الوقت يهمس لزميلة : «إنها لا تستحق كل هذا الاهتمام. فلماذا يصر الضابط على أن نقف هنا؟!» ضحك الآخر ساخرا وقال : «إنها لا تستحق .. لكنها خطة أمنية، يجب تنظيف المدين لهذا السبب من قطاع الطرق والمتشردين..» وكنا نخترق برزخيهما ونخرج، فيصمتان وتظل ليلى تحت أعينهما. نازفة دمها. ممتشقة تلك القبضة العنيفة الملتوية.. لكن من فعل ذلك؟ لا أحد منا كان يجرأ.. من ذا الذي يجرأ؟!! هو وحده كان يجرأ..!!

هـ

وانطلق صوت شهرزاد يحكي، وشهريار يقرفص، يشرب ويبتلع الأقراص.. الليل ليل، وهذا الليل الطويل نحاس وزنك وحديد.. سيفه مشحوذ ومراياه مكسرة.. «هيا اصعدوا» وصعدنا ككل مرة داخل علبة الزنك. كنا نعرف هذا، ولهذا كانت ليلى تصمت وتضغط على قبضتها. كان كل واحد منا يتحسس أزرار قميصه.. كانت بعض الأزرار ضائعة.. «زر من في يدك يا ليلى؟؟».«تحسر كوايا أبناء الزنا» وتحركنا وتكتلنا وازدحمنا، واشتدت الحرارة حول الكرة المعدنية وصارت تحمر، لاح لنا قرص الكرة المحمر من خلف سياج النافدة الخلفي لسيارة الأمن التي انطلقت بموسيقاها المعدنية تمخر عباب الطريق المتعرج نحو تلك القلعة التحتية المدفونة في باطن الأرض.

ر

عينيها – ليلى – غرفتها الصغيرة، خطواتها التي كانت تعبر بيننا وتخترق حينا الملسوع. ونحن؟ ماذا كنا؟.. ابتسامتها الخارقة تقصي التعب اليومي. كانت لغرفتها نافذة تفتحها كوة صغيرة تهتز داخلها الستائر الشفافة. في عمق الليل كان ضوء الغرفة الداكنة وردي، ثم شاي لنا! وليلى كانت تفعل هذا، وتقوم في صباحها الباكر، ثم في الليل تأتي متعبة من شغلها اليومي لكي تقوى أيضا على الابتسام.

عيناها الآن تغوران في دمها صامتة.. وشهرزاد تحكي ليلته الأخيرة.. يقرفص يشرب يبتلع الأقراص. وعيناها تطلان عبر هذا السياج وتسرج كفها عبر فوهة الزنزانة القاتمة محملا بكل أزرار العالم، فيتعرى وجهه الساقط.

ي

يصرخ: «واحدا واحدا..» وندخل ممر المحكمة، يجتث العسكري من كل قميص زرا. يجتث الحاكم من كل واحد دمه. لكن دم شهرزاد كان متمردا.. أقراصه المضادة.. شهريار يترنح، وخلف ستائر الليل الطويل كانت الشمس تصهر كرة الحديد.

ا

كان الوزير من خلف الستائر يراقب وجه شهرزاد يخبث، فتطلع أنفاسه متوترة مسترسلة ومتقطعة. يلهث من خلف الليلة المعتمرة بالموت. وجه شهريار يتابع الحكاية التي راحت ترسم في عمق وجهه تجعيدة جديدة، ندبا ينتشر، يعبر مساحة وجهه الملتهبة بسحر الحكاية وعيني شهرزاد المقاومة، ينتشر الندب ما بين الحاجبين، يستمر عابرا جفنيه التي تسرب إليهما مفعول أقراص حكام الأرض البعيدة..

ارتفع صوت شهرزاد يشج خلايا الوزير خلف الستائر. ثم صعد من صوتها وجه «هاملت» ممتقعا بالغضب حين أحس بجسد «بولونيوس» يتلصص من خلف الستائر في مقابلته الأخيرة مع أمه. امتشق سيفه وسدده عبر الستائر مخترقا لعنة "بولونيوس".

شهق الوزير، رفع رأسه إلى كوة في الأعلى. رأى الكرة الفولاذية تتقد، أحس بغثيان اللحظة المظلمة، وتداعي جسده للسقوط.

ر

ها قد وقفت ليلى. انتقل الجرح من بين ساقيها إلى أعلى. نظرت في عيوننا التي استقرت بين طرقات المحكمة. وجلس الحاكم العسكري قاضيا والتأمت حوله أجساد الهيئة المتقاضية.

كانت قبضة ليلى ما تزال متشنجة. قلنا لها في صمت: «أطلقي سراح كفك، ودعي الزر يسقط لتنتهي هذه المهزلة».

كانت التلاوة البلاغية الرهيبة للادعاء تضع أعناقنا تحت المقصلة.. «هيا يا ليلى.. اطلقي سراح القبضة ودعينا نتخلص من زعانف الترقب!».

وضعوا على طاولة صغيرة أزرارنا، لكن ليلى نظرت في عيني القاضي وتقدمت ونظرت تجحظ وخطت أيضا تتأمل بدلته الداكنة المتوحشة بالشارات الملونة، وأزرارها الفضية الملتمعة. اشتدت حرارة الفولاذ. سرت فيه شروخ لافحة، وارتعدت تلك السيوف المشتبكة خلف الظهر.

كانت شهرزاد تقاوم وتحكي. ندب الحكاية اخترق الوجه، لاح فيه ضوء اللفحة المتهبة.. طرقات جديدة .. انفجر المعدن شظايا وتفجر شعاع الشمس يخترق كل الازدحامات المظلمة. فتحت ليلى كفها. وتطاولت أعناقها إلى الزر .. فضيا ملتمعا كان ..!! انتصب الجميع وامتدت أعناقهم إلى القطعة الفولاذية الصغيرة. لكن ليلى تقدمت نحو القاضي خطوة أخرى حتى كادت تصطدم به، وأطلقت للمرة الأولى صوتها: «هذا الرز ينقص بدلتك يا سيدي».

 

موقع اتحاد كتاب المغرب

  Copyright © 2001 unecma. net